كيف كان العراقيون يحتفلون بعيد الربيع (نوروز) زمن العباسيين ؟

(*)
د. رضا العطار

كانت اعياد العراقيين كالمعتاد تشمل عيد الفطر وعيد الاضحى وعيد الربيع (نوروز)، بيد ان عيد نوروز كان اكثر الاعياد رونقا وجاذبية، خاصة أبان العهد البويهي، فقد غدا هذا العيد عندهم وكأنه كارنفال عظيم، تمتد ايامه نحو اسبوعين.
كانت مشاعر العيد متجلية في نفوس اهالي بغداد، فكانوا يحتفلون ايامها وهم مبتهجين فرحين، يرتدون ملابسهم الزاهية و يتبارون بالتهاني ويتهادون بالورد. مثللما كانت مظاهر العيد السعيد بارزة للعيان في زركشة الطرقات والساحات العامة.

كان اهالي بغداد يستهلون صباح العيد بزيارة الاقرباء والمحبين من الاصدقاء.
لكن اغلبهم كان يخرج باكرا الى المروج الخضراء لتغيير الجو وشم النسيم وهم مغتبطين، يقضون النهار بطوله في احضان الطبيعة الحلوة، ياكلون متاعهم و يشربون الشاي ويمرحون، وقد تراهم يرقصون، اويغنون ويضحكون جماعات، مستمتعين بررؤية الماء والخضراء والوجه الحسن. والى جانب هؤلاء كان هناك فئة اخرى لهم مزاج آخر، حيث تشاهدهم يختلون بين خمائل الورد في البساتين المنتشرة قرب بغداد، يرتشفون بما معهم من راح ويتمزمزون بما جلبوا من لذائذ.
بيد ان هناك كان فريق آخر لا يروق له لا هذا ولا ذاك، بل كان يرغب ان يتهادى على صفحة دجلة في قوارب جميلة، يضجون بالغناء والطرب، متنعمين بسرورهم الى ان يختفي آخر اشعاعات ضوء النهار.
وفي هذا السياق ينشد البحتري قائلا:

اشرب على زهر الرياض يشوبه * * زهر الخدود وزهرة الصهباء

من قدح ينسي الهموم ويبعث * * الشوق الذي قد ضل في الاحشاء

. كما كان الناس يستعذبون سماع قصائد ابن الجهم، ينشدها في الافراح منها:

الورد يضحك والاوتار تصطخب * * والناي يندب اشجانا وينتحب

والراح تعرض في نور الربيع كما * * تجلى العروس عليها الدر والذهب

لقد انتشر في المجتمع العباسي مظاهر التأنق في الاوساط الاجتماعية المرموقة في الازياء و الزيارات ومراسيم القبول واداب المائدة، واستكثرت النساء الحرائر بالعطور وانواع الطيب، كعطر الزعفران والكافور والبنفسج والياسمين والمسك والعنبر, يأنسن بطيب عبيرها ويتبخترن بشذى عبقها الصارخ، يتمسحن بدهن الزعفران من مفرقهن الى القدم, وقد تميز شغف الأسر البغدادية في تزيين بيوتهن والعناية بالزهور والرياحين، التي كانت تملئ آلافاق بعبقها الفواح, فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد.

وقد اقترنت بهذا الظرف مظاهر التألق في الادب والشعر وما يتعلق بتهادي القوم بانواع الورد، رامزين باسمائها واشكالها الى معاني السلوى في الحب ودنوه واتصاله وجفاءه. كأن يتحسس الشاعر في معنى الورد الخجل لأحمراره، ويحس آخر في هجر الحبيب سرعة ذبوله، او يحس العاشق في ورد البنفسج عودة الوصال وحرارته.
وهكذا كان المحبون يعبرون عن احاسيسهم عبر هذه الدلالات، مثلما كان الشعراء يستلهمون مشاعرهم الفنية عبر الخيال و الابداع.

لقد بلغ شغف النساء، حرائر وجواري، في زينتهن واناقتهن حدا بعيدا . . فكانت طبقة الاستقراطيات منهن، يرفن في ثياب السندس والاستبرق ويختلن بالحللى والجواهر متخذات منها اقراصا وخلاخيل، عقودا وقلائد، وقد ينظمنها على شعرهن. لكن اهتمام النساء الزائد بالزهور والرياحين في تزيين بيوتهن كان امرا مألوفا.
وعلى اثر ذلك كثرت حدائق الورد في قصور المترفهين مثلما انتشرت حقول تربية الازهار في نواحي بغداد.

وفي هذا السياق ينشد الشاعر الفذ ابن الجهم قائلا:

لم يضحك الورد الا حين اعجبه * * حسن الرياض وصوت الطائر الغرد

بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها * * وراحت الراح في اثوابها الجدد

قامت بجنته ريح معطرة * * تشفي القلوب من الهم والكمد

* مقتبس بتصرف من كتاب العصر العباسي الاول لمؤلفه شوقي ضيف. مع اضافات لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here