ثقافة فن الحياة – ضرورة اشغال الذهن في مرحلة الشيخوخة !

* د. رضا العطار

كانت الدكتورة ليليان مارتين استاذة في جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة الامريكية. فبالرغم من كبر سنها فانها عاملت نفسها فيما لو كانت في العشرين من عمرها. درست احوال الشيخوخة ثم افتتحت مدرسة في سان فرنسسكو، يقصد اليها المسنون ممن جاوزوا الخمسين، ترشدهم الى الطرق والافاق الجديدة التي تبعث فيهم النشاط والحيوية بغية الاستفادة من وقت الفراغ والاستمتاع بمباهج الحياة.

ومن جملة ما جاء في دفتر مذكراتها: ان رجلا في السبعين من عمره كان قد استحال في بيته الى بعبع، يشقي زوجته واولاده بسخطه عليهم وتذمره من سلوكهم، فكان نحسا كثير الشكوى، يعيش عاطلا بايراده السنوي من اسهم في شركة للتعليب. وان توتره النفسي بلغ حد التشنج بسبب هذا الركود الاجباري الدائم الذي كان يكابده والى شعوره بان شخصه عقيم غير نافع. فلما راته البروفيسورة ليليان ادركت ان انفجاراته النفسية تعود الى خواء حياته. اقترحت عليه ان يرافقها في زيارة لمؤسسة هذه الشركة التي يتقاضى ايراده منها. فما هو ان سار بسيارته في مزارعها وحقولها حتى ابتهج قلبه في رؤية الخضر من الطماطم والفاصوليا بشغف. ولم تمضي ايام حتى حمله اهتمامه على ان يبحث عن زاوية للعمل لهذه الشركة. وزال الخواء من حياته وصارت نفسه تجد الاهتمام وبدأ ذهنه ينشط الى التفكير وجسمه يتحرك بالانتقال حتى عاد عضوا نافعا في مجتمعه وهدأ الرجل واصبح مقبولا في الوسط العائلي.

وليليان تستمتع بشيخوخة موفقة ناشطة. فانها تعلمت سياقة السيارة وهي على ابواب الثمانين. وقطعت القارة الامريكية من المحيط الى المحيط بسيارتها مرات عديدة ودارت حول الارض وهي في اواخر العقد الثامن من العمر. كما زارت دول امريكا اللاتينية لدراسة احوال شعوبها الاجتماعية. وقبل ان تشرع برحلتها تعلمت اللغة الاسبانية. وعندما بلغت التسعين بدأت تدير حقلا زراعيا من ستين فدانا.

ان فكرة بقاء المسن طوال اليوم في البيت حالة غير صحية. فالمسنون في مثل هذا العمر يبدأون يشكون من القلق والخوف من المرض وهم يتخذون موقفا دفاعيا الذي يؤدي بهم الحال غالبا الى كراهة التغيير والاصرار على العناد والاهتمام بالذات – – – وعلاج هذه الاعراض هو زيادة النشاط، لان نشاط الجسم يحرك العقل ويفتح افاق جديدة للتفكير والاحساس، فتنشط العواطف وتتحرك المشاعر. ومن المفضل ان يُكلف المسنون الاصحاء في شراء حاجيات البيت اليومية الضرورية بأنفسهم.

هكذا ينبغي على المسن ان ينصب لنفسه هدفا يستقبل به الحياة بدلا من ان يدير اليها ظهره. يقضي وقته مجترا ذكريات الماضي ومآسيه والتي غالبا ما تؤذيه. اما الذين يشكون النسيان عليهم ان يقرأوا الجريدة اليومية بصوت عال لكي تيقى السنتهم مرنة وتبقى عقولهم ذاكرة بل يُفضّل ان يدونوا خلاصات لما قرأوا، يعودون الى مقابلتها بالاصل لكي يقفوا على قوة الذاكرة عندهم كما ينصحون ان يسيروا في مشية سريعة وان يعاينوا ما حولهم في يقظة دون الاستسلام للخواطر واحلام اليقظة. وان يزوروا الاماكن التي لم يروها من قبل، وينصحون كذلك بالتمرن على الرياضة الخفيفة ولا ينسوا السباحة في الاماكن المخصصة لها. كي تبقى المفاصل مرنة، كما يؤكد عليهم العناية بملابسهم وجعل الوانها تتماشى وروح العصر الذي يعيشون فيه ، علما ان الملابس ذات الالوان الداكنة تبعث على السأم والممل. وخلاصة القول ان المسن يجب ان لا يقضي وقته في شبه نعاس داخل المنزل، يفرج عن عواطفه المكبوتة في ايذاء افراد اسرته في المعاتبة والتوبيخ، بل عليه الخروج من البيت نظيفا انيقا مهندما يلتقي اصدقائه بأستبشار وفي مرح الاستئناس.

يتسم سلوك الشباب بالنشاط واحيانا نشاط انفجاري, لأن نبض الحياة عندهم تواقة، كما يتسمون بالاستطلاع الذهني والعاطفي, الشباب يجدون الدنيا ملتغزة تحتاج الى الشرح و التوضيح, فهم كثير التسائل والاستفسار. فإذا بلغوا الخمسين هدؤا, وقل الاستطلاع وسكنت العواطف ولكن هذا السكون يجب الاّ يكون ركودا .

وانتقال المرأة من سن الشباب الى الكهولة يقع عادة قبل الخمسين بقليل وعلامته انقطاع العادة الشهرية . وهذا الانتقال كثيرا ما يحدث رجّة نفسية تنشأ من التغيير الفسيولوجي في الجسم . كما تنشأ ايضا من الاعتبارات الاجتماعية حين تحس المرأة ان الدنيا لم تعد دنياها. لكن هذه الاعتبارات زائفة في معظمها. لان جمال المرأة يبقى مع العناية الى ما بعد الخمسين. كل ما فيه انه ينتقل من جمال الجسم الى جمال الشخصية. بل قد يبقى شئ كثير من جمال الجسم حتى يبلغوا الستين وهم مع ذلك لم يفقدوا النزق الجنسي والثورة العاطفية.

والرجال في مجتمعنا العربي عموما اقدر على الاحتفاظ بشبابهم منه من النساء `ذلك لانهم يشتبكون في الحياة العامة ويعملون للكسب اكثر من النساء. وهذا النشاط يكسبهم حيوية تلازمهم سنوات طويلة اخرى تزيد على سن النشاط عند المرأة التي يفضي عليها المجتمع بالانزواء والركود, فيترهل جسمها وتعيش وكأنها في انتظار النهاية.

واذا كانت سن التقاعد بين الموظفين عندنا هي الستّين , فأن الاسباب الاجتماعية تجعل جمهور الناس يخشى الشيخوخة ويستسلم لأمراضها . حيث انها تعمم بيننا عقيدة زائفة هي اننا قد استنفذنا طاقاتنا الحيوية في هذه السن وان من الحكمة ان نستكين ونركد ونهيئ الكرسي المسند كي نرتاح عليه ونتثاوب. مع ان هذه السن تعتبر في الغرب هي سن النضوج والأيناع، وهناك شبان في الستين نراهم يمارسون الالعاب الرياضية ويمرحون، كما انهم يمتازون بعضلات مفتولة وبطون ضامرة وعيون صافية .

وقد الّف الامريكيون في القرن الماضي كتابا بعنوان ( الحياة تبدأ في الاربعين ) فرد عليهم الأنكليز بكتاب آخر عنوانه ( الحياة تبدأ في الخمسين ) وكأن هذا الانكليزي يقول لزميله الامريكي : نحن اكثر شبابا منكم. وكلاهما يشرح الطرق التي يجب ان يتبعها المسنون كي يعيشوا المعيشة النشيطة المثمرة.

* مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين للعلامة سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here