بين إسلام الإنسانية وإسلام التكفير, محمد باقر الحكيم, سيد قطب- طرفا نقيض !

د.محمد أبو النواعير*
ما إن انتهى القرن التاسع عشر, ودخول التأريخ على أعتاب القرن العشرين, حتى بدأ الفكر البشري يتفتق عن رؤى ونظريات متعددة, بعضها كان إصلاحيا لدرجة أنه غيّر بنية العقل الإنساني (تغيّر أدوات التفكير المادية والأيديولوجية), وبعضها قاد إلى حروب ومفاسد ودمار لم يشهد لها التأريخ مثيلا؛ ومن بين هذه التغيّرات التي مثلت حالة الغليان الفكري, والتغيّر الحداثي, برزت قوى الإسلام لتخوض غمار الإقتتال من أجل النهوض أو البقاء!
لم تكن النهضة الإسلامية التي بدأت بوادرها في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لتذهب بعيدا عن محيط اعتمد على دعامتين, الأولى: هي دعامة التأييد المذهبي, أي الإنفتاق النهضوي الإسلامي عبر منهج مذهبي معين يمثله صاحب مشروع النهضة؛ الثانية: كانت تمثل حالة صراع مع موجات الحداثة المدمرة التي حاولت أن تكتسح بأدوات تغيير قاسية, كل الوجودات الثقافية والأخلاقية والإجتماعية, إضافة للعلمية؛ وغالبا ما كانت حالة الصراع تحاول التمظهر بإيقونات دينية مغفلة بتراث الماضي, كي تتمرس خلف هذا الغلاف, وتجد لنفسها المشروعية للبقاء والاستمرار أمام جماهيرها.
يُمثّل مشروع سيد قطب (المصري), إنقلابا واضحا وصارخا ضد موجات الحداثة, وفي نفس الوقت مَثّلَ صرخة مذهبية تعصبية عارمة, تحاول في حقيقتها تدعيم أسس التسنن الذي بُني على أطروحة ونظرية (عدالة الصحابة) المحيطين بالرسول الأكرم ص! فانطلق من هذه الركيزة في نظرية مهمة قلبت كيان العالم الإسلامي رأسا على عقب, محاولا من خلالها إعادة الهوية الإسلامية التي كان يرى أنها ضائعة!
اعتمدت نظرية سيد قطب على مبدأ (الحاكمية لله), وهو لم يحدد ماهية هذه الحاكمية, ولا أسسها, ولا أمثلة انطباقها, بل حاول أن يؤطر لها بأدوات إيضاح من خلال ربط الحاكمية بإيجاد مفهوم الطليعة الشبابية المؤمنة! هذه الطليعة التي تأسست عليها نظرية قطب, والتي كان يريد من خلالها إيجاد نفس العينة من الصحابة الذين كانوا حول النبي ص, من من خلال اعتقاده بان هؤلاء الصحابة كانوا يمثلون الحالة الإسلامية بأرقى وأنقى صورها الدينية والروحية والإلهية!
قسم قطب المجتمعات إلى انواع وأصناف, فكان يرى أن المجتمعات الخارجة عن الإسلام, والمجتمعات المسلمة الضعيفة في التزامها الديني, هي مجتمعات كافرة, يجب محاولة إصلاحها, وإن فشلت هذه المحاولات, يجب قتلها وتصفيتها ليبقى الدين خالصا لله! لأنه كان يعتقد أن كل ما حولنا هو جاهلية: تصورات الناس, عقائدهم, عاداتهم تقاليدهم, موارد ثقافتهم فنونهم, آدابهم, شرائعهم قوانينهم؛ حتى الثقافة والمراجع والفلسفة الإسلامية والتفكير الإسلامي, تمثل موارد انحراف عن الشريعة الإسلامية بنظر قطب. وقد أوكل مهمة إصلاح هذه المجتمعات (الكافرة) إلى تلك الطليعة المؤمنة التي تمثل لديه درجة عالية من العصمة! والانقلاب على الواقع!
سيد قطب إذن, كان يريد أن يوجد طليعة شبابية تنقلب بين ليلة وضحاها, على نفسها وذاتها وعاداتها وتقاليدها وبنيتها النفسية والإجتماعية والتربوية, وتنقلب على وعيها وخزين لاوعيها, وتنسلخ من كل ذلك, لتتحول إلى ما أسماه حالة الإسلام الصافي أو النقي! وهذا أمر يستحيل حصوله بحسب نظريات علم النفس وعلم النفس الإجتماعي. كما أنه كان يريد أن يطرح إسلاما لا يؤمن بمنطقة رمادية, بل اسلام حدي, إما الخضوع, أو التكفير وبعده القتل! وهذا المشروع يمثل أقصى حالات الإنحراف عن سماحة الإسلام ووسطيته وقابليته لإحتواء كل المختلفين.
إذا أردنا أن نأخذ مشروع السيد محمد باقر الحكيم (شهيد المحراب), ونحاول إدخاله ضمن مناهج المقارنة مع مشروع قطب, سنجد أن هناك بونا شاسعا بين المشروعين.
مشروع شهيد المحراب تأسس على عدة مناهج وأعمدة ومعطيات, تختلف في جزئها الأكبر عن مشروع قطب؛ فقد انطلق الحكيم أولا من كون الأمة الإسلامية أمة تحتاج لمقومات النهوض, وهي تفتقد لهذه المقومات لا لعيب فيها, بل لأنها ترزح دوما تحت سيطرة قوى الظلام والإستبداد والدكتاتوريات, لذا بدأ مشروع الحكيم من مفهوم مقاومة الحاكم الظالم والمستبد, لأنه سبب دمار الأمة وخذلانها وانهيارها, وهنا يختلف عن قطب الذي جعل من الأمة سببا في الإنهيار, بينما الحكيم يعتقد أنها سببا للنهوض.
وقد انطبع هذا المنهج على أغلب تفاصيل مشروع شهيد المحراب, فقد أقام مشروعه منطلقا من تأكيده على ضرورة وجود مقومات ثلاثة مهمة تمكن أي أمة من النهوض, أو توفر سبل إستمرار الإسلام ومستويات التدين الصحية, المقومات الثلاثة انطلق بها من حالة تطبيقية (جزئية = العراق) كان يعيشها, وبالإمكان إيجاد موارد تطبيقها في كل مجتمع, لتشابه بُنى المجتمعات الإسلامية بشكلها العام : الأولى هي الجماعة الصالحة, والجماعة الصالحة في نظر السيد الحكيم لم تكن كطلائع سيد قطب, لأن الجماعة الصالحة كان دورها يمثل دورا وسيطيّاً (دينيا تثقيفيا- أي لم يشر الحكيم لدور قتالي أو تكفيري لهذه الجماعة, إلا ما كان يتعلق بمحاربة الطواغيت والظلمة) ما بين المقومين الآخرين, وهما المرجعية الدينية- حيث ان مشروع السيد الحكيم كان يؤمن بضرورة أن يكون لرجل الدين دورا توجيهيّاً حكيما, في إصلاح ونهوض الأمة الاسلامية- وبين الجماعات البشرية المكونة للمجتمع.
هذه الجماعات البشرية جعلها الحكيم على نمطين (اجتماعي- روحي) وهما : العشائر العراقية (وهنا العشائر تمثل تكتل اجتماعي مسلم متراص ومتماسك, ويمكن إيجاد أنماط مشابهة له في أي مجتمع مسلم آخر), والشعائر الحسينية (كمنظومة طقوسية دينية روحية تأريخية, تشد المجتمع وترص صفوفه وتخرجه من اختلافاته وتشتتاته الحياتية اليومية).
كان شهيد المحراب يؤمن إيمانا جازما, بأن الإنسان هو مشروع إلهي يحتاج إلى الكثير من التربية والصقل حتى يصل لحالة الإسلام الصحيح, لذا كان يتعاطى مع كل المجتمعات البشرية (حتى غير المسلمة منها) بإعتبارهم أساس لعملية قيام نهضة وإصلاح, ويؤمن إيمانا راسخا بإنسانية الأمم, وبإمكان الحالة الإسلامية أن تحتوي كل الشعوب المسلمة وغير المسلمة, طالما أن الإسلام يستطيع أن يوصل المجتمعات الإنسانية, إلى حالة صلاح, يمكن لها أن تتجلى في العمل الاجتماعي, والمشاركة في إدارة العلاقة بين الحاكم والرعية، والإمام والأمة، وفي القرارات المصيرية ومساهمتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
خلافا لسيد قطب, استقى الحكيم من تراث الإسلام ونهج الرسول الأعظم ص وأهل بيته في تعاطيهم مع الشأن السياسي, أسسا للتسامح المبني على تحفيز حالة التفكير والوعي لدى الأمة, لذا كان الحكيم يؤكد دائما بأن النبي ص لم يتخذ أي عمل قمعي ضد مناوئيه، وذلك لعدم وجود قرار في النظرية الإسلامية يعتمد أسلوب القمع لأي عمل سياسي مخالف، لمجرد أنه عمل سياسي، مادام المسلم يرفع شعار: (لا اله إلا الله، محمد رسول الله)، وكان الحكيم يؤمن بأن للفرد المسلم حرية التحرك من الناحية السياسية ما لم يرفع سيفا، ويستخدم القوة مقابل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لو كان هذا العمل حراما ومدانا من الناحية الشرعية، ومخالفا لطاعة الله وطاعة لرسوله. ولم يكن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلا مجسدا لهذا الأمر أيضا في أيام خلافته، فقد كان يعرف الحركات السياسية المضادة، ولكنه لم يستخدم العنف ضدهم، إلا حينما رفعوا السيف في وجهه، كالخوارج مثلا.
بناء المجتمع الحديث يحتاج لروح التسامح, لأنها هي الوحيدة التي ستشكل قوة تتمكن من مسك المجتمعات وتقويها وتثبت هويتها, وما بين منهج سيد قطب ومنهج السيد الحكيم, نجد اختلافا واضحا لمفهوم الإسلام ببعده المتسامح الذي يريد النهوض والقيامة بشكل فعلي, فنظرية سيد قطب كانت نظرية انغلاق كامل مدعم بأدوات التكفير والإقصاء؛ بينما نظرية شهيد المحراب مثلت حالة احترام للإنسان بكل أشكاله.
*دتوراه في النظرية السياسية- المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here