الرقم -1- في العراق

علي علي

بنظرة خاطفة الى تأريخ العراق، يتضح لنا ان ساحته السياسية لم تخلُ يوما من اضطرابات وقلاقل، كان جلها نتيجة أطماع في اعتلاء كرسي السلطة، وصراع على مقاليد الحكم فيه، بدءا من العصر العباسي، ثم عهد الاحتلال العثماني، وآخرها التغييرات المتتالية في نوع الحكم والشخوص والعائلات الحاكمة خلال القرن العشرين، والذي تداول فيه نظام الحكم بين الملكية والجمهورية. والى يومنا هذا مازالت الساحة زاخرة بكم هائل من الصراعات والخلافات. وقطعا هناك فروقات جمة بين حكومات الأمس البعيد قبل قرون، وحكومات القرن الماضي والحكومات المعاصرة في القرن الحادي والعشرين. ففي الحكومات الغابرة كانت جل مشاكلهم من تدخلات دول الجوار، اما المشاكل الداخلية فكما روى لنا التاريخ، كانت تـُحل بجلسات بين شخصيات ذات مكانة اجتماعية مع كبار الدولة، ولم تكن الحياة العامة تتأثر أغلب الأحيان بتغيرات رؤوس الحكم، وكان البلد سائرا في ركب التطور وان كان سيرا سلحفاتيا وئيدا تارة، وحثيثا تارة أخرى.
وشئنا أم أبينا، فقد سجل التأريخ لحقبة الملوكية حرص حكامها على مصلحة العراق، رغم انقيادهم خلف العم سام والائتمار بأوامره، والسمع والطاعة اللذين كانا السمة الغالبة لساسة تلك الحقبة صوب لندن.
فمما سجله التأريخ أن (راديو بغداد) أو (إذاعة بغداد) هو ثاني محطة اذاعية صدح صوتها في الوطن العربي، بعد إذاعة القاهرة، حيث افتتحت رسميا بتاريخ 1 تموز/ يوليو عام 1936 أي بعد سنتين من افتتاح الإذاعة المصرية.
أما التلفزيون، فقد بدأ أول إرسال لـ (تلفزيون العراق) في الأول من أيار/ مايو 1956، مسجلا بذلك سبقا بين الدول العربية، كما يعد التلفزيون العراقي أول محطات التلفزيون الناطقة باللغة العربية عالميا على الإطلاق. ولو أردنا إحصاء مفردات التطور ودخول آلات التحضر وأدوات الازدهار الى العراق، في مجالات الصناعة والزراعة والطب والتعليم والعمران، للمسنا الانفتاح الهائل في نهج حكومات الحقبة الملوكية، مقارنة بحكومات الدول العربية آنذاك.
ولم يقف الانفتاح بعد ثورة 14 تموز عام 1958، بل انطلق نحو ذروته في غضون السنوات الأربع من الحكم القاسمي. ولن أنحاز في حديثي إن شهّدت التأريخ على إنجازات حكم الحقبة البعثية، فمع سلبيات هذه الحقبة الكثيرة جدا، إلا أن الانفتاح لا يمكن نكرانه لمن أراد ذكره بحيادية وإنصاف.
اليوم، وقد دخلت التكنولوجيا والعلم مفاصل الحياة جميعها، بما يسهل ويعجل تقدم البلدان التي يضع حكامها مصالح شعوبهم من أولويات جداول أعمالها، ماذا يحدث في بلدنا لاسيما أنه البلد الذي شـرّعت فيه أول القوانين، وكـُتِب فيه أول حرف، وغير ذلك من الاختراعات التي كان سباقا بها، والاكتشافات التي كان رائدا فيها. ماذا لو قارن أي مُنظـِّر بين مايملكه العراق من رصيد تاريخي في العلوم والمعارف، وكذلك في الأمجاد والبطولات، وبين ما يملكه اليوم من رصيد منها نسبة الى باقي الامم؟
أظن أن عملية حسابية بسيطة للغاية في النسبة والتناسب، توضح الفرق بين العراق في التقدم التكنولوجي والعلمي وبين أمم وُلِدت بعده بقرون. فهو مازال يسير سيرا متلكئا، على الرغم من الفارق الزمني والطفرات العلمية والتكنولوجية التي تستحدث بين حين وآخر في العالم. فقد ملأ أجدادنا المكتبات بأبحاثهم واكتشافاتهم واختراعاتهم في العلوم كافة، غير أن حكومات مابعد عام 2003 لم تولِ العلم والعلماء اهتماما مناسبا، فجنت على البلاد برمتها، بارتكابها خطأ كبيرا في التعامل مع هذا الكم الهائل من الموسوعات، إذ ظن حكام العراق ان إرث البلاد الحضاري يُحفظ في الأدراج والدواليب، وعدّوه كنزا ضموه كملكية خاصة مع التيجان والأموال والقصور والضيعات، ليكون رصيدا يجيّر لحسابهم وحساب عوائلهم وأحفادهم، وليس لأبناء هذا البلد. وبذا نهضت شعوب الأمم من حولنا وتنعمت بالرفاهية والحداثة في وسائل العيش، فيما حكام وادي الرافدين -الحاليون- مافتئوا يغذّون الجدالات والصراعات والخلافات والاختلافات فيما بينهم شر غذاء، ودأبوا على إذكاء جمر المناكفات والتهديدات والوعيدات، بما يؤجج المشاكل ويثير القلاقل كلما خفتَ سناؤها وخمد لهيبها. الأمر الذي خلف سلبيات وأفضى الى ترديات في أوضاع البلد سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا.
وما زاد الطين بلة، بروز أحزاب وكتل يرى رؤساؤها وأعضاؤها ان الساحة لاتصلح إلا للبهلوانيات، فظهرت -كنتيجة حتمية- أساليب جديدة في إدارة مؤسسات البلد، والتي تسيّرها تلك الأحزاب والكتل، بعيدا عن التكنوقراط قريبا من المصالح الأنانية، تاركين حبل الإدارة الصحيحة للبلد على الغارب، فطفح -كتحصيل حاصل- زبد غير مرغوب فيه، وطافت على السطح جيف تسلطت على مراكز القرار وصنعه والتأثير عليه، فآل المآل الى مانحن فيه اليوم، حيث البلد يسجل في إحصائيات الفساد الرقم -1- وفي انعدام الأمن الرقم -1- وفي تردي الجانب التعليمي الرقم -1- وفي تدني الجانب الصحي الرقم -1-… وتطول قائمة الرقم -1- الى ما لاتحمد عقباه.
[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here