ابو نؤاس في سطور !

(*) د. رضا العطار

قال عبيد الله بن محمد : ( من طلب الادب ولم يقرأ شعر ابي نؤاس فهو ليس بأديب ) .
وقال عميد الادب العربي طه حسين : ( لم يكن ابو نؤاس رجلا ما, وانما كان شاعرا مثقفا, يقدره اهل عصره ويكبرونه في كل ما عرض له من الفنون. فكان اهل اللغة يقولون : انه اعلم الناس بالغريب. وكان الادباء يقولون : انه ارق الناس ادبا واحسنهم شعرا. وكان الخلفاء والوزراء والامراء يعجبون بظرفه وحسن حديثه. وكان الشعراء يعترفون له بالزعامة والتفوق )
ويذكر الأديب العربي المعروف جبرا ابراهيم جبرا ـ الذي عاش في العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين ـ في كتابه ( الفن والحلم والفعل ) ما نصه :
ابونؤاس، شعره الغزلي يحوي التفكير الفلسفي العربي كله، انه مبني على معرفة عميقة، ككل شعراء العرب الكبار، يشعرك بغزارة علمه.

اثناء مطالعتي ديوان ابي نؤاس من مصادره الاجنبية, لمست في ثنايا بعض قصائده توهجات ايمانية محيرة تنم عن نزعة صوفية مترسخة في عقيدته.
وبينما انا في ذهول، واذا يلمع في افق خيالي، فكرة المفارقة بين ابي نؤاس ونظيره عمر الخيام. فكلاهما مسلم متصوف، يكتبان شعر الغزل و يتشابهان في لون النظم الى حد تخال ان احدهما مترجم من الاخر، فقد بدأت اتسائل ! لماذا يعتبر شعر عمر الفارسي مقبول وشعر ابي نؤاس العربي مهجور ؟ ناهيك ان الأخير لم يدعو يوما الى هدم الدين بينما كان الخيام يفعل ذلك, اسمعه ما يقول في شعره المترجم :

كن ما استطعت لبني الخلاعة تابعا * * واهدم بناء الصوم والصلوات

واسمع عن الخيام خير نصيحة * * اشرب وغنّي واسرِ للخيرات

عجب العجاب ان تقوم ايران في ترويج تراث شاعرها المنفتح، رغم تباين المد الديني في سياستها, فتنشأ له مزارا مهيبا، يأمّه السواح الاجانب على مدار السنة, فهو بالنسبة لهم يعني يئر نفط لا ينضب.

يروي لنا كاتب السطور فيقول : وحينما كنت اجول مدينة شيراز الجميلة في ايران في سفرتي السياحية اليها حديثا ، شاهدت في اسواقها كتبا ولوحات مصورة لعمر الخيام، متسمة بجمال الذوق واللون والاناقة، مترجمة الى اللغات الحية، تشوق السائح على اقتنائها. كما شاهدت صور زيتية لنفس الشاعر لكنها فاضحة, العاشق وبيده الكأس والساقية ترقص امامه في غنج. وعندما لاحظ صاحب المعرض دهشتي، انبرى عليّ بالقول :
ان ما تراه ياسيدي هي صورة عرفانية وهي تعني غير ما جنابكم يتصور. انذاك ادركت ان الرجل يدرك جيدا كيف ينال لحم الكتف !

ان ما يثير في نفسي الأستياء, ان نقاد الأدب العرب هم الذين اطلقوا على ابي نؤاس لقب سلطان شعر الغزل، لكنهم يشنون على تراثه العراقي الفريد، حملاتهم الاعلامية الظالمة دون مبرر, ينتقصون من قدره، ينكرون فضله الثقافي على الحضارة العربية.
ومن المؤسف ان نرى اي شعاع حضاري وفكري منير ينبثق في العراق، لا يروق لهم سماعه ولا يسعدهم ذكره، يقفون دون الترويج لفنه، الفريد من نوعه، بل العكس محاربته قدر ما استطاعوا الى ذلك سبيلا ؟؟

نظمَ ابونؤاس زهاء اثنى عشرة الف بيت شعر، اما ما نظمه اثناء اقامته في مصر فأمره مجهول. ان الارث الثقافي الذي تركه لنا الشاعر، ارث يصعب حصره، حتى اننا لا نستطيع ان نقطف من كل بستان له وردة، فبساتين الشاعر كثيرة ونظمه جذاب عذب رقيق، ينساب الى النفوس كأنسياب شعاع الشمس في ثنايا مياسيم الزهور، انها تبهج القلب وتنسي الهموم . لقد نظم الشاعر في جميع حقول الشعر حتى ان نظمه في الروحانيات من زهد وارشاد ونصح وفضائل، قد جاوزت مائتين قصيدة .

هدفي من هذه الدراسية، احياء تراث هذا الشاعر الكبير خشية ألاّ يتلاشى بين صفحات التاريخ، وبالتالي ينحرم منه المثقف العراقي بالخاصة.
علينا ان نفخر بتراثه كما نفخر بالتراث الوطني لعظمائنا في تاريخنا القديم, فمثلما ابدع حمورابي في القانون، كذلك ابدع ابونؤاس في الفنون, فكلاهما رافديون افذاذ كسوا وجه حضارتنا القديمة ببصمات تاريخية خالدة.
.
قناعتي الشخصية ان ابا نؤاس قد يكون قد شطح ايام شبابه وساير تيار المجون، لكنه اهتدى اخر الامر، زهدَ وتصوف, وإلاّ فما معنى ان يوصي بوضع الابيات التالية في كفنه :
يارب ان عظمت ذنوبي كثرة * * فلقد علمت بان عفوك اعظم

ادعو اليك يا رب متضرعا * * فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي اليك وسيلة الاّ الرجاء * * وعظيم عفوك , ثم اني مسلم

وان يُحفر النظم التالي في شاهدة قبره :

يا غافر الذنب العظيم بجوده * * اغفر لعبدك ذنبه متفضلا

* مقتبس من ديوان ابي نؤاس لمؤلفه عمر فاروق الطباع مع التصرف. شركة دار الارقم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت الطبعة الاولى 1998 .ومن كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف القاهرة 1960

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here