شجرة الصفصاف والاساطورة السومرية !

(*) د. رضا العطار

تقول الاسطورة السومرية ان شجرة الصفصاف مقدسة، كانت تنمو على ضفاف نهر الفرات، ثم اقتلعتها رياح الجنوب ذات يوم، وحملتها مياه الفيضان. وحينها كانت الألهة (أنانا) تسير على مقربة منها، حملتها الى مدينتها اورك (الوركاء)، وهناك زرعتها في حديقتها واولتها عنايتها لتصنع من خشبها بعد ان تكبر سريرا. وبعد ان نمت الشجرة سكنتها افعى خبيثة، وبنى طائر الزو على اغصانها عشا، وحلً فيها الشيطان. إلا ان كلكامش تمكن من تطهيرها من هذه الافات، فصنعت له أنانا من خشب هذه الصفصافة آلتين موسيقيتين، سمت الاولى باكو، والثانية ماكو.

وكان الصفصاف يستعمل في الحضارة السومرية في التعاويذ. وقد جاء في احدى هذه التعاويذ :
(إذا جاءت شجرة الصفصاف من حقل وسط المدينة).
وفي تعويذة اخرى (وبفضل اغصان الصفصاف عسى ان ينهضوا).
كان الصفصاف الابيض يستعمل عند المرأة وقت الحيض كمطهًر، ولأغراض علاجية اخرى.

وفي رسالة الغفران إشارة الى منزلة الصفصاف في الجنة. (فلما صرت الى باب الجنة، قال رضوان : هل معك جواز ؟ فقلت لا. فقال لاسبيل لك الى الدخول. فدهشت، فقلت اعطني ورقة من هذه الصفصافة حتى اتمكن من الدخول، فقال : لا اخرج شيئا من الجنة إلا بأذن العليً الأعلى، هذا ما جاء في الغفران.

وكانت Helice (اي الصفصاف) اسم الشهر الخامس عند اليونانيين، وهو ايضا اسم نهرهم المقدس، وكانت اوراقه تستعمل في اعمال السحر. والاسطورة اليونانية تقول : ان Ion هو اب اليونانيين، – وعلى اسمه جاء اسم اليونان، بعد ان تزوجت هليكة (الصفصافة)، ومن نسلها تحدرت الطبقات الاربع لسكان أثينا :
الفلاحون والصناع والكهنة والجنود.

كانت الصفصافة عند الساميين شجرة مقدسة، تستنزل المطر وتقترن بالقمر.
يُدعى الصفصاف عند العرب شجر (الخلاف)، واصنافه كثيرة. يطلق على الصفصاف خليفو بالاكدية، وخلف بالكنعانية، وخيلافا في السريانية، وكالوبو بالسومرية. ويبدو ان معظم الاسماء الاوربية التي تقال للصفصاف، يرجع الى السومرية. وهذه الالفاظ كلها تذكرنا بمادة (هلً) السامية. بمعنى سطع. وبكلمتي (الهلال) و (الهالة) العربيتين، يرد ذكر لبنات (هاء، ل، ل) وقد يكون المقصود منه، القمر الساطع !

والعلاقة بين الصفصاف والماء معروفة، اما علاقة المار بالقمر، فمردها الى المد، وهو ارتفاع ماء البحر وامتداده الى البر. القمر يتم دورته في ثمانية وعشرين يوما، ولأن عدة ايام الحيض ثمانية وعشرين ايضا، فقد كان الرقم 28 مقدسا في المجتمعات القديمة التي كانت السيادة فيها للأم. ومن هنا اقترنت عبادة المرأة بعبادة القمر. كما كان يعتقد ان ميزة أماليد الصفصاف في الألتواء والانضفار اشارة الى الدورة الدموية للمرأة.
ومن الاسماء التي يظن ان لها صلة (بالصفصافة الام) : سلمى و سالم و سليم و وسلمان وسليمان. وهناك مادة (سلل) بالعبرية وتعني يُعلى. ولكن من معانيها ايضا ينوس و يتذبذب، مثل اغصان الصفصاف وسعف النخيل. التي تستعمل في صنع السلال، تقابلها السلًي بالعراقية الدارجة.

يضيف كاتب السطور قائلا : أثناء سفرتي السياحية الى ايران في تسعينيات القرن الماضي، تلهًفت لزيارة مرافقها الاثرية والثقافية، كان متحف ابن سينا في مدينة همدان من ضمنها. كان المظهر الخارجي لبناية المتحف يوحي بعمارة اسلامية دون زخارف. والقاعة الداخلية كانت على شكل دائري، وفي الجدران الزجاجية كانت عشرات النماذج من الاعشاب وجذور النباتات معروضة الى جانب اسمها وفوائدها الطبية، كان ورق الصفصاف من بينها، وقد كتب باللغتين الفارسية والانكليزية عبارة (يشفي امراض البرد) كان ذلك قبل اكثر من الف عام.
كان قطر صالة العرض نحو سبعة امتار وقد تُوًج وسطه بصخرة ضخمة، قرمزية اللون، كشاهدة قبر، جُلبت خصيصا من مدينة نيسابور، مسقط رأس ابن سينا، تخليدا لذكراه.

وبينما كنت متأملا ومسرورا بالانجازات الباهرة للانسان الشرقي في ماضي الزمان، استذكرت ايام صباي في الاربعينيات حينما كنت استحضر (السبع عرقات) في دارنا بكربلاء عن طريق عملية التقطير، (Distelation)، لأغصان شجر الصفصاف، كانت تجلب الينا من قبل فلاح البستان، اهيئه للمرحوم والدي الذي كان بدوره يمارس الطبابة عن طريق المعالجة بالاعشاب البريًة، يداوي بها مرضاه المصابين بامراض البرد.

وفي عام 1954 كنت احد طلاب كلية الطب لجامعة دوسلدورف في المانيا الغربية. وقد هيئت لنا الادارة سفرة استطلاعية الى مدينة ( ليفركوزن ) لزيارة معامل الادوية فيها. وقد دهشت عندما شاهدت هناك بان اقراص اسبرين باير المعروفة كانت تصنع من حامض الساليسيك المستخلص من اغصان الصفصاف.

* مقتبس من كتاب (جولة في اقاليم اللغة والاسطورة) لمؤلفه علي الشوك، مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here