د. بارق شُبَّر * : هل اصبح خلط المفاهيم الاقتصادية وتشويهها من مسلمات الخطاب الاقتصادي الشعبوي في العراق؟

في اعقاب اسقاط النظام الشمولي في نيسان 2003 واعلان نهاية النظام الاقتصادي الموجه مركزيا (رأسمالية الدولة الرثة) مع الاعلان عن تبني اقتصاد السوق الحر، تصاعدت الآمال ببدء مرحلة جديدة لإعادة بناء الاقتصاد المخرب منهجيا على مدى العقدين السابقين، واستقطاب الكفاءات والعقول العلمية التي تم تهجيرها قسريا الى الخارج على مدى العقود سابقة، من اجل اشراكها في اعادة الاعمار. وسرعان ما تبددت هذا الآمال وتلاشى التفاؤل بنهوض الاقتصاد العراقي من كبوته الطويلة، فظهرت على الساحة مجاميع من سياسيي الصدفة والكفاءات الزائفة مستغلة الفراغ الكبير الذي احدثه غياب العقول العراقية وبالتحديد العقول الاقتصادية الوطنية لترويج اجنداتها النفعية، ان كانت فردية او فئوية، بطرق شعبوية.
الخبر الجيد والمفرح هو زيادة الاهتمام والوعي لدى النخب والمواطن العراقي بدور علم الاقتصاد في توفير الادوات السياسية من اجل تحسين الحياة المعيشية وتحقيق التنمية المستدامة. ومن جانب آخر وفي ظل غياب الثقافة الاقتصادية لدى شرائح واسعة من المجتمع العراقي بما في ذلك الاعلام والنخب الثقافية، لجأت المجاميع المشار اليها سابقا ومعها الاعلام غير المتخصص الى خطاب الاقتصاد الشعبوي وخلط الاوراق بقصد التشويه المتعمد للمفاهيم الاقتصادية العلمية لتسبب ارباكا في اوساط الرأي العام. الامثلة كثيرة على ذلك وسيتم دراستها في بحث مستفيض في المستقبل القريب. ومع ذلك اشير وبعجالة الى بعض مفردات الخطاب الاقتصادي الشعبوي وخلط المفاهيم الاقتصادية كالآتي.
في بداية التغيير ظهر على الساحة مفهوم المظلومية لتبرير الحصول على موقع ومميزات في الدولة أو مورد منها كبديل للدخل مقابل العمل وفق مبدأ الاداء الانتاجي المتعارف عليه في علم الاقتصاد. هذه التوجهات رسخت الميول الريعية المتواجدة اصلاً في المجتمع العراقي كترسبات موروثة من الثقافة البدوية واسست لمجتمع ريعي متلازم مع الاقتصاد الريعي والذي ترجع بداياته الى منتصف خمسينيات القرن الماضي.
وفي نفس الاتجاه ظهرت اصوات من بعض السياسيين تطالب بتوزيع الريع النفطي على المواطنين بشكل نقدي ومباشر وبحجة ان النفط والغاز ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات كما ورد ذلك في المادة .111.من الدستور. وبالتوازي مع هذه التوجهات الريعية تصاعدت التصريحات الاعلامية غير المسؤولة من قبل العديد من السياسين واعضاء مجلس النواب والمتطفلين على علم الاقتصاد بشأن القضايا والمشاكل الاقتصادية الراهنة مُدَّعين تقديم الحلول لها، ولكنهم في واقع الحال يفتقدون الى فهم معادلات الاقتصاد الكلي وقوانين النمو الاقتصادي وتعظيم الدخول كشرط اساسي لتحقيق الرفاهية الاقتصادية ورفع مستويات المعيشة للمواطنين. الكثير منهم يخلطون، على سبيل المثال، بين مفهوم الاستثمار الذي يفترض ان يولد فرص عمل جديدة وبين التعاقد مع مقاوليين لتنفيذ مشاريع حكومية خدمية (مشروع بسماية السكني وعقود الخدمة النفطية) والتي تكون آثارها على ترابط القطاعات الاقتصادية محدودة وخصوصا عندما يتم التجهيز من خارج العراق. وهذا ينطبق على معظم المشاريع التي تم تنفيذها لحد الان.

وكثيرا مايتم الخلط من قبل باحثين اقتصاديين واعلاميين بين ايرادات ونفقات الموازنة العامة المخططة والفعلية. من ناحية اخرى، نلاحظ اصرار المعارضين لنظام جباية رسوم الكهرباء الحديث، ومن بينهم اعضاء في مجلس النواب وفي مجالس المحافظات وأكاديميين على تشويه اهداف ومعالم هذا النظام من خلال وصمه بمفردة “الخصخصة” لما تعني هذه المفردة من مضامين سلبية في الشارع العراقي في ظل غياب الثقافة الاقتصادية لدى المواطنين. ولايزال الشعبويون يروجون بأن الخصخصة تعني تلقائيا فقدان الوظيفة الحكومية المضمونة طول الحياة. وفي واقع الحال فإن عقود الجباية مع شركات القطاع الخاص لاتعني بالمطلق خصخصة لانها لم تمس بملكية الدولة لشبكات التوزيع ولم تعطي للشركات المتعاقدة الاستقلالية في شراء الكهرباء من المولدين (في حالة العراق من وزارة الكهرباء) وبيعه للمواطنين باسعار كيفية كما يفعل اصحاب المولادات الخاصة. علم الاقتصاد طرح قبل حوالي ثلاثين عاماً اداة حديثة تهدف الى رفع الكفاءة الانتاجية في قطاع الخدمات العامة وتقلل من الأعباء الادارية والروتين البيروقراطي في اجهزة الحكومة التنفيذية سميت بالتعهيد، أو الاستعانة بمصادر خارجية وطنية أو أجنبية (Outsourcing) لكن عدداً قليلاً من الاقتصاديين الدوليين أطلق على هذه الاداة تسمية “خصخصة الادارة” (Privatising Management) أي تكليف شركات خاصة بتقديم خدمات معينة للمواطنين مقابل اجر معين. واعتمدت هذه الآلية قبل ثلاثة عقود في العديد من الدول المتقدمة وبعض دول المنطقة ايضا وكذلك تم اعتمادها من الكثير من شركات القطاع الخاص. فعلى سبيل المثال، تستغني شركة معينة عن الدائرة القانونية لديها وتتعاقد مع مكتب قانوني متخصص للحصول على استشارات قانونية حسب الحاجة مما يوفر عليها تكاليف كبيرة.
ومن الغريب في موضوع الجباية هو ان معارضي هذا النظام الجديد يدَّعون الدفاع عن المواطن الفقير ولكنهم يسكتون عن استغلال اصحاب المولادت الخاصة للمواطنين وعن اربحاهم الخيالية التي يقدرها المتحدث بأسم وزارة الكهرباء د. مصعب المدرس بحوالي 10 مليار دولار سنويا، وهذا المبلغ يعادل الكلف التي تتحملها الدولة سنويا لإنتاج الطاقة الكهربائية، ولا تتمكن وزارة الكهرباء ولاسباب عديدة منها الترهل والفساد من جباية أكثر من 1 مليار دولار سنويا. ويلعب الركوب المجاني free-riding، أي التجاوز على منظومة الكهرباء وبنسب عالية جداً تصل الى 50%، الدور الحاسم في خسائر وزارة الكهرباء وهدر المال العام. المحرضون على الركوب المجاني بحجة الدفاع عن الفقراء المظلومين يدَّعون وجود وفرة مالية لدى الدولة منكرين كل الحقائق الاقتصادية على الارض واولها انهيار اسعار النفط وتراجع عائدات خزينة الدولة الى أكثر من نصف مستوى بداية عام 2014 ويقولون ان الشحة المالية مفتعلة. وهذا يذكرني بالخطاب الشعبوي للرئيس الامريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية وطروحاته الناكرة للأرقام والوقائع على الارض التي يوصفها مزورة fake واعلانه عمّا يسمى بالحقائق البديلة والتي تدور في مخياله فقط ولا يستطيع اي أحد التأكد من صحتها.
لا استغرب من المواطن البسيط عندما تختلط عليه الامور والمفاهيم الاقتصادية، ولكني استغرب جداً من ان يتم ذلك من بعض الأكاديميين وبعض اعضاء مجلس النواب. فقد ظهر اخيرا على شاشة قناة الفضائية “الحرة عراق” المستشار القانوني لرئيس الجمهورية ليدافع عن رفض السيد معصوم لقانون الموازنة العامة لسنة 2018. ومن بين الاخطاء التي شخَّصها، ويبلغ عددها فوق الثلاثين خطأً، ذكر ان نص قانون الموازنة يخلط بين الضريبة والرسوم والغرامات. ومن المؤسف ان يتم هذا الخلط ايضا من بعض الزملاء الاقتصاديين.
نشرت جريد العالم البغدادية في عددها رقم 1926 الصادر في يوم الخميس 15 آذار 2018 مقالاً بعنوان ” الضريبة الجمركية التي يتحسر عليها مستشار الحكومة” لكاتب وصف نفسه، او ان الجريدة وصفته، بأنه استاذ في الاقتصاد. يريد الكاتب من مقاله نقد اطروحات مستشار رئيس الوزراء المالي الدكتور مظهر محمد صالح بصدد ضعف ايرادات الموازنة العامة من جباية الرسوم الجمركية. لا اعتراض على حق كل باحث وكاتب في النقد الموضوعي لافكار واطروحات الزميل د. مظهر، ولكن كاتب المقال، الاستاذ في الاقتصاد، لم يلتزم بالمعايير المهنية للحوار والنقد الموضوعي، وحوَّل مقاله الى استهجان بشخصية الدكتور مظهر وخبراته الاقتصادية المهنية الطويلة التي تمتد الى أكثر من اربعة عقود.
تتضمن المقالة موضوع البحث اخطاء مهنية فادحة ومغالطات واضحة للعيان. أول هذه الاخطاء هو الخلط بين الضريبة والرسوم الجمركية واستخدامه لمفردة غير علمية وهي “الضريبة الكمركية” والتي لا وجود لها في القواميس الاقتصادية وانما يوجد مفهوم “التعرفة الجمركية” وكان الاقتصادي الالماني فريدريش ليست Friedrich List (1789-1846) قد وضع الاسس النظرية العلمية لها في القرن التاسع عشر.
يقول أستاذ الاقتصاد في بداية مقاله:
“قبل أيام أطلق المستشار المالي لرئيس الوزراء حسرات على ضياع فرصة جمع ما يقارب مليارين ونصف مليار دولار لو كانت الحكومة فرضت ضريبة جمركية على السلع والبضائع المستوردة.”
من الواضح ان كاتب المقال يحاول بهذه المغالطة الواضحة دق إسفين بين الحكومة ومستشارها المالي د. مظهر محمد صالح وذلك من خلال الإيحاء بأن الحكومة لم تفرض بعد رسوم جمركية والمستشار يحاول اقناعها لفعل ذلك. هذه مغالطة كبيرة ومنافية للحقيقة المعروفة للجميع وهي ان الحكومة رفعت مشروع قانون التعرفة الكمركية الى مجلس النواب في عام 2010 وتم تشريعه في نفس السنة ولكن ضغوطات لوبي تجار الاستيراد فرضت على الكتل السياسية في مجلس النواب تعديل القانون مرتين بهدف تـأجيل موعد تنفيذه بحجج واهية منها تلافي ارتفاع اسعار السلع المستوردة ومخاطر التضخم. (انظر موقع مجلس النواب)
لم يكن المستشار المالي للحكومة لوحده الذي يطلق الحسرات على ضياع المليارات من الايرادات الكمركية المحتملة الى خزينة الدولة وانما معه مجموعة كبيرة من الاقتصاديين الحريصين على توازن وديمومة المالية العامة، فضلا عن المنتجين المحليين المتضريرين من إغراق السوق العراقية بالسلع المستوردة الرخيصة والرديئة، وبذلك أصبح هذا الموضوع قضية رأي عام تشكل ضغوطا على مجلس النواب والحكومة لتفعيل قانون التعرفة الجمركية.
كتب استاذ علم الاقتصاد في جامعة بغداد السابق والمدير العام في البنك المركزي د. محمود الداغر في آب 2017 مقالاً علمياً رصيناً في شبكة الاقتصاديين العراقيين بعنوان “حلول سهلة أم بناء دولة” وناقش فيه ادارة المالية العامة في ظل الظروف الصعبة خلال السنوات 2015 و2016 من انهيار اسعار النفط وتأثيرها على المالية العامة وتكاليف الحرب على داعش الباهضة. أشار وبحق الى عدم تناسب ايرادات الدولة من الرسوم الجمركية مع حجم الاستيرادات من السلع.
وفق بيانات وزارة التخطيط بلغت قيمة استيرادات السلع غير النفطية في عام 2016 حوالي 55 ترليون دولار. واذا افترضنا تحصيل نسبة 10% كتعرفة جمركية بدلاً من نسبة 20% المثبتة في قانون التعرفة الكمركية لسنة 2010 فيفترض ان يكون ايراد الدولة من الرسوم الكمركية 5.5 ترليون دينار في هذه السنة. ولكن ما تحقق فعلاً من هذا المورد في السنة ذاتها هو 657 مليار دينار فقط حسب بيان هيئة الكمارك الوطنية، مما يمثل نسبة 1.2% فقط من قيمة الاستيرادات واقل من 12% من الايرادات الممكن تحقيقها وفق تقديراتي المتحفظة. ثم تبشرنا الهيئة بارتفاع الايرادات الكمركية في عام 2017 الى 1.26 ترليون دينار أي قرابة 1 مليار دولار. أي ما يمثل 2.5% من قيمة الاستيرادات السلعية غير النفطية والتي أقدر انخفاض قيمتها الى حوالي 50 ترليون دينار في عام 2017 وهو نصف المبلغ الذي يمكن تحقيقه وفق قرار بريمر في عام 2004 لفرض تعرفة جمركية بنسبة 5% لاعمار العراق والتي واجهت انقادات لاذعة من معظم العراقيين عدا تجار الاستيراد طبعاً.
المغالطة المهنية الثانية، هي الادعاء بأن فرض الرسوم الجمركية والتي يسميها كاتب المقال (ضريبة جمركية) “تنطوي اصلاً على ازدواج ضريبي حيث ان الفرد سيدفع الضريبة للحكومة مرتين: مرة على دخله ومرة أخرى عندما يشتري البضاعة المفروضة عليها الضريبة الجمركية.” وهذا يمثل سوء استخدام واضح لمفهوم الازدواج الضريبي كما اكد لي أستاذ الاقتصاد د. جعفر باقر علوش الذي اطلع على المقال موضوع البحث وكتب لي انه يعني ببساطة ان يتم فرض ضريبة مرتين على نفس الوعاء ونفس المناسبة ذاتها…لأن الضريبة يتم فرضها بمناسبة معينة مثل حصول الدخل او انتقال الملكية او الإرث وما شابه.. اما الرسوم الجمركية فتدفع على البضاعة المستوردة لا تشكل محاسبيا او قانونيا أي رابط مع الضريبة (مداخلة في منتدى مال واقتصاد النخبة الاقتصادية بتاريخ 16/3/2018)
والمغالطة الثالثة، هي الادعاء بأن جباية الرسوم الجمركية بشكل عام ومبدأي سوف تؤدي تلقائيا الى رفع مستوى التضخم. هذا غير صحيح لأن المستورد في نظام السوق مع وجود منافسة مع المستوردين الاخرين ليس بمقدوره نقل كلفة التعرفة الكمركية وانما جزء منها في احسن الاحول الى المستهلك. في واقع الحال فإن المستوردين الكبار، ومن بينهم مستوردي الادوية، يتهربون من دفع الرسوم الجمركية ويحققون ارباح خيالية بحكم موقعهم الاحتكاري في السوق بالاضافة الى ارباح فارق العملةWindfall Profit التي تتحقق بفعل استيراداتهم من دول خفَّضت قيمة عملتها الوطنية امام الدولار مثل إيران وتركيا ومصر ودول اخرى. من جهة اخرى، يتحمل المستوردون الصغار والمتوسطون اعباء الرشاوي والإتاوات التي يصل حجمها الى مستوى الرسوم الجمركية الرسمية التي تذهب الى بطون الفاسدين بدلاً من خزينة الدولة. ومن جانب اخر، يشير استاذ الاقتصاد د. علوش في تعليقه على المقال موضوع البحث “الى ان الضرائب او الرسوم هي بعلاقة عكسية مع التضخم .. وكاتب المقال قلب لنا النظرية الاقتصادية”
واخيرا اتفق مع الكاتب في مطالبته الحكومة وسياستها المالية ان تعمل بشكل حثيث من اجل ان تزيد من رقعة الوعاء الضريبي الداخلي عبر تشجيع وتوسيع الانتاج المحلي. واضيف عليه ان ذلك لن يتحقق من دون رفع القدرة التنافسية للمنتج الوطني، واحد الادوات السياسية لتحقيق ذلك هو التعرفة الكمركية على المدى القصير بجانب تنفيذ مشاريع الاستثمار العام المتوقفة التي تولد فرص عمل جديدة ولكنها تحتاج الى تمويل يمكن ان يأتي من تفعيل جباية الرسوم الجمركية. كما اود الاشارة الى ضرورة اصلاح النظام الضريبي الحالي والقضاء على الفساد المستشري في مفاصله سيحقق زيادات كبيرة في التحصيل الضريبي من الوعاء الضريبي الحالي مع الأخذ في الاعتبار وجود ارباح كبيرة لتجار الاستيراد متهربة من دفع الضرائب الاصولية ويجب اخضاعها للقوانين النافذة.
(*) خبير اقتصادي دولي سابق مقيم في المهجر

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here