الفساد في العراق كان موجوداً فهل وصل ذروته الآن؟ – ذكريات قبل خمسين عاماً –

المؤسّسة العامة للأدوية

في تموز 1964 ، بعد عودتي من ألمانيا بأيام، (حيث كان الحكم قوميّاً اِشتراكيّاً برئاسة عبد السلام عارف) صدر قانون بتأميم التجارة بصورة عامة وبحصر استيراد الأدوية والمواد الاستهلاكية الأخرى بالحكومة التي أنشأت بدورها (المؤسسة الاقتصادية) ، وهي مؤسسة عملاقة تشمل المؤسسة العامة للتجارة التي تضمّ مؤسسة البنوك والمؤسسة العامة للسيارات والمؤسسة العامة للأدوية والمؤسسات الاقتصادية الأخرى التي أنيط بها استيراد ما يحتاجه العراق من بضائع مختلفة في سبيل تطبيق النظام الاشتراكي. فبهذا منع التجار من استيراد الأدوية والسيارات وغيرها ، وكان يرأس هذه المؤسسة العملاقة الدكتور خير الدين حسيب وأعضاء مجلس إدارة قوميون اشتراكيون ناصريّون. سيطرت المؤسسة العامة للأدوية على الأدوية التي استوردتها مذاخر الأدوية الأهليّة سابقاً وحجزتها في مخازن كبيرة في منطقة المسبح ، وكانت الإدارة الرئيسة أو المقرّ العام في شارع البنوك بإدارة أحد القوميين السيد سالم حسن الذي لا خبرة له بتجارة الأدوية ؛ استيرادها أو تصريفها أو التعامل مع الشركات المنتجة. ففتحت مخازن للتوزيع في أماكن مختلفة في بغداد خُصِّص لكل منها أدوية شركات معينة تستلمها من المخازن الرئيسية التي تصلها شحنات الأدوية من الكمرك ، فتوزعها بدورها على الصيدليات . وهنا بدأت المتاعب للصيادلة والناس أجمعين. فمذاخر الأدوية الأهليّة المستورِدة للأدوية من شركاتها كانت قبل هذا القانون تتنافس فيما بينها لبيع أدويتها إلى الصيادلة ، فكانت تجلب لهم الأدوية إلى الصيدليات وتغريهم بهدايا وخصومات ليبيعوا أدويتها التي تدرُّ عليهم أرباحاً خيالية بعض الأحيان نتيجة اتفاقات معينة مع الشركات المنتجة. فكان الصيادلة (مدلّلين) . وفي الوضع الجديد أخذ الصيدلي يذهب بنفسه أو يرسل موظفاً لديه يشتري الأدوية من مخازن المؤسسة العامة للأدوية، وعليه أن يدور على المخازن المتباعدة بين المسبح والعلوية والكرخ وشارع الرشيد ويقضي ساعات طوالاً ليحصل على بعض ما يحتاج لشحّ الأدوية الموجودة في هذه المخازن نتيجة عدم كفاءة العاملين في شعبة الاستيراد في المؤسسة من ناحية ولعدم قدرة المخازن الرئيسية على تزويد المخازن الفرعية باحتياجاتهم من ناحية أخرى. فكان استياء عام لدى الناس. كان رئيس المؤسسة العامة للأدوية شخصاً غير كفء ولكونه من الحزب القومي الحاكم تسلّم هذه المسؤولية.

التعيين

أما التعيين فيها فمضحك حقاً. فعند تقديم طلب من صيدلي أو أيّ أحد آخر يرغب في التعيين يؤشّر السيد حسن مدير الإدارة حينذاك بالقلم الأخضر على عريضته إذا كان ذا (واسطة)، وإن كان بدونها ، فلا يؤشّر الطلب ويُرمى في مكب النفايات، كما وقع لي حين قدمت الطلب بعد استقالتي من وزارة الصّناعة. وبعد مرور شهر من تقديم الطلب لم أستلم أيَّ جواب . وفي أحد الأيام كنت أسير في شارع السّعدون (عطّال بطّال) مررت بصيدلية القزويني فلمحني صديقي الصيدلي حسين القزويني ، صاحبها، فأشار عليّ أن آتيَ إليه ففعلت . لماذا مررت ذلك اليوم في شارع السّعدون وبصيدلية القزويني ، ليكون بداية المسيرة الطويلة لتغيير مجرى حياتي والتي ابتسم لي فيها الحظ بعد تكشيرة القدر الغاضب ؟ لا أدري! ولن يعرف أيّ أحد تفسيراً للحظ، حسن الطالع أو سوئه. بعد السلام والسؤال عن الصحة والغياب قال لي إنّ الأستاذ قاسم الشمّاع مـرّ عليه في صيدليته ، فقد كان صديقه ، وشكا إليه عدم استطاعة المؤسّسة العامة للأدوية القيام بمهمّتها مما سبّب نقصاً في الأدوية في الصّيدليّات وتذمّراً لدى المواطنين الذين أخذوا يسبّون الاشتراكيّة، وهو ، قاسم الشمّاع، يسأله عن الحلّ أو عن معرفة القزويني بصيادلة ذوي خبرة ليتمَّ تعيينهم. فمن هو قاسم الشمّاع؟ إنه رئيس التجارة العامّة المسؤول عن مؤسسة البنوك والمؤسّسات الأخرى وعضو الهيئة الإدارية في المؤسسة الاقتصادية وهو الرجل القويّ الثاني فيها بعد خير الدين حسيب. يقول القزويني: فذكرت له اسمك وكفاءتك وتحدّثتُ عنك الكثير ، حيث تستطيع أن تساهم في حلّ أزمة الأدوية . فطلب (الشمّاع) مني أن أتصل بك لتعيينك فوراً في المؤسسة ، فأعلمته بأنني لا أعرف عنوانك، ولكن سأتصل به الآن ، فاتصل به أمامي، فطلب قاسم الشمّاع أنْ آتيه غداً في الساعة كذا وفي الطابق الثالث من البنك المركزي للقائه. شكرت صديقي حسين القزويني وغادرته. وفي اليوم الثاني ذهبت إلى البنك المركزي وقابلت السيد قاسم الشمّاع الذي رحّب بي وأعطاني بطاقته وكتب على ظهرها (يعيّن فوراً) ذهبت إلى المؤسّسة العامّة للأدوية وقدّمت طلباً للتعيين مع بطاقة (كارت) قاسم الشمّاع إلى السيد حسن مدير الإدارة ، فأشّر على الطلب بالقلم الأخضر وقال لي طلبك سيكون مع الدكتور أحمد كمال عارف قفطان العاني ، مدير المؤسّسة العام (نقيب ذوي المهن الطبّية آنذاك) الذي عُيِّن، في اليوم ذاته الذي قدّمت طلبي، بديلاً عن السيد سالم حسن. قابلتُ الدكتور أحمد كمال عارف فأراني كتاب وكيل وزير الصناعة العقيد عبد الهادي (قُتل مع عبد السلام عارف في حادثة تحطّم طائرة الهليكوبتر) وقال لي هذا الكتاب يمنع تعيينك (بسبب استقالتي من وزارة الصناعة التي عملت فيها وكيلاً لمدير مشروع معمل الأدوية في سامرّاء مدّة 3 أسابيع، فلم تُقبل الاستقالة، فتركت العمل والراتب ولهذه قصّة ستأتي) ، ولكنك كعراقي إذا لم تعمل في العراق فأين تعمل؟ ومزّق الكتاب ورماه في مكبّ النفايات! وأصدر أمر تعييني فوراً وأعطانيه ، وقال لي اِذهب غداً وباشر في (المخازن الرئيسية) كمدير فنّي مع المدير الإداري فيها الصيدلي حميد صفّو براتبٍ مقطوعٍ قدره تسعون ديناراً في الشهر.

العمل وشركة شيرنك – برلين

باشرت في المخازن الرئيسة كمدير فني مسؤول عن فتح الإرساليات التي تصل المخازن من الكمرك وتسعيرها وكان يعمل تحت إشرافي بضعة موظفين . كان الصيدلي حميد صفّـو مسؤولاً عن مباشرة الموظفين ودوامهم وإجازاتهم وليس لي أيّ علاقة بهذه الأمور. رحّب السيد حميد صفّـو بي كثيراً وأراني إرساليّات الأدوية المحجوزة سابقاً من المذاخر والواردة حديثاً وكانت بثلاثة آلاف صندوق وكارتون وقال لي أرني همّتك بفتحها وإرسالها إلى المخازن الفرعية لبيعها إلى الصيدليات وابتسم ، لأنه يعرف أنّه عمل غير يسير. فطلبت منه أن يعطيني قوائم الإرساليّات كلِّها لأبدأ بفتح ما هو متأخر جداً وما له أفضلية من حيث عدم وجوده في السوق وأهميّته الدوائية . قام العمّال (الحمّالون) بفتح الصّناديق حسبما ارتأيت وبدأت لجان التسعير التي شكّلتها تختم الأدوية بالأسعار التي كتبتها على أوراق وكنت أمرّ عليهم لتدقيقها وأوقع عليها بعد أن ينتهوا من تسعيرها . أمّا الأسعار فكنت آخذها من السيد عبد الرضا صادق المحاسب المسؤول عن الأسعار في المديرية العامة وكنت أجلس معه بعض الوقت نقرأ الأشعار وكان أديباً قديراً . استمر العمل فأخذت الصيدليات تستلم الأدوية وتلبّي حاجة المرضى ، فتحسّنت الأمور، وتعيّن الصيدلي نوري عبد الرزاق (كان أحد ركّاب قطار الموت عام 1963) مسؤولاً عن التوزيع فتحسّنت الأمور أكثر. كان وكلاء المذاخر يمرّون علينا باستمرار طالبين إخراج أدويتهم ، وخصوصاً الأدوية المتنافسة، لأن السبق في إخراجها إلى السوق يسرّع بيعها ومن ثمّ استيرادها وحصولهم على أرباح نتيجة ذلك. جاء إليّ ممثل شركة شيرنك Schering AG البرلينية (ابتلعتها شركة باير سنة 2006) ومعه مدير الشركة المصري في الشرق الأوسط وطلبا فتح إرسالية مادة منع الحمل (أنوفلار Anovlar) ، هذه المادة كانت مسيطرة على السوق العراقي وتنافسها مادة (لينديول Lyndiol ) من شركة أورغانون Organon الهولنديّة . وكلتا الإرساليتين موجودة في المخازن . قلت لهما إنني أفتح الإرساليات حسب تاريخ وصولها ، فهناك شركة أورغانون قبلكم ، لذا عليكما الانتظار . وبعد أيام أتياني فامتنعت عن فتحها فذهبا إلى الدكتور أحمد كمال عارف للتوسّط حيث اتصل هذا الأخير يطلب فتح إرساليتهما فأخبرته عن سبب التأخير ووعدته بأني سأفتحها قريباً. ولكني أثناء ذلك فتحت إرسالية الشركة الهولندية حيث أرسل اللينديول إلى الصيدليات فنفد بسرعة وثّبِّت أيضاً ، فالمرأة التي استعملته بديلاً عن الأنوفلار سوف لا تبدّله بسهولة . لذا فقدت إرسالية الأنوفلار أهميّتها . أمّا لماذا قمت بهذا العمل فله قصة. في أواخر أيامي في برلين حاولت العمل والتدريب في شركة شيرنك فقدّمت طلباً وجاءني الجواب بأن (لا فراغ موجوداً الآن ولا في المستقبل) . فوجئت بهذا الرفض القاطع ، فذهبت إلى الشركة لمقابلة المدير الذي كتب لي هذه الرسالة الحاقدة ، فقالت لي سكرتيرته بأّنه رفض طلبك، فلماذا تريد مقابلته ؟ فقلت لها أريد أن أعرف لماذا رفض طلبي الآن وحتّى في المستقبل ، فقالت ليس لديه وقت ليقابلك، فأجبتها بصوت عالٍ ليسمع: أيستنكف أن يقابل Kamel Treiber? ، يعني راعي إبل، وهي كلمة مشهورة يطلقها الألمان على العرب لتحقيرهم. فسمع وخرج من غرفته أحمر الخدّين ودعاني أن أدخل ، فدخلت ، فبادرني قائلاً : إنَّ لديه طالباً سودانياً يعمل في مختبره ، فإذا مات ، فسيكون لديه مكان لي! فأجبته : أنتم الألمان تنظرون إلى الإنسان كعملة (المارك الألماني) ، ولكننا العرب، أكثر إنسانية منكم فلنا قيم ، وخرجت . ومن هنا جاء انتقامي ، ولكن هل صدقت في جوابي له ونحن على ما عليه من تدهور أخلاقي وعدم إنسانية ومروءة ، وخصوصاً حكامنا وسياساتهم ما عدا بعض النبلاء والأشراف، ولكنْ أينهم؟ كان العمل في المخازن متعباً ولكن كلّ تعب يأتي بثمار، فقد بدأت الصيدليات تستلم كميات شبه كافية من الأدوية وأصبح العمل رتيباً .

يقبضان رواتب شهرية ولا يعملان !

حدث أثناء عملي ما ليس في الحسبان حيث لم تُقدَّر جهودي ، ذلك أن نُسِّب إلى المخازن في بداية عملي طالبان في السنة الأخيرة من دراستهما في كلية الطب كخبيرين في الأدوية البشرية على أن يعملا تحت إشرافي، وكانا سابقاً يعملان في شعبة الاستيراد في المديرية العامة وواجبهما هو أن يكونا حلقة الوصل بين المؤسسة العامة للأدوية والصيادلة لجمع المعلومات عن احتياج السوق للأدوية وإيصال هذه المعلومات إلى الصيدلي المرحوم وديع عيسى مدير الاستيراد في المؤسسة ليقوم باستيراد هذه المواد ، فهما كانا يعملان في مديرية الاستيراد. والمديرية العامة تقع في شارع البنوك، منتصف شارع الرشيد، والموظف فيها سعيد ، لأنّه يجد كافة التسهيلات المتوفرة من طعام وشراب ووسائط نقل إضافة إلى التبريد في الصيف والتدفئة في الشتاء. ومخازن توزيع الأدوية لها بعض هذه المميزات أيضاً . أما المخازن الرئيسية ، فإضافة إلى كونها بعيدة جداً ، لا توجد فيها أيّة تسهيلات ، لذا عندما يكون أحد الموظفين مغضوباً عليه لأي سبب ، فالاستغناء الفوري (الفصل) يكون عقابه ، إذا لم يكن (مسنوداً) من أحد الوزراء أو المتنفذين في الحكم. ولما كان السيدان سعد وأحمد (طالبا كلية الطب) قد عيّنهما وزير الإصلاح الزراعي آنذاك الزعيم عبد الكريم فرحان، لذا يكون فصلهما من الوظيفة أمراً غير وارد ، فإبعادهما أسهل. أتاني هذان السيدان ، ولما رأيا المخازن اصابهما الهلع ، ولما سألاني فيما إذا كنتُ أنا بحاجة إليهما ، أجبت بالنفي، والحقيقة أنني لم أكن مرتاحاً لتنسيبهما إلى المخازن ، فقد علمت أنهما في المديرية العامة سبّبا استفزازاً للموظفين نتيجة تطرفهما القومي ، فشكراني وغادرا. وبعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الحادث ، وبعد أن عملت بكل طاقتي لتوفير الأدوية في الصيدليات حيث أخذ الوضع يتحسن كثيراً بعد التحاق الصيدلي نوري رشيد الذي خصصت له مهمة توزيع الأدوية إلى مخازن المؤسسة، أي أن حميد صفّـو كان إدارياً وبهجت عباس مسؤولاً عن فتح الإرساليات وتدقيقها ومطابقتها مع قوائمها وتسعيرها، بعد استلام التسعيرة من مديرية الحسابات في المؤسسة ومن السيد عبد الرضا صادق بالذات، والصيدلي نوري رشيد يرسلها إلى المخازن ، وكنا ،الثلاثة، منسجمين جداً وبتوافق تام ، فهمّنا الأول والأخير هو توفير الأدوية للناس ( شيعي وسنّي ومسيحي!). أقول بعد مرور ثمانية أشهر تقريباً على عملي بإخلاص لم أستلم أي ّ كتاب شكر بل فوجئت بكتاب تغريم مبلغ 540 ديناراً وهي الرواتب التي تقاضاها السيدان طالبا كلية الطب لمدة ستة أشهر (45 ديناراً كراتب شهري مقطوع لكل منهما) لأني لم أخبر المديرية العامة عن عدم مباشرتهما ! فهمت أن الدكتور أحمد كمال عارف أصدر كتاباً بادئ الأمر بتغريم السيد وديع عيسى مدير الاستيراد، لأنهما كانا موظفيْن لديه، فذهب السيد عيسى إلى الدكتور كمال متوسلاً، فمزّق هذا الأخير الكتاب وأصدر كتاباً بتغريم حميد صفّـو الذي ذهب بدوره إلى الدكتور كمال وتوسّل وقال إنهما كانا قد نُسِّبا للعمل تحت إشراف بهجت ، ونسيَ أنه كان يكتب مباشرة أيِّ موظف يُنَسَّب إلى المخازن ولا علاقة لي بمباشرة أيّ موظف، فمزّق الدكتور كمال الكتاب وكتب (يغرّم السيد بهجت عباس..إلخ) ، فثارت ثائرتي وكتبت إليه كتاباً شديد اللهجة جاء فيه حسبما أتذكر (هل يجوز تغريم موظف مثل هذا المبلغ دون الرجوع إلى لجنة تحقيق نزيهة كانت أم غير نزيهة؟ فحتى في شريعة الغاب لم يصدر مثل هذا الأمر الجائر ، فيجب إلغاؤه وإعادة الحقّ إلى نصابه…إلخ) لم أخش العاقبة لأنهم بحاجة إليّ ولست بحاجة إليهم . أما سبب إثارة هذه القضية بعد هذا الوقت الطويل والكل يعرف أنَّ هذين الشخصين لا يداومان بل يأتيان في نهاية كلّ شهر يقبضان المقسوم لهما ويذهبان ، هو أنَّ كافلهما الوزير عبد الكريم فرحان فقد منصبه فضاعت واسطتهما، والسبب الثاني هو أن لجنة تحقيقية تشكلت ، سُمِّيت (لجنة التحرّي عن الحقائق) أخذت تحقق في الفساد في وزارات الدولة ومديرياتها، فابتدأت بالمؤسسة العامة للأدوية، لأن رائحة الرشوة في استيراد الأدوية أزكمت الأنوف، ولخوف الدكتور كمال من هذا الأمر أيضاً، دفع رواتب موظفين من دون مباشرة، قد يزيد الطين بلّة، فأراد استرجاع المبلغ . لم يجب الدكتور كمال على كتابي . وبعد أسبوع كتبت رسالة أخرى إلى الدكتور كمال أخبرته فيها أن ينقض كتابه خلال أربع وعشرين ساعة وإلا (سأدع القانون يأخذ مجراه) . بعد ساعات من تقديم كتابي إليه جاء الدكتور كمال إلى المخازن الرئيسية فوجدني منهمكاً في العمل مع الموظفين والعمال في فتح صناديق الأدوية ، فقال لي : مرحبا سيد بهجت ، فأجبته بفتور أهلا دكتور. فسألني عن العمل ومدح (همّتي) ، وبعد ذلك سألني عن هذين الموظفيْن واقترح أن أدفع المبلغ إلى المؤسسة وبعدها أقيم دعوى قضائية ضدّهما لاسترجاع المبلغ منهما ! أجبته بأن لا علاقة لي معهما أبداً ، وأنَّ عليه ، الدكتور كمال، أن يلغي الأمر الصادر بتغريمي. عندها أخرج ورقة من جيبه وكتب عليها بالقلم الأخضر، الأخضر الفعّال، كلمتين: (سيد بهجت) ووضعها في جيبه! وكم كانت فرحتي كبيرة عندما استلمت في اليوم التالي كتاباً يقول (يُلغى أمرنا الصادر بتاريخ كذا… القاضي بتغريم السيد بهجت عباس مبلغ …إلخ). عندها تنفست الصّعداء وقررت أن لا أبقى في هذه المؤسسة إلا لحين حصولي على وكالة شركة أو شركات أجنبية ، وخصوصاً ألمانية ، ضمن مكتب علمي ، حيث أجيزت هذه المكاتب العلمية منذ عهد قريب على أن يكون مديرها المسؤول صيدلانياً عراقياً.

لجنة التحرّي عن الحقائق

شُكِّلتْ هذه اللجنة للتحرّي عن الفساذ الذي تراكم في المؤسّسات التابعة للمرسَّسة الاقتصاديّة بعد فشلها في أداء مهمّاتها التي أنيطت بها وكانت أول قضيّة ابحثها هي قضية الأدوية والمؤسّسة العامة للأدوية. فكانت تستدعي موظّفين من المؤسّسة العامّة للأدوية للإدلاء بما يعرفون. فبعد أيّام من (حادثة) الموظّفيْن الفضائيَّيْن استدعتني

لجنة التحرّي عن الحقائق كشاهد على فساد شعبة الاستيراد في المؤسسة العامة للأدوية، وقبل يوم واحد من هذا استدعاني الدكتور كمال وسألني عمّا سأقوله، فسألته بدوري وماذا تقترح؟ هل أقول ما أعرف؟ قال : قل ، والذي أعرفه عنه أنّه كان نزيهاً ، وربما لم يكن يعرف ماذا كان يدور في شعبة الاستيراد ، فهناك تحوم الشبهات وليس ثمة من دليل . كانت شعبة الاستيراد تتكوّن من الصيدلي وديع عيسى ، مدير الاستيراد والصيدلي بهنام ومدير الحسابات في المؤسسة وثلاثتهم مسيحيون ، ولا أعني أيّ شيء من هذا، ولم يكن السيد وديع عيسى إلا صفراً على اليسار بين الاثنين. لم تستطع لجنة التحرّي عن الحقائق بعد أن سألتني فيما إن كان ثمة (تلاعب) حصل في استيراد الأدوية ، فأجبتهم بعدم درايتي وكيف لي أن أعرف وأنا بعيد عن شعبة الاستيراد والمديرية العامة، ولكني أيّدتُ أن استيراد الأدوية لم يكنْ متوازناً ، فهناك استيراد أدوية غير ذات أهميّة بكمية كبيرة لشركات معيّنة وشحٌّ في أدوية هامّة لشركات أخرى يُستورد منها ما لا يكفي . اكتفت لجنة التحقيق بالنتيجة بأنَّ أعضاء لجنة الاستيراد تنقصهم الكفاءة والخبرة في العمل، وبعدها ، كما أعتقد، لم تنظر اللجنة في أيّة قضية أخرى من قضايا الفساد فقد أغلقتْ أبوابها .
د.بهجت عباس

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here