المنظور الاقتصادي للقرار الامريكي لتغير النظام السياسي في العراق في 9 نيسان 2003

د. بارق شُبَّر*:
تحاول هذه الورقة تحليل الاسباب التي مهدت لاتخاذ الادارة الامريكية قرار التدخل العسكري المباشر وتغيير النظام السياسي في العراق في عام 2003 وليس في عام 1991 وما هي خلفياته الاقتصادية؟
يوجد بين المحللين السياسين شبه اجماع على ان التدخل الامريكي لتغيير النظام في عام 2003 لم يأتِ لسواد عيون العراقيين وانقاذهم من ظلم النظام الشمولي السابق بل وفي تقديري كنتيجة لحسابات ومصالح جيواستراتيجية امريكية جديدة في منطقة الشرق الاوسط، تختلف تماما عن التي كانت سائدة في اعقاب حرب الكويت في عام 1991. لقد سجل التاريخ الهزيمة الشنيعة لجيش النظام السابق بعد مغامرته في الكويت والانتفاضة الشعبية العفوية التي بدأها الجنود المنسحبين من المعركة الخاسرة في البصرة، والتي انتشرت بسرعة البرق إلى باقي المحافظات الجنوبية والشمالية وبتشجيع من الرئيس الامريكي في حينه جورج بوش الاب، عندما القى خطابا شجع العراقيين على الاستمرار حتى اسقاط صدام حسين. لقد مثلت هذه الانتفاضة العفوية الفرصة الاخيرة للتغيير من الداخل، ولكنها اجهضت بسبب عوامل اقليمية تتعلق في المقام الاول بمصالح اقتصادية لبعض الدول العربية التي كانت متحالفة مع الولايات المتحدة ولأسباب طائفية في المقام الثاني.
الاحداث التاريخية تشهد لنا كيف غيَّر الرئيس الامريكي آنذاك خطابه بـ 360 درجة بعد فترة وجيزة من خطابه الاول، حيث أصبح يردد يوميا في الاعلام بأن امريكا لا تتدخل في الشؤون الداخلية للعراق وان مهمتها انتهت بتحرير الكويت، مما أرسل رسائل واضحة لرأس النظام السابق بأن امريكا تخلت عن قرارها باسقاطه وفتحت الطريق امامه للانقضاض على المتنفضين في جنوب العراق وشماله وتصفيتهم بأبشع الطرق.
يتوجب على المحلل السياسي الرصين اثارة السؤال التالي: ماذا حدث خلال هذه الفترة القصيرة مما جعل رئيس أكبر دولة في العالم يكسر كلمته وبشكل فاضح؟ الاحداث تشهد لنا بحدوث جولات مكوكية بين الرياض وواشنطن لمستشار بوش الاب للأمن القومي برنت سكوكروفت والتي مهدت لتغيير موقف الرئيس الامريكي من الانتفاضة الشعبية في جنوب وشمال العراق. واعترف بوش الاب ومستشاره للامن القومي في كتابهما المشترك بعنون “العالم المتحول” (A World Transformed) والذي صدر في عام 1998 بان عدول امريكا عن تحريك جيشها صوب بغداد لإسقاط نظام صدام حسين جاء لعدم رغبة الدول الحليفة في المنطقة لإسقاط الدولة العراقية، وبسبب قلق الولايات المتحدة من تغيير موازين القوى في رأس الخليج (الفارسي) العربي وعدم رغبة امريكا في احتلال العراق وحكمه.
هذا التبرير يتضمن مغالطات واضحة اولها ان القوات الامريكية لم تكن بحاجة إلى الزحف إلى بغداد لإسقاط الدكتاتور لان الانتفاضة انشرت بسرعة البرق إلى 14 محافظة من مجموع 18، وسقوط بغداد على ايدى المنتفضين كان مسألة وقت فقط. أما المغالطة الثانية فهي ان امريكا لم تكن بحاجة إلى حكم العراق كمحتل وكان العراقيون قادرون على حكم أنفسهم بعد فترة انتقالية قصيرة تحت وصاية الامم المتحدة.
المفارقة الكبيرة هي ان نفس الحزب الجمهوري وبقيادة ابن الرئيس السابق نفذ كل هذه الخطوات التي اراد جورج بوش الاب تجنبها. وهذا يثير التساؤل عن اسباب تغيير الموقف الامريكي من نظام صدام حسين والقرار بإسقاطه بعد معاناة طويلة تحت ظروف الحصار المزدوج على الانسان العراقي من الخارج بفعل العقوبات الدولية ومن الداخل بفعل تقييد حرية المواطنين من قبل النظام الدكتاتوري.
لم يأتِ تغيير الموقف الامريكي بالصدفة بعد هجوم تنظيم القاعدة الارهابي في 11 سبتمبر 2001 على اهداف اقتصادية وامنية امريكية في نيويورك وواشطن ذات رمزية وحساسية عالية أحدث صدمة كبيرة في الادارة الامريكية. وكان لمشاركة عدد كبير من السعوديين في تنفيذ هذه الهجمات تأثير واضح على زعزعة الثقة بين الولايات المتحدة والممكلة العربية السعودية. وكان قد سبق هذا الحدث مواقف سياسية لولي العهد السعودي آنذاك الراحل عبد الله بن عبد العزيز آل سعود المنتقدة بشدة للسياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين، مما أزعج اللوبي الإسرائيلي ذو النفوذ الواسع في امريكا وفي ادارة جورج دبليو بوش الابن من المحافظين الجدد.
بعض الزملاء والاصدقاء لربما يتذكرون اطروحتي في الحوارات معهم بأن القرار الامريكي المتأخر لاسقاط النظام السابق في عام 2003 لم يأتِ لنصرة العراقيين من الظلم والجور وانما أتى نتيجة الثقة المتزعزعة مع السعودية وكعقاب لسياساتها المناصرة للقضية الفلسطينية من جانب ولتبينها الاعمى للمذهب الوهابي المتشدد الذي تفرخت منه الحركات الجهادية الارهابية من امثال القاعدة من جانب اخر.
لقد ظهر هذا جلياً مع اعلان عقيدة بوش والمحافظون الجدد بأن سبب بروز الحركات الجهادية الارهابية في الشرق الاوسط هي النظم السياسية الاستبدادية وتقييد الحريات. لذلك ينبغي من وجهة نظرهم نشر الديمقراطية في هذه البلدان وجعل التجربة العراقية الجديدة نموذجاً يشع على جميع دول المنطقة. اذن فإن الهدف المعلن لعقيدة بوش كان ادخال الديمقراطية إلى العراق ولكن الهدف الاقتصادي غير المعلن كان هو تأهيل العراق كأكبر مصدر للنفط في الشرق الاوسط وكبديل للسعودية التي كانت تمثل الحليف العربي الرئيس لها في تنسيق السياسات النفطية وضمان امدادات الطاقة إلى منظومة الدول الرأسمالية، سيما وان السعودية كانت أكبر دولة منتجة في الشرق الاوسط وأكبر مصدر للنفط دوليا في ذلك الحين.
القرار الامريكي لإسقاط نظام صدام حسين كان يحمل في قناعتي الرسالة الضمنية إلى حكام السعودية التالية: “لقد نفذنا طلباتكم بالابقاء على نظام صدام حسين في الحكم في عام 1991 ولكنكم طعنتونا من الخلف من خلال تورطكم ولو بشكل غير مباشر في هجمات 11 سبتمبر، وان كنتم تعتقدون ان بامكانكم استعمال الورقة النفطية ضدنا فأنتم واهمون، فهناك بدائل لكم وهو العراق الجديد.”
نشرت مجلة دير شبيغل الالمانية الواسعة الانتشار والمعروفة بشبكة علاقاتها القوية بمراكز القرار الحكومية والاستخبارية في عددها رقم 19 الصادر 5 ايار 2003 تقريرا استقصائيا بعنوان ” العراق وكسر الهيمنة السعودية” عن التوجهات الامريكية نحو تأهيل قطاع النفط العراقي ورفع الانتاج إلى 6 مليون برميل في اليوم حتى عام 2007 لإرجاعه إلى سوق النفط الدولية كلاعب رئيسي يكسر الهيمنة السعودية. كما يشير التقرير إلى ان المستشارين الامريكيين طرحوا فكرة خصخصة القطاع النفطي امام العراقيين ولكنهم جوبهوا برفض شديد مما دعاهم على التخلي عنها مبكراً. الشكل التالي يوضح الخطة الامريكية للنهوض بالقطاع النفطي العراقي من ناحية رفع الانتاج بالمقارنة مع الانتاج السعودي.

المصدر: مجلة دير شبيغل الالمانية
ومن الواضح لمتابع الاحداث من هي الدول المستبدة التي كانت مقصودة بعقيدة بوش الابن وفي مقدمتهم الدول الخليجية والتي فهمت هذه الرسالة على الفور وبدأت بالتصرف على عدة جبهات واولها الجبهة الدبلوماسية، حيث بذلت جهوداً حثيثة في تقديم التنازلات تلو التنازلات والولاء المطلق لادارة بوش ونجحت في نهاية المطاف في اعادة الثقة مع ادارة بوش الابن ثم اصاب العلاقات الثنائية بعض الفتور خلال فترة اوباما، ولكن حدث تطور كبير بعد وصول دونالد ترامب إلى كرسي رئاسة الجمهورية والامير محمد بن سلمان إلى كرسي ولي العهد السعودي والذي فهم ماذا تريد امريكا وبالتحديد عقلية الرئيس الامريكي الجديد المركنتالية، واشترى منه الثقة المفقودة بمبلغ سخي يقدر بأكثر من 300 مليار. دولار ولا استبعد وجود علاقة بين اعتقال مجموعة الملايارديرية السعوديين بحجة الفساد وضرورات تمويل صفقة محمد بن سلمان مع دونالد ترامب. ويجب هنا الاعتراف بالأمر الواقع، الا وهو اغلاق ملف 11 سبتمبر بشكل نهائي وزوال المخاطر على موقع السعودية في السوق النفطية الدولية. ومع ازالة الخطر العراقي على موقع السعودية النفطي في السوق الدولية، تسمح الدبلوماسية السعودية لنفسها، ومن موقع الاخ الكبير القوي، ان تمد يدها للعراق للتعاون الاقتصادي والتجاري، سيما وان السوق العراقية اصبحت ذات شأن كبير لصادرات دول الجوار إيران وتركيا وتطمح الصناعات السعودية الصاعدة إلى ضمان حصة فيها، مما برز للعيان الحضور السعودي الكبير في معرض بغداد الدولي الاخير.
أما الطبقة السياسية الجديدة في العراق فلم يفهم معظم ممثليها في سدة الحكم الاستراتجية الامريكية الجديدة في المنطقة واهدافها بسبب فقدانهم إلى البصيرة والحنكة السياسية وضلوا حبيسين لافكارهم القديمة والتي يتغلب عليها الطابع الايديولوجي وانعدام التفكير البرغماتي. وظهر ذلك في مواقفهم المتأرجحة وانعدام التوازن في العلاقة مع الولايات المتحدة من جانب ومع الجارة إيران من جانب اخر. وتجدر الإشارة إلى ان الحكومات العراقية المتعاقبة اهملت بناء مراكز بحث علمي وتنمية كوادر بحثية متخصصة في علاقات العراق الدولية والبينية مع دول مهمة مثل الولايات المتحدة الامريكية والتي كان بالامكان ان تساعد في التحضير للقرار السياسي الرشيد والذي يحفظ المصلحة الوطنية.
كما فشلت هذه الطبقة، وبسبب انشغالها بالصراعات على توزيع الغنيمة وضعف خبراتها وحنكتها السياسية، في احتواء ردود افعال دول الجوار المتشنجة (باستثناء إيران المحنكة) على مشروع التغيير في العراق والمنطقة ومحاولاتهم الحميمة لإجهاض مشروع بوش لدمقرطة المنطقة، ليس من خلال مواجهة امريكا بشكل مباشر، ولكن من خلال دعم العمليات الارهابية وما كان يسمى “بمقاومة الاحتلال” على الارض العراقية بهدف زعزعة الامن والاستقرار السياسي، ومن اجل افشال التجربة الديمقراطية الفتية والنهوض بالاقتصاد العراقي. يمكن القول بأن غياب البصيرة والحنكة السياسية للحكام الجدد تسبب في اضرار اقتصادية مادية وبشرية جديدة شملت هجمات ارهابية ممنهجة على المنشآت النفطية وخطوط نقل الكهرباء وغيرها من البنى التحتية، فضلا عن الخسائر البشرية الكبيرة والتي كان بالإمكان تلافيها لو تصرفت الحكومات السابقة مع دول الجوار المعادية بحكمة وبعد نظر. وقد اشار الاقتصادي والسياسي العراقي الراحل د. مهدي الحافظ بحق إلى الخطأ التاريخي في عدم انتخاب السياسي العراقي المخضرم عدنان الباججي الذي يتمتع باحترام دولي عام وخليجي خاص، وشدد بالقول ” لوكان قد تم ذلك لتغير مجرى التاريخ السياسي في العراق.”
الحكم على مدى نجاح أو فشل الطبقة السياسية الجديدة في العراق في مواجهة التحديات بعد 9 نيسان 2003 ومنها مواجهة نشاطات دول الجوار العربية المعادية للتجربة العراقية الديمقراطية الفتية ومهمات النهوض بالاقتصاد العراقي المخرَّب على مدى أكثر من عقدين، وكذلك تقييم مدى الاستفادة من الفرص التي توفرت للعراق بعد هذا الحدث التاريخي المفصلي لتحقيق امنيات المواطن العراقي في تحسين مستوى معيشته، سيكون موضوع بحثي القادم حول المحصلة الاقتصادية للتغير السياسي منذ 9 نيسان 2003 ولحد هذا اليوم.

(*) مستشار اقتصادي دولي سابق ومؤسس شبكة الاقتصاديين العراقيين
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعادة النشر بشرط الاشارة إلى المصدر. 17 نيسان / ابريل 2018
http://iraqieconomists.net/ar/

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here