العدالة في عالم الحيوان ح 11 ، فكرة العدل والانصاف تدور بعقول القردة العليا !

د.رضا العطار

قد يكون هناك اناس كثيرون لا يدركون ان للحيوانات شريعة اخلاقية يعيشون بموجبها ويتقيدون بها، افضل من تقيد البشر بشريعتهم، وان لديها ضرب من الذكاء الاخلاقي.
.
اننا نعتقد ان الاحساس بالعدل والانصاف يمكن ان يسري في مجتمع قرد الشمبانزي فهم اقرب الكائنات الحية الى الانسان، ومع ذلك فان البيانات المقارنة خاصة تلك التي تتناول اللعب الاجتماعي في اسلوب حياتها لم يحظى بالاهتمام اللازم.

قليل من علماء الحيوان في حقبة الستينيات كان على استعداد لوصف اي سلوك غير بشري بانه تعاطف حقا. لكن في عام 1964 اثبتت دراسة لمجموعة باحثين ان القرد الجائع لم يتناول الطعام اذا كان ذلك سيعرض قردا آخر بصدمة كهربائية.
فقد رفضت مجموعة القردة سحب السلسلة التي تمدها بالطعام اذا كان ذلك سيعرض قردا آخر بصدمة كهربائية. حتى ان احدهم فضل الجوع 12 يوما كاملا على ايلام رفيقه.

في هذه الفترة نفسها كان العالم النفساني Harry Harlo من جامعة وسكنسون بصدد الاعداد لتجارب جديدة إذ تعامل مع قرود صغيرة اخذت من امهاتها. اثبتت التجربة ان الرغبة الى التعاطف مع بني جنسها اقوى من شهوة الطعام عندها. وعندما نيط بها الاختيار ما بين قرد قاسي القلب يملك طعاما وآخر عطوف حنون لا يملك شيئا، اختارت الثاني دون تردد.
والى جانب ذلك استنتج هارلو ان القردة التي اخذت من امهاتها وانشئت دون تواصل اجتماعي مع اقرانها ودون امهات حقيقيات تنشب على العزل الاجتماعي والعجز عن مخالطة الاخرين. ويعوق تطور الذكاء الاجتماعي والاخلاقي عندما لا تتولد المؤشرات التطويرية الملائمة.

في عام 2005 نشر (دوفال) مقالة في مجلة Scientific American حول المعاملة بالمثل لدى القرود. يقول فيها (نتطلب الى تلوين الذكريات بحيث تستحث السلوك الودي. وفي اجناسنا يعرف هذا التلوين باسم (الامتنان) ولا يوجد اي سبب يدعو تسميته باسم آخر لدى قرود الشمبانزي، ولذا فإن بعد قراءة كتاب (نظرية العدالة) لمؤلفه الفيلسوف المعاصر جون راوله ، لا يسعني ان اتهرب من الشعور بانه بدلا من وصف الابتكار البشري، فهو يفسر الافكار العتيقة التي يدرك اقرب اقربائنا معظمها.
وفي هذا الاتجاه نسرد حقيقة تتكرر في حديقة حيوان في هولندا يمكن مشاهدتها :
ففي احدى المرات لوحظ ان عدد من قردة الشمبانزي بدأت بضرب بعضها عقابا، كونها تأخرت عن وقت الطعام، لانه من غير المسموح لدى هذه المجموعة من القردة ان يشرعن في الاكل قبل حضور الجميع.

ثمة جانب اخر من الابحاث يسلط الضوء على حس الحيوانات بالانصاف والمساواة. فقد ذكر العديد من الدراسات التي اجريت على القرود اظهرت كراهيتها الى عدم المساواة كرد فعل سلبية ناتجة عن عدم التوزيع العادل للطعام. وهناك نوعان لكراهية الظلم.
الاول كراهية شاهده الاخر وهو يحصل على نصيب اكبر منك. والثاني كراهية حصولك على اكثر مما يحصل عليه الاخر.

اختبرت (ساره بروستان) و (فرانس دوفال) خمسة اناث من قردة الكابونشين بعد الاسر استشفاءا لكراهية عدم المساواة. والمعروف ان هذه القردة نوع اجتماعي وتعاوني جدا تشيع فيه مشاركة الطعام، وتحرص هذه القردة على مراقبة التوزيع العادل، والمعاملة المنصفة، بين افرادها علما ان الاناث منها تعني عناية اكبر من الذكور بقيمة البضائع والخدمات المتبادلة. قامت (بروستان) في بداية الامر بتدريب مجموعة من قرود الكابوشكين على استخدام عدد محدد من الاحجار الجرانيت كرموز لتبادل الطعام. وبعد ذلك طلب منها ان تقايضها من اجل الطعام، فطلبت من احدى القردة مبادلة فاكهة العنب بقطعة من الحجر. ثم طلبت من قرد آخر شهد للتو مقايضة العنب بالحجر، ان يقايض خيارة بحجر، وهو طعام لا تشتهيه القردة قدر اشتهاهها للعنب. فما كان من القرد الثاني الا ان رفض التعاون مع الباحثين واعرض عن تناول الخيارة، والقى بها في وجه الباحث. باختصار، ان قردة الكابوتشكي تتوقع ان تعامل بالعدل والانصاف.

يزعم بعض المتشككين ان القرود لا تبدي حساب بالعدالة ولا بالانصاف بل سلوكا ينم عن الحقد والطمع، وهذا صحيح في بعض الحالات. لكن ما الذي يدعوك للشعور بالحقد والغضب اذا لم تشعر بالخداع المضلل ؟ وما الذي يدعوك للشعور بالخداع والتضليل اذا لم تكن تعتقد انك تستحق المزيد. يعتقد كل من بروستان ودوفال ان القردة مثلها كمثل البشر. توجهها المشاعر الاجتماعية وما هي الا ردود فعل الفرد تجاه جهود الاخرين.
ويبدو انها توجد لدى الفردة والبشر على حد سواء وربما كان لها وجود ايضا في اجناس اخرى.

درست الباحثة Marina Ross و زملاؤها سلوكيات 25 قردا من السعالي واكتشفت انه عندما تفتح السعلاة فمها في حركة تناظر الضحك لدى البشر، فإن شريكها يتبنى التعبير نفسه، دون وعي استجابة للاولى في اقل من ثانية.
وفي هذا السياق صرح روجر هايفيلد في صحيفة (تلغراف) البريطانية قائلا :
ان محاكاة تعبيرات الوجه وهي لبنة العدوى العاطفية سبقت وجود البشر على وجه الارض بملايين السنين، ما دام لنا سلف مشترك.
وعلق على الظاهرة نفسها (ديفيد سلون) الذي يعمل بجامعة نيويورك، قوله :
ان ضحكة البشر قد تكون لها اهمية في عدوى المشاعر بين الافراد وما يؤدي الى الترابط العاطفي
القد نشرت العالمة (ساره بويسن) بجامعة ولاية اوهايو في صحيفة (لوس انجلس تايمز) مؤخرا دراسة حول سلوك قردة الشمبانزي ومدى كراهيتها للظلم. وعنيت ببحث العدالة لدى عدد محدود من الحيوانات التي اظهرت مدى تحسسها بالسلوك المراعي للاخرين. ولعل حياة الحيوان داخل الاقفاص تعد عاملا مربكا لو قورنت مع حياتها وهي تؤديها في البرية. وهذا لا يعني ان البيانات التي جمعت هي ليست ذات جدوى ولكننا نسعى الى التشديد على ان العدل والانصاف بين الحيوانات يعد عملية ديناميكية من المرجح ان تتغير من موقف اجتماعي الى آخر.

ان الاعتقاد بان لدى البشر منظومة اخلاقية غير موجودة لدى الحيوانات فرضية قديمة جدا. بل يمكننا الادعاء بانها صارت طبعا من طباع العقل. فقد اكدت الدراسات المعمقة التي قام بها الباحثون طيلة العقود الماضية ان لبعض الحيوانات صفات البشر، لكن بمحدودية جدا و بدرجات متفاوتة كبيرة، فهي تحب وتكره، تصادق وتعادي، تفرح وتحزن، تبغض وتسامح، لها عواطف ومشاعر، وفاء وغدر وحتى خبث ومخاتلة، الى جانب تقوم الام برعاية صغارها بحنان. انها تمارسها طبقا لمقاييسها الحيوانية.

واخيرا دعونا نفكر في كلمات الباحثة Sarito Siegel ماذا قالت :
( كلما امضيت مزيدا من الوقت مع السعلاة، زادت قناعتي بان القردة العليا تمتلك انماطا للاتصال، فهي واعية ومعقدة، ونظرية عقل، وحسن دعابة، وخاصة للدعم العاطفي علاوة عن الكثير من السمات الاخرى الشبيه بالبشر. ولهذه الاسباب شعرت بان المقارنة بالبشر والحيوانات الخاصة بهم ذات صلة بالدراسة ومفيدة جدا لها)
الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

* مقتبس بتصرف من كتاب (العدالة في عالم الحيوان) لمؤلفه مارك بيكون وجيسيكا بيرس، ترجمة فاطمة غانم ط 1 ، 2010 هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث والكلمة

الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

* مقتبس بتصرف من كتاب (العدالة في عالم الحيوان) لمؤلفه مارك بيكوف وجيسيكا بيرس. ترجمة فاطمة غانم، ط 1 2010 ، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث والكلمة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here