الاصول التاريخية للنوروز عند الكُرد

أ.د. فرست مرعي

كلمة النوروز (= النيروز) مركبة من لفظين؛ أولهما “نِي” بكسر النون؛ أي الجديد، وثانيهما “روز”؛ أي اليوم، إذن فكلمة النيروز في اللغتين الفارسية والكردية تأتي بمعنى (اليوم الجديد).
وأما اصطلاحاً فهي عيد رأس السنة الفارسية (الإيرانية) والكردية الذي يقع في اليوم الأول من شهر فروردين (31 يوماً من 21/آذار – 20 نيسان)، وذلك عندما تكون الشمس في برج الحمل، وهو البرج الأول من البروج الاثني عشر في الفلك، حيث يتساوى الليل والنهار، وفي تلك الأيام تهب رياح الدبور الغرب، وفروردين في اللغة البهلوية هو فرفرتن FARVARTIN، وهي كلمة مأخوذة من الفارسية القديمة فرفرتينام FRVARTINAM، وهي على ما يبدو جمع مؤنث لكلمة فرفرتي FARVARTI في حالة الإضافة، وجمعها بمعنى الآلهة المطهرين. وفروردين أيضاً اسم ملاك من خزنة الجنة، ويختص بتدبير الأمور والمصالح التي تقع في هذا الشهر، كان الفرس يحتفلون ويعيدون بناء على القاعدة السائدة عندهم، وهي أنه من الواجب الاحتفال بكل يوم يحمل نفس اسم الشهر الذي يقع فيه، ومن الأمور الطيبة في هذا اليوم في اعتقادهم ارتداء الملابس الجديدة وزيارة قطعان الماشية والخيول. وفروردين اسم قسم من كتاب زرادشت الديني (= الآفستا- الآوستا)، ويسمى (فروردين يشت).
وهذا التقويم هو ما يعرف بالتقويم الجلالي؛ نسبة إلى جلال الدين ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي الذي اتخذه عام 472هـ/ 1079م، والفرق بينه وبين التقويم الفارسي القديم المعروف بتقويم يزدجرد (آخر ملك فارسي ساساني) أن أيام النسيء في التقويم الأخير تلحق بشهر”أبان” وهو الشهر الثامن من السنة الشمسية، وتكون فيه الشمس في برج العقرب (30 يوماً من 23 أكتوبر – 21 نوفمبر، ويقال له أيضاً: أبانماه)، وهو الشهر الثاني من شهور الخريف، واسم ملاك موكل بالماء وتدبير الأمور والمصالح في شهر أبان ويوم أبان.
ومهما يكن من أمر، فقد كان للدين المجوسي – الزرادشتي تأثير على مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للإيرانيين القدماء، فأعيادهم (= الكونهبارات) كان الباعث على اتخاذها في أغلب الأحوال دينياً؛ فإن لم يكن الأمر كذلك كانت الطقوس الدينية هي المظهر الغالب على هذه الأعياد، وقد استمرت المهرجانات بعيد النيروز تقام في إيران منذ نهايات العصر العباسي الاول، حيث كان التأثير الفارسي واضحاً في صبغ مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية، واستمرت بوتيرة متصاعدة في ايران في ( العصور الصفوية والأفشارية والزندية والقاجارية) وإلى التاريخ المعاصر، حيث بلغت ذروتها في أيام الشاه رضا بهلوي (1925 – 1941م)، ونجله الشاه محمد رضا بهلوي (1941 -1979م)، بتأثير ودعم المثقفين العنصريين الفرس الذين كانوا يحاولون إحياء الأعياد المجوسية (الزرادشتية)، وبعث التاريخ الإيراني القديم قبل الإسلام (الدولة الأخمينية والدولة الساسانية)، حيث تقرر منح العطلة الرسمية أسبوعاً كاملاً للدوائر الحكومية، إضافة إلى أسبوعين للمدارس والجامعات؛ بعكس عطلتي عيد الفطر والأضحى حيث خصص لكل منهما يوم واحد فقط، واستمرت الوتيرة في عهد الجمهورية الإسلامية الإيرانية على نفس السياق.
ويعد الشاعر الكردي بيره ميرد (1867 – 1950م) من أهالي مدينة السليمانية ، أول المساهمين في هذا التغيير، فضلاً عن إلمامه بهذه المناسبة سابقاً أثناء دراسته في أحد الكتاتيب عند الملا حسين طوجة في السليمانية، كان الأخير يطلب قبل حلول اليوم الأول من الربيع من طلبته إحضار عيدية نوروز، فكنا (بيره ميرد) نتوسل من أمهاتنا وآبائنا أن يلبوا مطلبنا، بعد أن كانوا يدخلون الفرح إلى قلوبنا نأخذ معنا ما كنا قد حصلنا عليه لنسلمه إلى الملا الذي كان يأخذ من الحصيلة نصيبه، ثم يصحبنا إلى جامع الشيخ عبدالرحمن الشيخ أبو بكر الذي كان معروفاً بجمال خطه، فكان يكتب لنا “نوروز نامه “، ونبدأ بقراءته وحفظه، ثم يعطي الملا أمره بتعطيل الدراسة بمناسبة نوروز حيث نقضي نهارنا خارج المدينة بالألعاب الشعبية، ونعود قبيل الغروب لنغني “نوروزنامه”، ونحن نتجول في أزقة المدينة، هذا ما حصل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في مدينة السليمانية
ومع هذا، فإن ظاهرة المد القومي التي اجتاحت المنطقة في بداية القرن العشرين حملت بعض القوميين الكرد على إضفاء طابع قومي وسياسي على عيد النيروز، وجعله عيداً قومياً للشعب الكردي، باعتباره أحد شعوب المنظومة الآرية ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين، خصوصاً بعد أن تولى الشاه رضا بهلوي مقاليد الحكم في إيران اعتباراً من عام 1925م، حيث حاول بعث العنصر الآري من جديد في الهضبة الإيرانية، بعد أن تولى الترك (الصفويون والافشاريون والقاجاريون) مقاليد الحكم لقرون عديدة في إيران ابتداءً من عام 1502 حتى 1925م؛ لذلك تم الطلب من القنصلية الإيرانية في مدينة السليمانية (شرق كردستان العراق على مقربة من الحدود الإيرانية) بإحياء هذه الطقوس في نفوس الشعب الكردي باعتباره جزءاً من المنظومة الآرية (الهندو إيرانية)، عن طريق الدعم المادي المتمثل في الملابس الكردية وغيرها من مستلزمات الاحتفال، والمعنوي عن طريق نشر الكتب والمنشورات التي تمجد هذه المناسبة، خاصة بعد ظهور بعض المجلات الصادرة باللغة الكردية في محافظة السليمانية، أمثال: كلافيز، وزين، وغيرهما.
لذلك بدأ الشاعر الكردي بيره ميرد يحتفل في بداية عقد الثلاثينيات من القرن العشرين من كل عام في عصر اليوم الذي يسبق النيروز (20 آذار) على تلة (مامه ياره) شرق مدينة السليمانية بإشعال النار وإعطائها بُعداً قومياً.
وهكذا أصبح اسم بيره ميرد مقترناً بنوروز، إذ اعتاد على إقامة ذلك الاحتفال سنوياً حتى مماته؛ إلا في السنوات التي كانت السلطات الملكية تمنع إقامة احتفال نوروز، فقد كان هناك متصرفون (محافظون) من العرب والتركمان يعتبرون إقامة حفل نوروز تظاهرة ضد السلطة، أو يتهمون القائمين به بإحياء المجوسية وغيرها من الاتهامات، وقد برز في هذا المجال: الحاج رمضان باشا الموصلي، ومجيد يعقوب الكركوكي، فيما كان هناك متصرفون آخرون غالبيتهم من الكُرد يشجعون الشاعر على إقامة الاحتفالات ويدعمونه مادياً ومعنوياً أيضاً منهم: صالح زكي صاحبقران، بهاء الدين نوري، معروف جياووك، الشيخ مصطفى القره داغي، وآخرون.

ففي شهر آذار عام 1944م قدم بعض الطلبة الكرد في بغداد طلباً الى وزارة الداخلية العراقية للسماح لهم باقامة احتفال بمناسبة نوروز، وفعلاً جرى الاحتفال في دار (برهان حامد الجاف) في محلة النص في الاعظمية ، لم يحضره من المسؤولين الحكوميين سوى (سعيد القزاز) معاون مدير عام الداخلية.
وفي شهر اذار1945م قد الطلاب الكرد طلباً رسميا الى وزارة الداخلية للاحتفال بنوروز، وفعلاً جرى احتفال كبير في قاعة الملك فيصل(= قاعة الشعب حالياً) حضره رئيس الوزراء (حمدي الباججي) وسبعة وزراء بضمنهم اثنان من الوزراء الكرد(عمر نظمي) نائب رئيس الوزراء، و(توفيق وهبي) وزير المعارف، بالاضافة الى الكثير من العوائل الكردية في بغداد، وكان الحفل مهيباً، وقدم عريف الحفل ( مكرم الطالباني) الذي اصبح وزيرا فيما بعد في حكومة البعث في السبعينات، كلمة استهلها بالحديث عن هذه المناسبة العزيزة، وانتقد الجهات التي تحاول تفسيرها تفسيراً خاطئاً. وبعدها اصبح الاحتفال بهذه المناسبة في السنوات المقبلة تقليداً يحتفل به الكرد في بغداد ومشاركة المسؤولين في الدولة في أكثر الاحيان.

ولأول مرة في كردستان م بادر طلبة ثانوية السليمانية بدعم الحزبين الديمقراطي الكردي (الكردستاني)، والشيوعي العراقي لإقامة حفل خطابي في قاعة المدرسةفي شهر آذار عام 1946م، حضره كبار الشعراء الكرد، منهم: بيره ميرد، فائق بيكه س، هاوري، شيخ سلام وآخرون، قرؤوا كلمات وقصائد نثراً وشعراً في الحفل، وفي الليل طاف الطلبة في شوارع المدينة يحملون المشاعل المضيئة ويهتفون بحياة الكرد وكردستان، وكان مدير الثانوية وديع فتح الله ميرزا يصاحب الطلبة حتى لا يصيبهم الأذى من قبل السلطات المحلية.
وفي السنوات التي كانت الأنظمة المتعاقبة تمنع إقامة حفل نوروز كان الشباب يكتبون بالنار على صدر جبل (كويزة) المطل على مدينة السليمانية من الشمال (نوروز)، و(عاشت كردستان).
وفي السياق نفسه نشر الكاتب الكردي آزاد عبدالحميد مقالة في مجلة (التربية الإسلامية) البغدادية في عددها الثاني عشر بتاريخ27 أيار/ مايو 1979م ، بعنوان (عيد نوروز… بدعة محدثة)، وقد تصدى له الكاتب إبراهيم باجلان بمقال نشر في جريدة “العراق” في عددها (1022) في 9/ 7/ 1979م موسوماً ب ( نوروز بين الحقائق والأباطيل)، مبيناً أن السيد آزاد: قد طرح جملة آراء وأفكار بعيدة عن روح نوروز وجوهره، فبدءاً من العنوان الذي يجرح مشاعر أبناء شعبنا الكُردي، ينبغي أن نعلم بأن مثل هذه الآراء تعطي مردوداً عكسياً، حيث يعتبر نوروز مفخرة من مفاخره القومية ومأثرة تاريخية في وجه الظلم والطغيان.
وقد أوضح إبراهيم باجلان بأن النوروز عيداً قومياً ولا يتعارض مع أعيادنا الوطنية والدينية، بل يلتقي مع المبادئ الخيرة في معاداة الشر والظلم ومناصرة المظلومين، بعكس ما نشرته الرجعية الكردية (الإسلاميون وعلماء الدين الإسلامي العاملون تحديداً) من أراجيف باطلة ومزاعم مغرضة، مدعية بأن عيد نوروز يمثل طقوساً مجوسية قديمة؛ لأن الكُرد يوقدون النيران في احتفالاتهم.
وكان من أبرز المنتقدين(الدكتورحسين قاسم العزيز)، وهو أكاديمي كردي شيعي ذو ميول ماركسية، أخذ شهادة الدكتوراه من الاتحاد السوفيتي، وحاول تدبيج بحث حول تاريخ النوروز عند الكرد، ونشره في مجلة (المجمع العلمي العراقي) التي كانت تصدر في بغداد عام 1980م.
ومن جانب آخر، فقد نشر كتَّاب كرد آخرون ردوداً أخرى على الأستاذ آزاد عبدالحميد، وهم أيضاً محسوبون على الاتجاه اليساري الذي كان سوقها رائجة في حقبة السبعينيات من القرن العشرين وما زال؛ غير أنهم تحولوا من الاتجاه اليساري والماركسي إلى الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، بعد نفوق تجارة الماركسية في الاتحاد السوفييتي السابق.
في بداية قيام الحركة الكردية بقيادة المرحوم الملا مصطفى البارزاني في شهرايلول 1961م بدأ كرد منطقة بهدينان بإشعال النيران فوق قمم الجبال العالية؛ تيمناً بمناسبة نوروز اعتباراً من ربيع عام 1962م.
وعندما تبدأ المفوضات بين الجانبين الحكومي العراقي والكردي، كانت قيادة الحركة الكردية تطلب من الحكومة العراقية الاعتراف ب(النوروز) كعيد قومي للشعب الكردي، وهذا ما حصل فعلاً في اتفاقية 11آذار 1970م.
ولكن بعد انتفاضة آذار 1991م التي قام بها الشيعة والكرد ضد نظام الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين، وصلت عطلة النوروز إلى أربعة في حكومة إقليم كردستان العراق للأيام (20 و21 و22 و آذار/23 مارس) من كل سنة، وحوالي أسبوعين لطلاب الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية والابتدائية؛ وكان مبرر النخبة الكردية القول: إذا كانت إيران تدعي الإسلام واسمها (جمهورية إيران الإسلامية)، وتحتفل بالنوروز، وعطلتها أطول من عطلتنا، ونحن أصحاب اتجاه قومي علماني؛ فلماذا لا نزيد من عطلتنا كي تضاهي عدد أيام العطلة في إيران الإسلامية، ونحن مثلهم أمة تنتمي إلى الأمة الآرية – الهندو الايرانية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here