ثقافة فن الحياة – التغيرات الحاصلة في مراحل العمر المختلفة !

(*) د. رضا العطار

نفهم من كلمة النمو عادة، معنى الأرتقاء لدى الانسان بدأ من مرحلة الطفولة الى مرحلة الصبا والشباب ثم الكهولة والشيخوخة والهرم اخيرا. ولكن قليل منا من يفكر في النمو بأعتباره ضرورة ملحّة خاصة لمن بلغ الخمسين, لأن هذه السن توهم البعض وقوف النمو وليس اطراده. على اننا نرى انواعا اخرى من النمو حتى بعد هذه السن. وهي انواع مألوفة وخاصة في النمو المالي عند الكثيرين من الناس فإن اكثر نموهم يبدأ بعد هذا السن وهم ينشطون اليه وكأنهم قد انتقلوا من الخمسين الى العشرين من جديد !

ان مثل هذا الشعور يبعث في الانسان القوة والاستبشار بالمستقبل ويحثّه على الاستطلاع والبحث والتنبه، وكثير من التجار الموفقين يبلغون التسعين لهذا السبب.
اي ان النجاح المالي قد زودهم بقوة نفسية كبيرة بعثت فيهم نشاط الجسم وتفائل النفس مع الاعتراف بقيمة النمو المالي في الحياة الاقتصادية التي يجب الاّ يقتصر عليه احد، لأن قليلا من الذكاء يوضح لنا انه ليس للنمو الجسمي وحده اثرا في النجاح.

الى جانب ذلك نرى ان بعض الماليين يجري نموهم المالي عفوا دون ان يحتاج الى اى مجهود ذهني او عضلي. وعندئذ يعودون عاطلين خائرين لا يطيقون خواء انفسهم او هم يعمدون الى ملئها بالملذات المبتذلة التي تبعث فيهم المسرّة الوقتية. ولهذا السبب يجب ان يكون نمونا مبرمجا و في جبهات متعددة و على المستويات الثلاثة اى الجسم والذهن والنفس حتى لا نسأم الحياة ونتخثر، بل يستحيل النمو الى نضج وايناع.

ونمو الجسم بعد الخمسين من الحاجات التي كثيرا ما ننساها لأننا نستكين الى الراحة ولأن المجتمع يطالبنا بوقار لا معنى له, يبدأ وينتهي بالدعوة الى الركود. فنحن ننام بعد الظهر ونتجنب اللعب والجري, فلا تمضي سنوات حتى تبدأ اجسامنا تسمن وتترهل وتضعف وتتدمر تدريجيا بنوع من الربا المركب الذي يزداد بأستمرار سنة بعد اخرى. ولذلك يجب ان نستقر على اليقين بأنه لا مفرّ للمسنين الا بممارسة الرياضة فإذا كانت الرياضة ضرورية للشبّان بأسلوب مخفف, الا انه اكثر ضرورة للمسنين.

اما النمو الذهني فيحتاج الى دراسة الكتاب والمجلة والجريدة. والرجل الذي بلغ الستين في حاجة كبيرة الى مداومة القراءة لأن اعظم ما يضايقه ويحزنه ان يجد نفسه عرضة للنسيان. ولكن مداومة القراءة تجعل الكلمات ماثلة في ذهنه فلا ينسى. ثم هو بالتوسع الذهني يعيش في الافاق الرحبة للثقافة فيجد اهتمامات سامية تشغله وتنشط جميع كفاياته.

أما النمو النفسي فأنه يجعل كل منا يرسم لنفسه خريطة خاصة بعالمه. وهذه الخريطة تتسع حتى تشمل مشكلات هذا الكوكب، فالرجل الذي يهتم بالارتقاء الاجتماعي في انكلترى او في كفاحه السياسي من اجل الديمقراطية لشعبه في العراق, او بالتغييرات الاقتصادية الجارية في روسيا، او بالنهضة الصناعية الجارية في الصين مثلا, يستمتع بحياته اكثر ويحيى على درجة اوسع واعمق من ذلك الذي لا تخرج اهتماماته الحياتية عن نطاق المطعم والمنام والمرحاض.

هذه هي المستويات الثلاثة التي يجب ان يتجه اليها نشاطنا بعد الخمسين, واكثرنا بل كلنا لا يهتم بالنشاط الرياضي اي بنشاط الجسم. لأن الرأي العام شرقي، متراخ يضع الوقار الزائف فوق الصحة الديناميكية ويكتفي غالبا بقراءة الجريدة اليومية لوكان حائزا على درجة كافية من التعليم ليجد فيها الاغراء في ملئ وقت الفراغ . علما ان الاهتمام النفسي يتبع في معظم الحالات الاهتمام الثقافي.

ونستطيع ان نضرب عشرات الامثال للمسنين الذين احتفظوا بشبابهم , فكان سلوكهم يدلّ على قوة حبهم للحياة وحرصهم على التمتع بمباهجها وقد افادوا مجتمعهم بوفرة انتاجهم. فهذا برنارد شو وهو في التسعين يمرح مرح الشباب في طراوة الجسم وتفتح الذهن والنفس وقد جعل من حياته فنّا واحال خطواتها من المشي الى الرقص. ونحن نبخسه حين نقول انه احتفظ بشبابه لان الواقع انه احتفظ بطفولته من نواح كثيرة اذ هو كان دائم الاستطلاع كثير اللعب, تتدفق النكات في حديثه، ينظر الى الدنيا على الدوام في ابتسامة حلوة. وهو يعالج الفلسفة كما يعالج القصة الغرامية. وقد انقطع عن طعام اللحم منذ الثلاثين من عمره فتوقى الشهوات الدنيوية كي ينصرف الى الشهوات العليا، ومع انه الّف كثيرا من الكتب التي تستحق الدراسة فإن اعظم مؤلفاته هو شخصيته التي بناها بل شيّدها, كما لو كانت تحفة فنّية.

يقول كاتب السطور : سررت كثيرا عندما سمعت شاعر العرب محمد مهدي الجواهري وهو في العقد التاسع من عمره يلقي قصائده حفظا عن قلب, كانت الكلمات تنساب من فمه كالشلال الهادر وكأنه شاب في ذروة الحيوية. بينما غيره من العراقيين الذين لم تبلغ اعمارهم نصف هذا القدر قد نسوا قصيدة الرصافي التي حفظوها في الأبتدائية. الى هذا الحد يكون للثقافة الذهنية الأثر الايجابي في ترويض الفكر وتحفيز الوعي وتنوير العقل.

• مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين للعلامة سلامة موسى
الحلقة التالية في الاسبوع القادم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here