من حي الزنجيلي /الموصل إلى حي النصر /بغداد رواية/الفصل الثاني

ذياب فهد الطائي

شهقت امي وهي تفتح الباب، كان ظهوري مفاجئا لها ،في عينيها ترقرقت دموع الفرح ، فتحت ذراعيها كي تضمني ولكنها تراجعت وهي تلحظ العكاز في يدي اليسرى ،تجمد الدمع وأطل جزع عميق الحزن، تصلبت عضلات وجهها ،ظلت يداها الممدودتان معلقتان في الهواء وبدت عروقهما نافرة ، فيما لاح لي ان الجلابية السوداء التي ترتديها والملطخة ببقايا الطحين كانت شراعا ربما سيرفعها الى سطح البيت .

أغمظت عينيها ولطمت وجهها بشدة ،خمنت انها رأت ساق البنطال اليسرى فارغة .. وتحت أبطي عكازة ،لم تحتضني كعادتها بل تراجعت الى الخلف وهي تمسك بظلفة الباب.

كان أبي يجلس على كرسي من جريد النخل يعتز به ، تحت قدمية ترقد قطة عجوز مغمضة العينين ويبدو هو بنصف إغماضة يداعبه نعاس خفيف مما يلح على الكبار في السن ….قالت أمي :ابو غازي ،لقد عاد شاكر

فتح عينيه ونهض متكئا على ذراعي الكرسي الذي اصدر صريرا حادا ، لم يلحظ في عتمة الغرفة أني استند الى العكاز وأحتضنني بقوة وهو يشكر الله على عودتي

قالت أمي :إنتبه إنه يقف على العكاز

تراجع قليلا وقال :هل لديك إصابة في ساقك ؟

– نعم

-لا بأس ستشفى

أطلقت أمي تنهيدة عميقة وقالت –إن شاء الله.

وأنا اجلس لحظ أبي إن ساق البنطال فارغة ،تقلصت عضلات وجهه وزم شفتيه كأنه يحبس دفقا من الكلمات ، فيما شبك يديه على صدره بحركة احباط مستسلمة ، نظر الى صورة أخي المعلقة على الحائط وهو يبتسم على نحو يوحي بأنه يفكر في أمر ما ….حين غادرت البيت كانت الابتسامة تحمل أبعادا متناقضة ،أما اليوم فهي ترسم بعدا واحدا يحمل همّ التفكير في “كيف سنواجه الحياة ”

كانت أمي تداري خيبة أمل عميقة كنت أقرأ في عينيها المسار الذي كانت تأمله لحياتي حين أعود

*********

كان غازي إبني البكر هادئ الطباع يميل الى التفكير وقليلا ما يشارك الأطفال في العابهم بعد العودة من المدرسة ،في مساء صيفي حار تشيع فيه رطوبة تضغط على الانفاس عاد غازي من لقاء مع أحد أصدقائه ،في عينيه نظرة غريبة يختلط فيها خوف وترقب قلت له :ماذا لديك ؟

قال : شيء

-وماذا في جيب البنطال ؟

-أوراق للمراجعة

لم أقتنع ،مددت يدي ولكنه رفض ان يسمح لي بالاطلاع عليها فيما ارتجفت يده التي تقبض على جيبه المنتفخ بالأوراق ،

-غازي لن تدخل البيت اذا لم اطّلع على مافي جيبك

كانت الاوراق نسخا مطبوعة بحروف كبيرة ،في الأعلى كان العنوان العريض (بيان الحزب الشيوعي العراقي)

شعرت برجفة ،كنت في الصف المنتهي للدراسة الابتدائية حين إقتحمت الشرطة وبعض المدنيين مدرستنا ليسحبوا معلمة التاريخ من شعرها أمام المعلمات والطالبات ، وهم يوسعوها ضربا ويصرخون –شيوعية قذرة ،لن نسحلكم ولكنا سنقطعكم ونرميكم للكلاب في مديرية الامن

كان منظرا مرعبا بقيت أحلم به ،كان ذلك في عام 1975 ،ولم أجرؤ على السؤال ماذا يعني (شيوعية )ولكني ربطت بينها وبين التعرض لعقوبات قاسية وغير انسانية،

استعدت المنظر الذي مضت عليه سنوات طويلة ،شعرت بخوف طاغ تسبب في قشعريرة خضت جسدي، فيما ظل غازي ينظر نحوي بهدوء وينتظر ان أعيد له الاوراق ،كنت اقبض عليها بقوة وكأني أخشى ان تطير وان تندفع الى الشارع ليقرأها الجميع وليشهدوا ما ستقوم به الحكومة

قال غازي:هذه المنشورات أمانة فلا تتسببي بإحراجي

عرفت لاحقا انه يقوم بتوزيع بيانات الحزب الشيوعي ليلا ، لكني لم أخبر ابيه فقد كنت اخشى من سرعة غضبه

كنت أنام على الجمر( كما يقال) ليليا وفي النهار أعيش حالة إنتظار دائم …حين يذهب الى المدرسة وحين يقوم بزياراته المنتظمة الى زميله في مدينة الحرية ،وحتى حينما يخلو الى نفسه في غرفته الصغيرة ،حين ينام أدخل خلسة لأعرف ما كان يقرأ….كانت الكتب الصغيرة باوراقها المهترئة تبعث في نفسي الخوف

كان أبو غازي يتطلع الى الصورة المعلقة فيما ران على محياه هّم محبط يترسب ببطئ في مشاعره فتتيه نظراته وهو ينتقل بنظره الى شاكر الذي تتدلى ساق البنطال خالية والى جانبه عكازه الخشبي ،فيما كان شاكر يجلس صامتا محاولا ان يعطينا الفرصة لنستوعب الموقف الجديد.

تطلعت أنا ايضا الى الصورة الشاخصة على الحائط ، بعد اسبوع من اختفائه ، عندما أعلمنا زميله صالح بأنه تم اعتقاله وهو يوزع منشورا في أزقة مدينة الحرية …مرت ليال صعبة وأيام ملئى بالعذابات وانا ابحث في مراكز الشرطة ومديرية الامن ومقرات حزب البعث …كنت استلم إجابة موحدة “لانعرف شيئا عن ابنك “…وأخيرا قيل لي يمكن ان اراجع مستشفى مدينة الطب …..كان اخر دينار في بيتنا …في المستشفى قالوا بان عليّ ان أدفع ثلاثين دينارا لاستلام الجثة …. لم نقم له عزاء وتبرع الجامع بنقلة الى المقبرة ،اشترط إمام الجامع ان لا نتحدث بذلك مع أحد….لحظت ان غازي مرت على محياه مسحة رضى وهو يشاهد اخيه يجلس على ذات الكرسي الذي كان يستخدمه وهو يقرأ باوراقه المحرمة .

بحدس الأم كنت أدرك ان الكارثة قادمة لامحالة ، ولكني كنت عاجزة ان افعل اي شيء ،وكان ابو غازي يعاني من التهابات حادة في المفاصل تشتد علية ليلا فلا يجد للنوم سبيلا ، سيكون الحمل ثقيلا ولن يكفي عملي أمام التنور طوال النهار ….كان عشاؤنا في معظم الايام الخبز المتبقي بسبب عزوف الناس عن شرائه بسبب تعرضه للحرق في التنور لعجزي احيانا عن التقاطه في الوقت المناسب

قال شاكر –ساذهب اولا الى دائرة الصحة العسكرية لطلب ساق صناعية فقد يسمح لي ذلك بحرية اكبر في الحركة

لم أتماسك جرت دمعتان شعرت بهما تتدحرجان بخط يشع حرارة.

********

وانا أضع العكازة في المقاعد الخلفية لسيارة الاجرة واجلس الى جانب السائق ، كانت امي ترمقني بنظرة حزينة وهي تنحني لتلصق رغيف الخبز في التنور ،شعرت باني مذنب تم مسكه بالجرم المشهود فتقلصت ملامح وجهي بحدة وبخليط من توتر عاطفي فانا احب امي ،وأن وغازي لم نعطيها غير القلق والخوف وخيبة الامل ،حين غادرت البيت لألتحق بوحدتي العسكرية وقفت ترمقني باعجاب

قالت –عروستك بانتظارك ،سارقص بعرسك كما لم ترني من قبل وستملأ البيت اطفالا

كنت في طريقي الى الطبابة العسكرية ،شعرت وانا ابذل جهدا مضنيا لأدخل الى جانب السائق ، بأني يحمل بعضي بعضي ،حاول السائق مساعدتي الا إني رفضت فعلّي ان اتمرن على الاعتماد على نفسي ،وضعت الملف الذي يحتوي الاوراق الرسمية التي ساقدمها ،كان الملف يتضخم كلما غادرت وحدة صحية،حين نقلت الى اخلاء وحدة الميدان الصحية ،كنت في شبه غيبوبة بسبب النزف الذي استمر لساعات طويلة ، قيل لي انهم بذلوا جهدا مضنيا لإيقاف النزف سيما وان الطبيب الذي يشرف على وحدة الميدان اصيب بانهيار بسبب ضغط العمل ،وتولى العلاج مساعد طبي ،حين افقت قدرت كم كان الرجل شجاعا

بعد يومين نقلت الى مستشفى ميداني متقدم كان قد أقيم على عجل ،في المستشفى كنت اسمع اصوات الانفجارات وأرى البريق الخاطف لقذائف المدفعية ، كان العدو شرسا، وفي قناعته انه سيذهب الى الجنة ولهذا فقد كان متمترسا بكل عنفوان التطرف العقائدي

وفي المستشفى تم بتر ساقي اليسرى ،قال الطبيب – أنت تواجه خطر الغرغرينا

قلت- يمكنك ان تعمل ما تعتقده مناسبا ،انا في غير وارد اتخاذ قرار

حين صحوت دار في مخيلتي أن أرى ساقي المبتورة ،ولكني لم أستطع ذلك ،في اليوم الثالث تيقنت اني فقدت بعضا مني، كانت مشاعري خليطا من الاستغراب والأسف الممزوج بمرارة إن هذا الفقدان لن يعوض

فضلت متابعة الساق الصناعية على المراجعة لمستحقاتي المالية و الراتب التقاعدي ،عرفت ان امي فهمت السبب ،كان ذلك في نظرتها وهي ترمقني وانا أرتب أوراقي مساء اليوم السابق ،ابي لم يبدو عليه انه مهتم بكل ما يجري ،كان ينتظرني ،ودهمته المفاجأة فصمت كمن يبحث عن سر يشغله في عوالم غير مرئية

كانت ساقي التي تركتني ربما أكلتها قطط وكلاب الموصل السائبة والتي فقدت كل أمل برعاية إنسانية …قد يبدو هذا التفكير حافة الجنون ،ولكنه قطعا لا يمكن ان يصل الى الجنون الذي يتملك العدو والذي يدفع به الى مواجهة النيران الزاحفة حد مواقع تمترسه أو ان يضغط مختارا على زر التفجير ليتطاير في الهواء.

لم نك بعد قد وصلنا ساحة التحرير حين دوى انفجار هائل ،توقف السائق فيما ارتطمت عشرات العجلات ببعضها ، شعرت بألم طاغ حين اصطدم المتبقي من ساقي الهاربة برفرف السيارة وتخيلت ان نصب ساحة التحرير تتطاير سادة الفضاء بحركة إحتجاجية صاخبة ،الموت يتمدد في كل مكان في الجبهات الشمالية وفي بغداد ،وكأنه يمارس لعبة لإختبار الصبر والمطاولة ،وفي المدن التي لا يستخدم فيها المتفجرات والمدفعية وغارات الطائرات فانه ينوّع في فعاليته بالاسلحة الكاتمة للصوت.

السيارات المتكدسة على جانبي شارع السعدون تصدر عنها اصوت تمثل فوضى ما يجري ، حيث تختلط أصوات غناء ديني حزين ونواح شعبي يبكي بحرقة و ملانسات السواق وهم يتشاتمون عابرين الموت الذي عرّش في ساحة الطيران . من محل للأشرطة على الشارع ينطلق مغن بصوت رخيم واسع

ولك ياريل …صيح بقهر

صيحة عشك …ياريل

يضرب صاحب محل الأشرطة كفيه ويدلف ليسكت الشريط

قال السائق –بأي وجه صبحّنا اليوم !!!

لم أشعر بحساسية قلت –كله مقسوم

-نعم ولكن ألن تتعدل هذه القسمة

-يمكن إذا تجمعنا موحدين فالقسمة مسببة

-لا ادري ،ولكن هذه الحياة تحكمها اشباح الموت

مرقت سيارات الاسعاف وهي تطلق أبواقها على نحو متصل ، تتخاطف مصابيحها الملونة ضوء الشمس المتسلل عبر البنايات الشاهقة ويصبح المشهد بجملته كأنه لقطة سينمائية لمخرج خدع امريكية .

قال السائق- نحن في آخر الزمان ولو كان البغدادي أعورا لتحققت النبوءة ،هل تعتقد انه يمكن ان يكون الدجال بعينين سليمتين؟

لزمت صمتا حذرا، ففي ساحة هذا الحديث تختبئ الشيا طين ،قد يكون بعضها صغيرا ولكنه ممتلئ بالخبث ،كان مدرس التاريخ يقول وهو يخرج عن السياق لموضوعه على نحو ملفت للنظر (لا تتحدث مع غريب بالدين او السياسية ) ويضيف للنكتة (وبالطبع للمرأة أيضا)

كانت القصص التي تصلنا عن التصفيات على الهوية او الايقاع ، بسؤال ملتبس تؤكد صحة نظرية استاذنا

وعلى قدر ما أ تذكر ،فان لأخي غازي رأيا أكثر تشددا فقد كان لا يشارك بأي حديث سياسي علني في المقهى أو على ناصية الشارع ،أما الدين فقد كان يحرص وبعناية على عدم التطرق له ،وفي تعليق له على كتاب قديم ،كتب (تظل ثوابت الايمان الاسلامي على وجه الخصوص غير خاضعة للنقاش المنتج ) ، وحين نضجت وتوسعت قراءاتي في الجامعة ،كنت اعجب من قدرته على وضع الدين في منطقة محايدة على نحو مطلق، في حين ان الماركسية التي كان يحمل الواحها بين ضلوعة تقف في جانبها الفلسفي ضد المثالية.

قال السائق-نتوكل على الله

بدأت السيارات بالتحرك ببطئ ، تجاوز قائدو المركبات كل اسباب الخلاف التي فجرت سيلا من العبارات النابية والقاسية ،وكأن كل مامر هو فعلا مشهد في فيلم امريكي للاثارة ،حين ادار السائق مفتاح المذياع في سيارته كانت إذاعة بغداد تنهي اغنية حماسية لتذيع خبر التفجير في ساحة الطيران ، ولم ينس المذيع ان يؤكد… انه استشهد في الهجوم البربري اربعة عشر مواطنا وجرح خمسة وثلاثين من العمال المتجمعين بانتظار فرصة عمل وثلاثة من المارة.

فكرت لو انا سلكنا طريق ساحة الطيران لكنا اعدادا في المجموعة التي اعلنها راديو بغداد.

بدأت شمس آب ترتفع مجتاحة الشورارع العريضة التي ضاقت بالسيارات، وتغلغلت في الازقة الضيقة الرطبة جراء المياه الساقطة من مجاري البيوت والشقق .

داخل السيارة كان للشمس ولآب فعل آخر معي ، فقد بدءا يضغطان على جسدي لينز عرقا ، وبدأ تكور ساقي من المكان الذي هربت منه يعاني من خدر وتنمّل، يلح علي بان اتذكر بعضي الذي تركني ولا أعرف اين هو الان .

اعتذر السائق بخجل لأن محرك زجاج النوافذ اليدوي معطلا.

:انت ترى إنا شبه عاطلون عن العمل بسبب الزحام والعطل وقطع الشوارع ، ما أحصل عليه لا يكفي الخبز .

تذكرت أمي وهي أمام التنور مكشوفة لشمس آب وللهب التنور، وشيلتها وصدر جلابيتها السوداء ملطخان بالطحين وببقايا العجين….انها ايضا تعمل من أجل الخبز ، تحسست الملف .

على الجدار لقاعدة الجسر الذي يرتبط بجسر السنك ،هناك العشرات من اليافطات السوداء تحمل اعلانات موت اشخاص مختلفين في المعارك ،لم اعرف احدا منهم، في الزنجيلي سقط العديد من زملائي ،كان نثار الدم يغطي ملابسي ولكني لم أكن افكر بالموت ،كنت أفكر بالهدف التالي ،فحين يسكن الموت معك فانه لا يشغلك كثيرا.

لم أشاهد العدو وهو يواجه الموت الذي يحمله ،كنا نسكن في ظلاله ،ولكن ما شاهدته اشلاء متناثرة ، اما الوجوه حيث يمكن ان تقرأ عليها ما يختبئ في حنايا الانسان فقد فقدت ملامحها تماما .

كنا نتعايش في دكنة ينبئ عن وجدودنا حرارة الانفاس ،وحين نخرج للضوء فانا نفترق ويربط بيننا هدير الدبابات واطلاقات المدفعية التي تطوي المسافات لتستقر بديلا عن الجدران التي يتحصن فيها العدو.

يبدو الامر وكإنا قادمون من زمانين مختلفين رغم إنا نستخدم المعدات وأدوات القتل التي تنتمي الى الحاضر ،في الصور التي رأيتها على التلفاز لمجموعات من العدو وهي تذبح اسراها كنت اعود بفكري الى عمق التاريخ العراقي حيث يحسم الخلاف بالذبح وحيث يقررون “نحن وحدنا ” في حين نحاول ان ننتمي الى هذا الحاضر بكل تناقضاته وتبايناته ولكن ما يطرح العدو، أن يظل يحمل هاجس

الموت ،لأنه يحملهم الى الجنة ، أما نحن في الجهة المقابلة فلا سبيل امامنا الا قتلهم ،هذا القتل بتفويض من الدولة بكل مؤسساتها اي اننا نعمل بقانون نشر في الجريدة الرسمية التي قرأوها كما أظن

بدأ العرق ينساب الى عيني فتناولت بضع اوراق من الكارتون الملصق أمامي

قال السائق –لم يتبق الا القليل

لم ارد عليه وتشاغلت بمسح وجهي ، فوق جسر السنك تقف السير كلية ، كانت سيارة قد تعطلت ونزل السائق الذي بد ا عليه انه موظف قد تأخر عن الداوام ، رمي قميصه الخفيف وفتح غطاء المحرك ،شتم الحكومة والمعارضة وامريكا وايران ووضع يديه حول خصره وصرخ:لقد اتلفت الحرارة المحرك ……هل من شريف يعلمني ماذا افعل .؟

لم يتحرك احد ،كان ركاب السيارات على الجانبين يرمقوه بلا مبالاة ،التفت سائق السيارة التي استقلها

قال – ارجو ان تسمح لي

لم افهم ما يقصد فقد ترك الجملة معلقة ونزل متجها نحو السيارة العاطلة ،دار حديث قصير بينهما .

******

أوقف السيارات النازلة الى شارع الرشيد وبدأ يتحرك ببطئ مناورا للتقدم ، ربط السيارة العاطلة وقطرها حتي نهاية مقترب الجسر وساعد سائقها بركنها جانبا

شعرت ان حربا من طراز آخر بدأت أخوض غمارها بساق واحدة ، وما يتوجب هو ان ادرس جيدا معطيات هذه الحرب ووضع الخطط المناسبة ،حينما نقدم على مرحلة جديدة فسنقوم بوضع الخطوط العريضة لمساراتها محددين نقاط الانتقال.

حوم فوق دجلة طائرا نورس ،سقط احدهما عموديا الى الماء ، راقبته وهو يلتقط سمكة صغيرة ،توقف الثاني فوق صفحة الماء الساكنة وضم جناحيه ساقطا بسرعة مدهشة وغاص لثوان ولكنه خرج خالي الوفاض .

قال السائق –متى ستختلف ايامنا ،اعني ان يكون لكل نهار لونا خاصا .

********

كانت ام غازي الواقفة على التنور تستعيد احلامها ، مأخوذة بالزي العسكري الذي دخل فيه شاكر الى البيت عصر يوم شتائي بارد ،كان شاكر طويل القامة دقيق الملامح تختبئ في عينيه شديدتا السواد ومضة غامضة ،وكان في ملابسه الجديدة يخطر مزهوا ،من ستكون عروس شاكر ،هذا ما ملئ فكرها وهي تستعرض فتيات الحي ،ربما ابنة (قند ) فهي مثل امها بضة بيضاء ناعمة …حلاوة ربانية ..تركت الدراسة الثانوية لتساعد امها في العمل ….كانت الام قد وجدت طريقا لتلبية احتياجات بعض العوائل التي ليس لديها وقتا كافيا للطبيخ…..شعرت ام غازي بشيء من الحرج وهي تنسى غازي تماما…الأمل اكبر من الاحزان ….ولكن بالساق الهاربة من شاكر تكبر الاحزان ،زمت شفتيها بعد ان ملأت خياشيمها رائحة الخبز المحترق .

في الداخل كان ابو غازي يشعر بغربة وهو يتطلع حوله وكأن المكان قد تغيرت ملامحه…فصل من عمله بعد اعتقال غازي ، جرب عددا من الاعمال الشاقة فهو لم يكن يحسن عملا معينا ولا حرفة رائجة ،كانت رؤية المكان الخالي للساق الهاربة قد اصابه بذهول اقرب لحالة غيبوبة ….في ذهنة يتداخل غبش الفجر الصيفي الباهت مع ظلمة المساء الخفيفة ، فيما رؤى ملتبسه تتراقص في ذاكرته.

********

هنا كان يكركر غازي ، كنت اشعر بنشوة غامرة بعد ان اشترينا البيت الصغير وتركنا الكوخ الذي كانت تسكنه رائحة عطنة حين ينسد مجرى المياة الآسنة بسبب النفايات ويتأخر رجال البلدية وسيارتهم الكبيرة،كانت الرائحة كأنها تحجب الهواء فنشعر باعراض الاختناق ،كنت احدث جارنا الجديد وهو شرطي في كمرك الشلامجة على الحدود الايرانية في اقصى الجنوب ،كان يزورنا ليوصينا بعائلته عند غيابه ، فهو مضطر للعمل هناك لتحسين وضعه المعاشي فالراتب لا يكفي الملابس المدرسية لابنتيه ، في الشلامجة الخير وفير ،قال غازي الرائحة تمتص الاوكسجين وهو ما يسبب صعوبة التنفس ،لم اعلق أما جارنا فلم يبد اهتماما ،استمر يتحدث عن خيرات الشلامجة .

غازي يكبر بهدوء ولكن بتأثير متزايد على مجمل حياتنا ،كنت اقف عاجزا عن الرد على تساؤلاته ،قالت اخت زوجتي وهي معلمة وقليلا ما تقوم بزيارتنا ،غازي فيلسوف ،وحين سألتها زوجتي ماذا تقصد، قالت – سيكون صعبا وربما متعبا فهو يحمل هما خفيا .

عرفت همّه وانا اسمعه يتحدث مع زميله –بدون السلطة لا يمكن اجراء اي تعديل قال زميله-ولكن المرحلة التاريخية …..

لم يتركه يكمل –مادام الامر يعود ثانية الى المرحلة التاريخية فلنترك الحديث

وما فكرت به إنهم شباب بلا تجربة ليعتقدوا إن منشورات تطبع في الليل وتوزع في الليل ايضا يمكن ان تساعدهم على استلام السلطة ،وحين حاولت ان اعلم غازي بذلك قال- الحجي اصابته العدوى ….هذه هي بداية الطريق

وحين اختفى ،كنت اعرف تماما إنه بيد السلطة ،وتولت امه البحث عنه في مراكز الشرطة ، في المنطقة اولا ثم امتد بحثها الى كل مركز شرطة او دائرة امنيه في بغداد ،وكنت اعرف انه لن يعود .

*******

كان على أم غازي ان تطعم زوجها فهو غير قادر على خدمة نفسه ،

قالت –لقد جاءتنا اختي بدجاجة وقد اعددت لك شوربة دجاج بالخضار

اغمض عينيه موافقا،…..تابعت

-وجاء شرطي الشلامجة يسأل عنك ،وقد تأثر كثيرا بما تعرض له شاكر وحاول ان يعطيني مبلغا كمساعدة ،لكني رفضت بشدة وشكرته فالأمور مستورة والحمد لله ،كما إن شاكر اعطاني ، لم يقصر معنا فقد اعطاني الكثير.

تطلعت الى الشارع السريع الذي يفصلها عنه دربا خدميا وسياجا من الاسلاك الشائكة ،الشارع المكتظ بالسيارات التي كانت تطلق اصواتا حادة دونما مبرر فيما يمسح سائقوها العرق من وجوههم ، كانوا يطلقون شتائم في بعضها بذاءة ولكنهم لم يكونوا متحرجين وهم يستمعون بعضهم الى البعض الاخر.

الحياة تستمر …ومن ذهب لن يوقف هذا الجريان ومن بقي سيسبح في تيار الفوضى ….هل سيتمكن شاكر من الوصول الى شاطئ ما ؟ ولماذا يحصل لنا كل هذا العذاب ….غازي يذهب وشاكر بساق واحدة وابيهما بين الحياة والموت!!!!أي عين شريرة أصابتنا ، تذكرت انها قبل اختفاء غازي كانت تدخل المتبقي من الطحين والخبز غير المباع وتدخل الدار ، كان الوقت مساء وقد بدأ الظلام مبكرا وهدأت جلبة السيارات ،وهي تعبر عتبة الباب الخشبي الذي يصدر صريرا عاليا وهي تفتحه او تغلقه ،سمعت صوت استغاثة مكتومة وكأنها صدرة عن طفل تعرض لأذى ، قالت زوجة الشرطي في الشلامجة – العياذ بالله ….لقد آذيت أحد أطفال الجن الذين يخرجون مساء ،الفسحة الوحيدة المسموح بها لهم باللعب ففي هذا الوقت تقل حركة البشر ….عليك أن تنذري لفك أذية الجن عن عائلتك أو أن تذهبي الى الشيخ الكوفي في المنصور ليجد له رقية مناسبة

قال شاكر وهو يبتسم –لقدهاجر الجن من العراق قبل عشرين سنة ،واطفالهم كبروا الان وهم توقفوا عن الانجاب .

قالت زوجة شرطي الشلامجة :انت تسخر مني ، الجن موجودون قبائل وعشائر مثلنا وهم مذكورون في القران ….هل تؤمن بالقران ؟.

شعر شاكر انه وقع في كمين لم يتوقعه ،فهو على بساطته ،معد بعناية شديدة ، رغم إن زوجة الشرطي لا تدرك ذلك .

قالت ام غازي :النذر اسهل

قالت زوجة شرطي الشلامجة :قبل ذلك يجب ان ترشي الحرمل على عتبة الدار وان تقرأي سورة الجن لثلاث أماس

قال شاكر-ترش الحرمل في الداخل والخارج ، ولكن أين تقرأ سورة الجن

قالت المرأة –في الخارج لتمنع الجن من الدخول او الاقتراب

شعرت ام غازي بقشعريرة باردة وهي تتخيل عشيرة الطفل وهي تطالب بالفصل تعويضا عما لحق بابنهم .

فكر شاكر إنه لولا هذا الايمان البسيط والسلس لاصبح العراقيون كلهم مجانين، الإيمان يمنح الامل مساحة أوسع في نفوس الناس وفي تفكيرهم ، والأمل يمنحهم القدرة على تحمل كل هذه المآسي التي تفّرخها الفوضى. .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here