قي الدين والدولة … ما بعد العلمانية

البروفيسر خليل شمه

لن نجانب حقيقة مفادها ان الاستبداد الديني عبر تدخل الكنيسة في شؤون الاقتصاد والحياة الاجتماعية الذي ساد الدول الاوربية في القرون الوسطى كان من شأنه خلق هشاشة في المنظومة الانسانية المجتمعية واتاحة ظروف ميسرة لظهور ما نسميه بـ ” العلمانية Secularism “. كاتجاه فلسفي لسيرورة الحياة على مبادئ قيام دعائم مجتمع بعيدا عن الدين وتعاليمه والاكتفاء بالعقل والعِلم البشريّ الذي توصّل له الإنسان عبر الزَّمن، لذلك هناك من عرّف العلمانيّة بأنّها الدُّنيويّة أو اللَّادينيّة حيث إنّها تقوم على إقصاء الدِّين من حياة النَّاس لتحلّ محلَّها القوانين الوضعيّة، وقد ساهم العديد من المُفكرين والأدباء في دعم هذا الاتجاه من مختلف العصور ولعلّ من أبرزهم: نيتشة، ودور كايم، وكارل ماركس، وجان بول سارتر، وفرويد، ومصطفى كمال أتاتورك وغيرهم،

في القرن السابع عشر للميلاد تمّ تعزيز أفكار العلمانيّة بعد ظهور الحاجة إلى فصل الدولة عن الكنيسة في أوروبا بسبب انتشار التأثير الكنسيّ على كلٍّ من السياسة والاقتصاد كما اسلفنا، إضافةً إلى ظهور العديد من التأثيرات السلبيّة الناتجة عن الحروب بين الطوائف المسيحيّة الأوروبيّة، والتحدّي الواضح بين العِلم والمَعارف الدينيّة. وفي نهايات القرن العشرين للميلاد أصبحت العلمانيّة من المُصطلحات والتنظيرات الفكريّة المُنتشرة على نطاقٍ واسع.

وقد مرت العلمانية بمرحلة اتسمت بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة (النظريات الاقتصادية اعتمدت المادة وتحرير التجارة كقاعدة لمنظومة الحياة الاقتصادية والاجتماعية) ، فكانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون، ولذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل والاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية. واستندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية وتتبنى العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، وانعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقيّة ومادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة، وتآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة (واحدة من افرازات العلمانية المعولمة). وهي مرحلة انظلاق لمرحلة الحداثة حيث استبدل الاستعمار العسكري (احتلال) باشكال اخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي واتجاه مجتمعاتها نحو الاستهلاكية الشرهة.

واضحت ما اوردناه الى مرحلة اصبح فيها الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه الحرية واللهو والتملك، واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرّر إلى قضايا المحافظة على البيئة والمساواة بين المرأة والرجل وبين الناس وحماية حقوق الإنسان ورعاية الحيوان وثورة المعلومات. من وجهة أخرى ضعفت في المجتمعات الصناعية المتقدمة مؤسسات اجتماعية صغيرة بطبعها مثل الأسرة، بسبب الأسهاب في مسالة المساوة بين الرجل والمرأة، وظهرت بجانبها أشكالاً أخرى للمعيشة العائلية مثل زواج الرجال أو زواج النساء، وزاد عدد النساء اللاتي يطلبن الطلاق فشاعت ظاهرة امرأة وطفل أو امرأتان وأطفال، كل ذلك مستنداً على خلفية من غياب الثوابت والمعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي يتيح بدائل لم تكن موجودة من قبل.

ان تصحيح الاختلالات التي ظهرت في مجتمعات العلمنة والقضاء على ذلك التفاوت والتباعد بين قطاعات عديدة من المجتمع، ومحاولة إبراز اللحمة الجماعية في شكل تواصلي جديد ليس إلا محاولة لإعادة النظر في واقع العلمانية تمهيدا لمرحلة ما بعد العلمانية والتي تعني ما تعنيه الاعتراف بشكل خجول بدور الدين كمؤثر للطبيعة الانسانية والتخل عن نشر العلمانية الاقصائية المدمرة للذات.

أن فرض نموذج عدائي تجاه الدين باعتباره منافساً لها في إطار ما تسميه سعيها لتحرير الوعي الإنساني هوسلوك معرض للفشل اذا لم يتم الاخذ بنظر الاعتبار ما يحمله الدين من رسالات تدعو الى العدالة والمساواة والتسامح.

اننا ندعو المجتمع الدولي الى التخلي عن العلمانية التقليدية المدمرة للذات الانسانية بل نطالب بتاطير سلوكها بالاطر السماوية الطاردة للارهاب والعنف والوقوف ضد محاولات نفر ضال مستغلين الديانات السماوية بما يخدم مصالح فردية تنخر بالجسد الحي للمكونات المجتمعية ليعيدونا الى عصر الظلامية ….فظهور مصطلح «ما بعد العلمانية» على أساس أنه مؤشر على تطور واع للبشرية وتجاوزا للفهم المتطرف لدى جماعات الاسلاموية الارهابية هو الاساس لخلق ترسيما اكبر للتوجه صوب مجتمع مسالم عادل تسوده المحبة وتبادل المنفعة المادية والتكنولوجية.

Prof.PhD. Khalil Shamma

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here