من حي الزنجيلي /الموصل إلى حي النصر /بغداد

04-07 -2017
رواية
ذياب فهد الطائي

الفصل الثالث

يمكننا أن نسامح بسهولة الطفل الذي يخاف الظلام، أما مأساة الحياة الحقيقية فهي عندما يخشى الرجال الضوء“
 أفلاطون

وقفت جانا عند بوابة المستشفى أمد يدي الى المغلف الذي حرصت ان تبدو زاويته خارح السحاب الذي اغلقته الى اكثر من ثلاثة ارباعه .
كانت بوابة المستشفى مشرعة يقف عندها شرطي يحمل بندقية كلاشنكوف، وعلى طول ممر قصير كانت حشائش متنوعة وبعض الاوراق العالقة، ،الى الجانب قناني مشروبات غازية لم يجر التقاطها .
استقبلني عند البوابة الداخلية جندي يجلس الى منضدة خشبية متهالكة شملني، بنظرة فاحصة ركزت على العكاز .
-هل اوراقك كاملة ؟
-على حد علمي… نعم
لم يحظى جوابي برضاه فقد بدى له ساخرا أو ربما عائما لا يكفي ، شعرت بانه متردد في التعليق ،ربما بسبب ما أعانيه ،
مرت امرأة يتكئ الى كتفها شاب فقد ذراعه الأيمن ،في عينيها تتلألأ بقايا دموع لم تمسحها ، تنشر في ملامح وجهها سكينة مستسلمة وكأنها تعبر عن رضاها بقناعة مطلقة انها محظوظة لأنها لم تفقده ….أن يفقد ذراعة ليس امرا يجعلها تعيش عذابات فقده .
قال الجندي وهو يضع ملفي على الطاولة أمامه :بالسلامة سيدي .
أومأ الشاب برأسه في حين واصلا خطواتهما البطيئة الى الخارج ،لحظ الجندي تساؤلي،
قال-الملازم مدحت أبوه لواء ركن كنت أعمل في فصيل حمايته.
تابع وهو يلتقط ملفي ويبدأ بفحص المستندات :-يمكنك ان ترتاح لأستفسر عن موعد مقابلتك اللجنة الطبية.
الكراسي الخشبية في الممر الطويل تصدر صريرا وهي تتلقى اجساد المراجعين المنهكين وهم يرمون بانفسهم ضجرا وتعبا .
كنت دائما أشعر بالحرج وانا أزور بعض الاصدقاء في المستشفيات ،لأني لا أخفي ضيقي وانا استنشق رائحة حادة تصدمني ، في المستشفيات تجد القطط السمان والجرذان تتعايش بسلام ،وفي الممرات وفي الحدائق “وهذا تعبير مجازي “تسرح القطط وقد تخلت عن الخوف الذي يلازمها من الغرباء ، كما لم تعد تعير صرخات الاستنكار لتجولها بين المرضى ، الممدين على الاسرة الحديدية أو الزوار المفترشين أرض الغرف وهم يشربون الشاي البارد.
الممر مشغول بالكامل ،على الكراسي المرصوفة الى الحائطين المتقابلين جنود بإصابات مختلفة ، يلتقون في حالة من المشاركة ، بتعب مضن، وراء الابواب المغلقة مجموعات من الاطباء وبعض العسكريين يشكلون لجانا لفحص الملفات للعسكريين المصابين في الحرب ،وحين ينفتح أحد الأبواب ليخرج العسكري الذي انهى مقابلته يتطلع الجميع بانتظار، برجاء الدخول لمقابلة اللجنة، كان الجندي في الإستعلامات يصّر على أن يكون الحديث همسا ،قال جندي يجلس الى جاني وهو يكمل حديثه مع جندي يجلس مقابلا – ليشملنا الرب برحمته
قال الجندي المقابل –الأخ كاثوليكي أم بروتستاني ؟
-أرثوثكسي
-هممممم
في المستشفى يدققون ملفات القادمين الجدد بعناية فائقة وقد وجدت ان الأمر
لا يخلوا من المفارقة ،حين قال جندي يحدث زميله – لقد هرب المقاول بكل الاموال التي استلمها ، وترك الشارع أمامنا وكأن عمليات تخريب متعمدة شقت وسطه والقت الاتربة على الحانبين ،ويتعذر الان دخول السيارات اليه ،كما إنا نترقب الشتاء بقلق .
-ولكن هل يبقى على حاله حتى الشتاء ، قال الجندي المجاور.
-نعم ….لقد هرب بكامل تخصيصات المشروع.
أومى إلي جندي الاستعلامات أن اتقدم نحوه .
–موعد مقابلة اللجنة الطبية بعد عشرة ايام
سلمني ورقة صغيرة عليها التاريخ والوقت وختم المستشفى ،لم أودع أحدا وأنا أغادر المستشفى.
حين كنت في مستشفى الميدان الخلفي ،كنت اتشاغل بالنظر الى الخارج عبر الشباك الزجاجي ،لم تكن الرؤية واضحة تماما بسبب ما تراكم على الزجاج من اتربة ،حولت الامطار بعضها الى لوحات سريالية تتخللها خطوط خلفها تراكم الغبار بينها مساحات ،هي التي تتيح لي الرؤيا ،غير بعيد كانت هناك ثلاثة براميل كبيرة أستعملت مكبا لبقايا الاطعمة التي تظل تحت الشمس ثلاثة او اربعة ايام قبل نقلها، كان هناك غرابا اسودا اكبر حجما من المعتاد يقف صباحا على حافة احد البراميل ثم تاتي حمامة (فاختة) ، ينزل الغراب الى البرميل ليختار كيسا يرفعة ويقوم بفتحه ويشتركان بالتقاط الاطعمة ،كان الغراب يلتقط الطعام بسرعه وهو يتلفت بحذر فيما الحمامة تلتقط طعامها بتؤدة غير مبالية، وفي يوم كان الغراب كالعادة يقف على حافة البرميل منتظرا الحمامة ولكنها لم تحظر…..لم ينزل الى داخل البرميل وحين بدأت الحركة في المستشفى غادر دون ان يتناول شيئا،استمر الامر ثلاثة ايام ثم اختفى.
بدأت نوبة غبار مجنونة تخيم فوق بغداد وبدت أشعة الشمس كابية وهي تنساب عبر تعرجات الغبار الرملي، الذي توقف عن الحركة معلقا على نحو مغيظ ، تصطدم به المارة فيملأحلوقهم بطعم الرمل الصحراوي المالح، وحين يحجبون عيونهم بايديهم يتعرضون للاصطدام بعضهم ببعض ،وعلى امتداد شارع القناة بدت البيوت اشباحا ضخمة لحيوانات خرافية فيما ضج الشارع بأبواق السيارات وهي تسير ببطئ شديد،وبدت بغداد وكأنها تتلبسها حالة من الانزياح الى ما قبل تمدد دجلة الى البحر، فهي في جوف زمان الصحراء والجفاف ، تقفت سيارة اجرة لتنزل ضيفا جديدا للمستشفى، صعدت حتى قبل ان أساوم السائق على الاجرة ،هو أمر لابد منه مع سائقي التكسي الذين يقررون السعر على اساس المشقة والتاخير الناجم عن الازدحام.
أمام التنور كانت أمي شبحا سومريا بجلابيتها السوداء والشيلة التي تلفها على رأسها ،لم اتبين ملامحها فقد كانت تحرك المحراث لإذكاء النار ،وكان يقف امامها صبي ،تقدمدت لأحييها ، كانت تخاطب الصبي.
–قلت لك اربعة ارغفة بدولار أو عد الى البيت وهات دنانير عراقية ،كل رغيف بمئتين وخمسين دينارا ،بالدولار اربع ارغفة أو اذهب الى التنور في رأس الشارع.
قال الصبي-طلب أبي أن اشتري منك فقط.
-حسنا ساعطيك خمسة ارغفة ولكن اعد الدولار وقل لأبيك أن يدفع بالدينار
قلت لأمي –اعطيه خمسا وخذي الدولار
قالت – اهلا شاكر ،
تجاهلت ما قلته وتابعت..
-هل استلمت النتيجة؟
-ليست هناك من نتيجة ،لقد اعطوني موعدا لمقابلة اللجنة بعد عشرة ايام.
أبي على السرير ،فتح عينيه وأومأ يريد ماء ،أسندت رأسه إلى وسادة ثانية وبدأت أسقيه رشفات متقطعة ،لاح سؤال في عينيه قلت له – سأقابل اللجنة بعد عشرة أيام.
حرك عينيه ، فهم ما قلت
بدأ الغبار يغادر بغداد ببطئ وأصبح من الممكن رؤية المنازل في حي النصر وهي تستعيد ملامحها وان كان على نحو واضح
عادت أمي ببقايا الخبز والطحين بعد أن أغلقت فوهة التنور ،على الباب كانت زوجة شرطي الشلامجة،
لم تدعني امي افتح الباب ،في يديها بقايا العجين ،دعت المرأة الى الدخول، ربما لم تلحظ إن أمي لم تغسل يديها بعد
-ليس لي احد أحدثه اشارت علي البنتان ان استعين بكم
-لا بأس . أجابت أمي باقتضاب
-أبو شيماء لم يصل ….اتصل بنا قبل يومين وكان يؤكد انه سيحضر فقد استطاع الحصول على إجازة لمدة خمسة عشر يوما ..كان فرحا لأنه سيبني غرفتين على السطح للبنتين ومرافق، وستظل غرفة البنات في الأسفل للضيوف ،قال بانه سيصبغ البيت من جديد أيضا و سيحقق حلمه أخيرا،
ولكنه لم يحضر….أنا قلقة جدا …هاتفه النقال لا يرد وهذا غير مطمن ،هل سمعتم في الاخبار شيئا عن البصرة او الطريق الى بغداد ،
التفتت نحوي وهي تنطق عبارتها الاخيرة
لم أستطع أن أخبرها بأن شمال البصرة يشهد قتالا عشائريا ويشهد أيضا عمليات سلب وخطف على الطريق.
(مجمان) كان هذا اسم شرطي الشلامجة وكان هذا اول الغرائب معه ،كان طويلا نحيلا ،عيناه زرقاء صافية وبشرته بيضاء بسمرة مكتسبة وشواربه شقراء ،لم يحاول ان يخلق علاقات متينة مع أحد ربما بسبب كونه يعمل باستمرار خارج بغداد ،حينما يسقط المطر وتتحول أزقة وشوارع حي النصر الى ممرات طينية ،يحرص (مجمان ) على ان يضع حذائيه العسكريين بكيسين من مشمع لا يسمح للماء بالعبور ، يصل كل منها الى منتصف الساق،وحين يصل الدائرة ينزعهما.
*******
لم يبادرمجمان بزيارة أي من جيرانه ، ولهذا فان أحدا لا يتذكره ان غاب عن الحي ، ولا يتذكر شاكر إنه انفرد معه بحديث ،وكانت أم غازي المشغولة طوال النهار بالتنور لا تهتم كثيرا بتسقط اخبار جيرانها.
قال شاكر –صباحا ساذهب الى مديرية شرطة الحدود للسؤال
قالت ام شيماء –هل يمكن أن أكون معك ؟
لم يكن لدى المديرية اية معلومات ولكن ضابطا من أهل القرنة على الطريق الى بغداد ، اخبرهما بان المنطقة شهدت قتالا واسعا وباسلحة متنوعة وتم قطع الطريق وقد يكون هذا هو السبب .
لم يطمّن أم شيماء هذا الحديث ، وظلت تشعر بخوف مبهم ممزوج بهواجس القلق.
-الامر لله ، قالت أم شيماء
تابعت بصوت ضعيف – الله المعين
في الطريق حاول شاكر ان يخفف عنها او على الاقل يبعدها عن القلق الذي يسيطر على تفكيرها.
-ربما تزوج في البصرة !
إلتفتت نحوه وقالت جازمة -إلا مجمان!
قال -ولكن ألا توافقيني إن اسمه غريب وهو غير مألوف على حد علمي
قالت –نعم ابوه كان في الليفي وقادة الليفي من الانكليز وقد يكون تأثر باحدهم …الاسماء تخضع للتقليد ففي كل فترة تنتشر موجة من الاسماء.
كانت ام شيماء في الخامسة والاربعين وقد تعرفت على مجمان وهي في العشرينات و كلاهما يعمل في مطعم صغير ،كان زواجهما سريعا فهي بدون ام وهو بلا عائلة ، فقد تركها في قضاء القلعة وانقطعت علاقته بهم ….في السنوات الخمس الاولى لم يرزقا باطفال وكان ذلك يعذبها فمجمان يحلم بمجموعة من الاطفال ليبدء بهم آل مجمان كما يقول ….لم يحتج أو يتذمر، وحين ولدت شيماء كان سعيدا ،بعد سقوط النظام استطاع ان يلتحق بشرطة الحدود بواسطة صاحب المطعم الذي اصبح ضابطا في الجهاز.
*******
استقبلتنا أمي عند الباب ،لم تسأل عن النتيجة ،كان لديها خبرا أهم
–لقد بدأ ابوك يحرك رجليه وحرك جسده ليعتدل ولكنه ظل صامتا
احتفلنا انا وأمي ليلتها بعدد من أقداح الشاي الصغيرة والذي حرصت أن تطعّمه بالهيل.
في الصباح رفع أبي رأسه ،كنت اتناول افطاري وكانت امي قد بدأت تضع الخبز في التنور فيما تحلق حولها بضعة اطفال يستعجلوها ،طلب بصعوبة وبكلمة ممطوطة وكأنه يتعلم النطق :شاي
كان صوته كصدى يبلغني في نهاياته ، حيث يوشك أن يتلاشى ،ولكنه صوت أبي الذي يعود ثانية للحياة ،بدا وجهه يحمل قناعة مسترخية ،هادئ على نحو يبعث فيّ الطمأنينة.
وقفت أمي أمام التنور وأغمضت عينيها وتمتمت بسرها سورة الفاتحة.
النهار رائق وبقايا الغبار يضفي على الشوارع الترابية لونا مختلطا ، بغداد تتنفس بعمق لتطرد الرمل الناعم الذي غزاها من الصحراء الشرقية ،بعد أن قرر أن يغادرها منسحبا بهدوء ،لكن على نحو متوازن وكأن خطا على الارض يتحرك الى الخلف يلتزم الغبار بعدم الخروج عليه.
تطلع أبي نحوي وكأنه يراني للمرة الاولى ،مسح على لحيته وبدا متأملا،
-متى عدت ؟
كنت جالسا على كرسي بمساند فلم يلحظ ساقي الهاربة
-هل رأيت غازي ؟
فاجأني السؤال ،تابع
-يبدو إنه قد كبر قليلا …..ولكنه لم يتغير
قالت أمي وهي تأخذ الطحين من كيس أبيض –يعينه الله
فكرت انه يتعرض لمرض الزهايمر أو انه مازال في مرحلة إستعادة الوعي الذي فقده.
جاءت أم شيماء وهي تبكي
–لقد عاد مجمان ، سلبوه كل مالديه حتى ثيابه العسكرية وقد تصدق علية احد المارة بجلابية قطنية ،المهم سلامته ، بناء البيت يمكن ان يؤجل ،قال بان ما سلبوه كان يمكن ان يبني بيتا جديدا.
قلت على سبيل الدعابة –هل كانت المبالغ بالدينار أم بالدولار؟
-مشكّل ولكن الدولارات والإيراني كانت الاكثر
قال أبي –العراقي أهم
قالت ام شيماء
-اودعكم فقد جئت لأطمنكم فقط وسييزوركم هو بعد ان يرتاح ويتجاوز الازمة .
******
لم ينشغل شاكر بالتفكير بالخطوة التالية ،المهم الان الساق الصناعية ليستطيع الحركة بحرية اكبر ،الراتب التقاعدي سيكون كافيا ،غدا سيزور بعض الاصدقاء ، وربما سيحظى بافكار جديدة ،كان يحلم وهو في الجامعة بأن يحصل على شهادة عليا ، لكن البطالة ومحدودية موارده المالية أبعدته عن حلمه وحينما تطوع في الجيش خالجه شعور بموت ذلك الحلم.
قال لأمه :لقد جاء الوقت لترتاحي فما سأستلمه من تعويضات والراتب التقاعدي سيكون كافيا .
كان الوقت مساء ،يجلس هو الى كرسي حديدي مفروش ، وتجلس أمه الى صندوق الشاي الخشبي ،صندوق مدهون باللون السود ،ربما منذ مدة فاللون حائل ، مستطيلا غطاؤه يحدث صريرا خافتا ،في الداخل خانات لوضع الاقداح الصفيرة ،ستة أقداح شفافة تحيط بها من أعلى حلقات ذهبية ،وخانة للملاعق الصفراء الزاهية واخرى للصحون الزجاجية ذات حواف بتموج متكسر للمساعدة في الامساك بها ،أما قاع الصنوق فهي لمعدات الشاي (قوري صيني وكتلي من الالمنيوم)
أبوه يشرب الشاي بهدوء ،ويبدو شاردا .
قالت :وماذا افعل ؟
تساؤلها يكشف حيرة ،لقد عاشت سنوات طوال أمام التنور وهو عملها وتسليتها ،فهي تصنع الخبز و تتعامل مع اناس لا تعرف معظمهم، يشكلون لها عالما مليئا بالمعرفة وبالتسلية ايضا ، حتى إنها انقطعت عن الجيران، وتعرف حكايات تبدو غريبة احيانا تقصها نساء يتوقفن لدقائق، بعضهن يقدن سيارات وبعضهن يحملن اكياس بلاستيكية ويستخدمن باصات النقل العام ، مثقلات بما يحملن ،ويتحدثن جميعا بهمومهن وتستمع هي دون ان تتوقف عن رصف أقراص العجين في التنور او إخراجها محاذرة ان تلسعها النار.
قال ابوه :زهرة هل تعرفين متى سيعود غازي …كان يقول دائما ان شاي امي هو الأفضل في العالم .
ابتسم وعاود يشرب شايه
قالت امه-لا أستطيع التفكير بالتقاعد ….ألا ترى إن أمك ما تزال شبابا.
******
لم يكن من السهل الوصول الى المقهى فأنا ما زلت أواجه صعوبة في استعمال العكاز والتنقل به ،سيما وان الشارع الاسفلتي الوحيد في حي النصر والذي عانى اهمالا متواصلا منذ خمسين سنة، قد ملأته الحفر، ورغم مطالبات الاهالي الملحة الا ان أحدا لم يأخذ هذه المطالبات على محمل الجد.
استقبلني زاير خليف صاحب المقهى مرحبا فقد كنت أحد الرواد المزمنين، وهنا كنت ابرع لاعب دومينو ونادرا ما كنت ادفع قيمة الشاي او الحامض الذي اشربه فقد كان على حساب الخاسرين.
مقهى الزاير كما كنا نسميها عالم متباين الملامح ومتنوع الرؤى، فهنا يتوزع شباب يتباينون في افكارهم ، ولكنهم عموما بلا عمل أو انهم يمارسون اعمالا موقتة بعضها ليوم واحد ، في الزاوية اليسرى يشكل مثقفو حي النصر حلقة ثابتة لا تنفك تناقش كل ما يجري في العالم ويطرحون حلولا لكل المشاكل دون ان يبحثوا في حل لبطالتهم المزمنة.
في وسط المقهى مجموعة تواصل لعب الدومينا او الطاولي طوال لنهار أما في المساء فهو يتبارون في نكات تتناول السياسيين واعضاء البرلمان العراقي ….تبدأ النكات بقفاشات مضحكة ولكنها تنتهي دوما بنكات بذيئة،
كنت في مواقع القتال كثيرا ما أحلم بمقهى الزاير وأراها احيانا معلقة في صحراء مترامية وروادها يتطلعون بدهشة تاركين كل شيئ ولكن مثقفو حي النصر يتحدثون عن الصيرورة الجديدة لحركة التاريخ في ظل التفوق الامريكي الذي سينتهي بنهاية العالم ، ويقول حسن أبو إصبع
-من حسن الحظ ان الزاير نقل مقهاه الى خارج التاريخ …كنت اضحك وانا استعيد الحلم رغم ان زخات الرصاص تمرّ من جانبي حاملة الموت الذي تمدد في حي الزنجيلي.
كنت اجلس على تخت على ناصية الشارع …مرّ مجمان يمشي ببطئ وهو يرمي المقهى بنظرة بدت فاحصة …دعوته الى الجلوس ….نظر نحوي وجلس الى جانبي ،كان مهموما ….لقد ضاع كل شيئ ،ربما سمعت بما جرى ….قلت له نعم ولكن كل شيء يمكن تعويضه فخير الشلامجة كثير،ابتسم بمرارة .
قال –كانت فرصة لا اعتقد انها تتكرر ، كنا أنا والعريف محسن حين اوقفنا احد المهربين الكبار والذي يعرفه كلانا
قال- ليلة جملية رغم غياب القمر
وقدم لنا علبة سكاير …لم اكن ادخن ولكن العريف أخذ العلبة ووضعها في جيبه.
قال العريف –لم تترك عبادان في هذا الليل لتقدم لنا السكاير
قال المهرب –بالتاكيد ومن محاسن الصدف ان التقي بكما ،لدي صفقة العمر.
جلسنا على ضفة شط العرب ،كان الماء الغريني يتدفق بموجات متلاحقة ، بدت صفحة النهر داكنة فيما انعكست نجوم تتبادلها الموجات المتكسرة فتلتمع وكأنها تستحم فرحة باللهو في الماء ،أما اشجار النخيل فقد شخصت متعالية في ظلام منحها غموضا آسرا .
اتفقنا بسرعة ،سلّمنا رزمة من الدولارات والدنانير والتومان ،لم يكن تنّوع العملة موضوع خلاف، في بغداد يمكننا ان نستبدل كل عملات العالم كما ان لدينا خبرة باسعار التبادل وتقلبات السعر.
عبر زورق يقوده شخصان ملثمان وغير بعيد على الجانب العراقي كانت سيارة شحن صغيرة تنتظر.
سلمنا باقي المبلغ وكانت المشكلة في اقتسامه ، قال العريف :لك الثلث ولي الثلثان
لم اوافق ، قال المهرب :من المعقول أن تكون حصة العريف اكبر، هو بثلاثة خيوط وأنت لا تحمل خيطا واحدا ،اقترح 60%للعريف و40%لك ،وافقنا
توجه المهرب الى البستان المجاور وغاب في الظلام الذي يسكن بين النخيل،
وحين عدنا الى المقر لم يلحظ أحد ما حصل ، العريف من البصرة ولهذا غادرنا في الصباح الباكر متعللا بمرض ابنه.
أما أنا فقد بقيت ثلاث ليال انتظر انتهاء نوبتي ،كنت اخفي المبلغ بحقيبة ملابسي وفي جيوبي ،اوقفنا القصف المدفعي المتبادل بين متخاصمين شمال القرنة، وعند الظهر سيطر بعظهم على الشارع العام ،أنزلونا وطلبوا ان نسلمهم كل ما نملك ،فتشوا الحقائب بدقة وحين وجدوا المبلغ في شنطة ملابسي كانوا فرحين، قال أحدهم إنزع ملابسك ، أكيد ستكون محشوة بالدولارات وارفقها بشتيمة بذيئة ، كنت أرتجف من الغضب ومن الخوف …هنا يمكن ان تقتل دون اية مسؤولية يخشاها القاتل ولهذا فاحتمال القتل وارد ، كنت غاضبا لأن الحلم الذي رافقني ليالي انتظار الإجازة قد تحول الى كابوس مرعب.
ابتسم مجمان بمرارة وقال –لماذا احكي لك!
قلت –لتخفف عن نفسك
لم اقل له لتخفف من وزر الجريمة التي ارتكبتها
تناول قدح الشائ وضحك قال –هل تعلم اني حين دخلت الدار وبمجرد ان عرفت ام شيماء بضياع النقود ماذا قالت؟
قلت – كيف لي ان اعرف
لم يلتفت نحوي كان مهتما بان يتحدث أكثر من اهتمامه باني استمع.
قال –ضربت على صدرها وردحت وهي تنشد ….دكّن حيل نسوان البوليسية خمسة بالشهر خلصت الخرجية،
حين هدأت قالت لي بانها كانت تسمع هذه الاهزوجة من أمها في قلعة صالح
قلت –وما سمعته أنا….كوكس مات وانكطعت الروبية،
*******
شعر شاكر إن مجمان لا يشعر بالذنب عما فعله هو وعريفه ولكنه يشعر بالأسف لفقدانه المبلغ ، وهو يتحدث ليبعد نفسه عن التفكير أو لينسى انه يتحمل الان نتائج هزيمة جديدة ولكن قاسية ، فهو فقد حلم حياته ليجعل بيته يواكب الحركة الجديدة التي يشهدها حي النصر بإعادة إعمار البيوت القديمة المتهالكة، فكر إن الحصول على النقود باية وسيلة هي مسألة مشروعة ….لقد فقد الحلم وهو يعيش اليوم بهاجس الاحباط الذي يدفعه الى الحديث بصوت هامس ،
كانت مقهى خليف الزاير مجتمعا شديد التعقيد والتناقض ، الشعراء الذين يصرون على القاء قصائدهم في المقهى والكتاب الذين يحللون الوضع السياسي، ينتهون الى وضع الحكومة في قفص الاتهام ،لاعبو الطاولي الذين يسبون الحكومة ومجلس النواب ، كلما كانت ارقام النرد معاكسة لتوقعاتهم وأخيرا مجموعة ملتحية تتحدث بلغة عربية اقرب الى الفصيح ولكن بلكنة غريبة ،
المناقشات الحادة والصاخبة بسبب تعارض وجهات النظر كانت تنتهي دون الوصول الى أي نتيجة ، ولكنها لم تدفعهم الى شجار او معارك قد ينتج عنها تدمير المقهى ،معظم الرواد يطغي عليهم مظاهر دينية ولكن هذا لم يمنع بعظهم من توجيه شتيمة الى مذهب منافسه الذي يحصل على الدوشيش حين يرمي النرد على الطاولة .
في المقهى تنتقل الاشاعات بكل الوانها ،من مجموعة الى أخرى ،ويتم تحليل السياسة العراقية وتوجهات الاقتصاد ومبيعات البنك المركزي من الدولار وآخر المعارك في الموصل واخبار الحشد الشعبي وفتاوى المرجعية التي يلتزم المتحدثون عنها بتسميتها (المرجعية الرشيدة)،
وفي مقهى خليف الزاير جرى اول تقارب يحمل مشاعر المودة في العلاقات بين تيار( السيد )وبعض اعضاء الحزب الشيوعي، وحينها علق فاضل أبوالبرنيطة، ان هذا التقارب سيؤثر على الشعار المركزي للحزب الشيوعي وسيجري تعديلة ليكون (ياعمال العالم صلوا على النبي ) ، وبعد توقيع بيان التحالف الانتخابي قال ابو البرنيطة سيقومون باجراء التعديل الثاني ليكون الشعار (يا عمال العالم صلوا على محمد وآل بيت محمد ) ،وشرح عادل الاستراتيجي ذلك بانه يعود في جذوره الفلسفية الى الفلسفة البراكماتية وتابع وهذا يعني ان كل التحالفات الانتخابية ستكون هشة ،لأنها نفعية بمعنى انها انتهازية مبنية على المصالح والتي هي في طبيعتها غير ثابتة في تحديد الاطراف التي تتقاسمها،
وكثيرا ما يقطع كل هذا الحديث إصرار حسين الساعدي على القاء قصيدته ، التي نظمها طوال الليل الفائت على ضوء الفانوس الذي اشتراه من سوق الشورجة ، لهذا الغرض ،وكالعادة ما يبدأ الساعدي بالالقاء حتى يغادر عادل الاسترتيجي متناسيا أن يدفع ثمن الشاي ،فيناديه خليف الزاير –أبو سعدون الحساب،
فيعود ليدفع المئتين والخمسين دينارا، وقبل أن يقول لازمته يقول خليف –أبوك كان يتقاضى خمسة وعشرين دينار في الشهر وهو مربي أجيال ، لابأس أمور دنيا.
اقترح عبد الائمة ، الذي فشل للمرة الثانية في اجتياز امتحان البكلوريا ،
رغم مشاركته في الامتحان لأربع مرات ، إقترح ان يكون هناك ركنا في المقهى لقراءة الجرايد ، وحين اعترض خليف بعدم قدرته على شرائها ، قال عبد الائمة انه سيذهب الى ادارات الجرايد في بغداد لتزودهم بها مجانا
قال أبو برنيطة :ومن يدفع الثمن ؟
قال عبد الائمة :لا احد سيزودونا بها مجانا لأنهم سيضمنون إنها ستقرأ .
وحين نجح عبد الإئمة في مسعاه ووافقت سبع جرايد ان تزود المقهى يوميا ، أخذ فاضل أبو برنيطة على عاتقه وضعها على حامل خشبي ،واشرف على إعادتها بعد أن يفرغ الزبون ،وكان ذلك قد رفع من حدة النقاش في السياسة والادب واصبح من المألوف أن تجد ثلاثة أو أربعة زبائن منهمكين في مطالعة الجرايد، وقد شجعت هذه النتيجة أبو برنيطة ليلتقط عدة صور للمقهى ولقراء الجرايد ويكتب عن الموضوع بضعة اسطر لتنشر في الصحف السبع ،بعد أن خص كل جريدة بصورة تبرز عنوانها بيد القارئ في المقهى.
دفع هذا النجاح والضجة التي أثارها ،أبو البرنيطة الى تقديم مقترح جديد
قال– لدى العديد منا مجلات قديمة وكتب مصفطة ولكن ما قراها ،يمكن ان تسغنوا عنها ،ولدي مكتبة اشتريتها عندما كنت اشتري الكتب من سوق الجمعة او سوق الغزل وهي الان تضايقني بعد ان احتل سرير ابن اخي نصف الغرفة.
بعد اسبوع كانت المجلات تتنوع باغلفتها ،بعضها يحمل وجوه رجال دين بملامح صارمة ومتوعدة وبعضها لفتيات يبتسمن بخيلاء،وبعضها الاخر تملأ اغلفتها
شعارات سياسية.
اقترح ابو برنيطة ،على خليف الزاير أن يضع لافتة على مكان المكتبة عليها (ركن الزاير الثقافي بإشراف أبو برنيطة)،
قال خليف الزاير –هذه نتيجة من يوافق مجنونا!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here