الطاقة .. لغة الكون ح3 والاخيرة

يلاحظ في الآيات الكريمة من سورة النمل الشريفة (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ{38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ{39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ{40}) وجود ثلاثة أنواع من القوى العملية :
الاولى : “قوة العفريت” (قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ{39) , هذا العفريت من العفاريت المؤمنين والمقربين من النبي سليمان “ع” , لا توجد عنه معلومات كافية , سوى انه حامل البساط السليماني الشهير كما يعتقد , أو ربما يمثل أحد وزراء النبي سليمان “ع” البارزين , وأسمه (صخر الخي القهرماني) ويختصر بـ (العفريت القهرماني) , مما يروى بشأنه ان النبي سليمان “ع” حجزه لأسباب غامضة في مكان ما , ويمتاز بالقوة والامانة (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) , وليس من المعلوم ولا من المؤكد انه سوف يستخدم قواه العضلية في جلب عرش بلقيس , بل ربما سوف يستخدم أحد تلك العلوم أعلاه , اما المدة المتوقعة لجلبه العرش فقد تكون :
1- عدة ساعات : إذا فسر قوله تعالى (قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ) بمعنى نهاية مجلس النبي سليمان “ع” الذي يعقده للقضاء صباحا , لمدة عدة ساعات من كل يوم.
2- او ثواني : إذا فسر قوله تعالى (قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ) بمعنى الوقوف والاستواء منتصبا .
الثانية: “علوم الوصاية” (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ{40}) , صاحب هذا العرض هو وصي النبي سليمان “ع” , آصف بن برخياء “ع” , لكن أصبح من المؤكد انه سوف لن يجلب عرش بلقيس بقوته العضلية , بل باستخدام علم تعلمه من النبي سليمان “ع” , علم لا يزال غامضا , تفرد به الرسل والانبياء “ع” وأوصيائهم , قد يصطلح عليه بالاسم الاعظم الذي يتكون من ثلاثة وسبعون حرفا , كان آصف بن برخياء “ع” يملك منها حرفا واحدا فقط , بهذا الحرف استطاع ان يجلب عرش بلقيس بثواني او بأجزاء من الثانية .
الثالثة: “علوم النبوة” توارث الانبياء “ع” علوما خاصة بهم , لم يطلعوا عليها احدا , الا بإذن الله تعالى وأمره لبعض أوصيائهم وخاصتهم من المؤمنين , أصطلح على تلك العلوم بالاسم الاعظم , الذي به تأتي الخوارق من أي نوع كانت , كل نبي كان يملك جزءاً او عدة اجزاء منه , وبلغ عددها ثلاثة وسبعون حرفا , لا يعرف سراً لهذه الحروف وماهيتها , إن كانت من حروف الهجاء ام إن كل حرف يمثل علما مستقلا بذاته , بقيت طي الكتمان ولا زالت.
السؤال الغامض هو أياً من هذه العلوم يمكنها ان تمكن صاحبها أن يفهم لغات الكون ويتكلم بها ؟ , وهل ذلك يدخل حيّز الامكان ؟ , حول هذا الموضوع أنقل حادثتين ينقصهما التوثيق العلمي :
الاولى: عن رجل دين مسلم , ذو منزلة رفيعة , كان مقررا ان يلتقى بشخصية بريطانية سامية , أحد مرافقيه يعلم انه لا يتكلم الانجليزية ولم يتعلمها في أي مكان , وكذلك المرافقين الاخرين له , لذا رأى ان يتبرع أن يقوم بدور المترجم حال وصول الشخصية البريطانية , بعد برهة من الزمن , وصلت الشخصية البريطانية المنتظرة , وجرى اللقاء بينهما , غير ان رجل الدين فاجئ الجميع بتكلمه بلغة انجليزية مهذبة , الامر الذي دهش مرافقيه ما دفعهم للسؤال ( كيف تكلمتم باللغة الانجليزية بهذه الطلاقة و لم يسبق لكم تعلمها؟! ) , ابتسم رجل الدين وأجابه بأنه يملك علما أسماه ( العلم اللدني) , وفسر له ان صاحب هكذا علم لا يحتاج ان يتعلم , بل يلقن تلقيناً ما يحتاج اليه من علوم ومعارف .
الثانية: كان مقررا لثلة من رجال الدين اليهود (حاخامات) أن يلتقوا بالسلطان العثماني , ليشرحوا له وضعهم المأساوي في أوربا , عسى ان يتمكنوا من استعطافه ويلين قلبه لليهود فيسمح لهم بالسكن في تركيا معززين مكرمين , حان موعد اللقاء , وقدم الحاخامات كبيرهم الذي يعلمون جيدا انه لا يعرف التركية قطعا , كما ويعلمون ان السلطان العثماني لا يتكلم سوى التركية , لذا ارتءوا او اقترحوا حضور مترجما , ذلك لم يثن الحاخام الاول بل مشى بخطوات واثقة نحو السلطان العثماني , ونطق باللغة التركية بلسان ذلق , ما دهش رفاقه وبهرهم ودعاهم ان يستفهموا الامر بعد نهاية اللقاء , فأجابهم بأن لديه شيطانا يترجم له ما يقوله السلطان العثماني ويلقنه ما يجب ان يقول باللغة التركية!.
بطل الحالة الاولى فسر الموضوع بـ (العلم اللدني) كي تتضح الصورة لمرافقيه , بينما بطل الحالة الثانية فسر الموضوع لمرافقيه بـ (الشيطان المترجم) , هكذا تمكن كل واحد منهما من إقناع مرافقيه وإزالة استغرابهم ودهشتهم , ولم يكشفا لهم اكثر من ذلك , على طريقة (حدث القوم على قدر عقولهم او على قدر فهمهم) .

الموضوع من منظور العلم الحديث:
ظاهرة النطق بلغات لم يتعلمها الانسان مسجلة وموثقة علميا في كثير من الجامعات ومراكز البحوث العالمية , الا انهم لم يفسروها بالشكل المقبول حتى الان , لهم في ذلك جملة من الآراء لم يقتنع اصحابها بها , لكن تبدو لهم هي الاقرب الى الحقيقة والى واقع الامر والحال.
وثقت الكثير من الحالات حول العالم , حتى وصلت الى درجة التصنيف والتبويب , وجمعت تحت عنوان “الكسينوغلوسيا” , وهو عنوان يشمل كل من ينطق بلغة لم يسبق له تعلمها , بل ويكتب بها ايضا , سواء كان ذلك تحت تأثير التنويم المغناطيسي او بدونه .

حالات مسجلة “موثقة”:
1- الدكتور “موريس نثرتون” , اثناء عمله في التنويم المغناطيسي وأثناء اجراءه التنويم على فتى أوربي الولادة والمنشأ , تكلم الفتى بلغة غريبة لم يعهدها الدكتور “موريس نثرتون” , سجل صوت الفتى على شريط كاسيت , وذهب به الى جامعة كاليفورنيا , وهناك عرضه على بروفيسور مختص في الدراسات الاستشراقية لغرض استطلاع الامر , فتبين انها لغة صينية منقرضة منذ اكثر من الف سنة.
2- الوسيط الروحي الامريكي “جورج فالنتاين” , إستطاع ان يتحدث باربع لغات لم يسبق له ان تعلهما في أي مكان , وكانت (الروسية – الاسبانية – الالمانية – والويلزية “بريطانيا”) .
3- “كارلوس ميرابيلي” , وسيط برازيلي , استطاع التحدث والكتابة بأكثر من ثلاثين لغة منها لغة دمشقية قديمة واليابانية , في حضور كوكبه من العلماء والباحثين وجمهور تجاوز الخمسة الاف شخص.
4- “بيلي موليغان” , نزيل السجن الاصلاحي في أوهايو (الولايات المتحدة) عام 1977 بتهمة الاغتصاب , شاع في السجن بأنه مسكون بشخصيتين غريبتين بالإضافة الى شخصيته الاساسية , كل شخصية من ذينك الشخصيتين تتلكم بلغة مختلفة , فيتكلم العربية ويكتبها بدقة متناهية ويسمي نفسه “عبدالله” , ثم يتكلم اللغة الكرواتية ويسمي نفسه “روغين” , مع العلم انه لم يتعلم هاتين اللغتين من قبل , ولا حتى حاول تعلمهما , وعندما عرض على أطباء نفسيين لم يجدوا تفسيرا سوى أنه مصاب بـ”إنفصام متعدد الشخصيات” ! , تفسيرا لم يقتنعوا به الا انه أقرب ما يمكن لهذه الحالة.
5- فتى فليبين تكلم لغة الزولو الافريقية , من المستبعد جدا ان يكون قد تعلمها او حتى سمع بها.
6- الفتاة البريطانية “روزماري” , وثقت في دراسات “مجتمع البحوث الوسيطية” عام 1931 , تكلمت لغة مصرية قديمة , واطلقت على نفسها اسم “تيليكا فينتو” , أدعت انها عاشت في مصر عام 1400 قبل الميلاد , وكتبت باللغة الهيروغليفية امام متخصص بالأثار المصرية البروفيسور “هاورد هيوم” .
هذه غيض من فيض , وهناك الكثير من الحالات التي لم توثق علميا , وأشباهها الكثير قدر لها ان تكون في مجتمعات لم تتفهمها وربما أتهمت بالجنون , فرحل أصحابها دون أن يعلم بهم احد.

علماء وثقوا لحالات مشابهة:
1- الدكتور “ايان ستيفنسون” , ألف كتابا وثق فيه كثيرا من الحالات المشابهة , حمل عنوان كسينولوجيا 1974م .
2- الطبيب النفسي الاسترالي “بيتر رامستر” , وثّق الكثير من الحالات وجمعها في كتابه “البحث عن أجيال سابقة” 1990م .

التفسيرات العلمية:
بين المؤيدين والمعارضين تقاطعت الآراء , لتظهر فئة ثالثة توسطت الطرفين , فامتزجت الآراء مع بعضها البعض , مع لحاظ انها جميعا لا تقدم تفسيرا موضوعيا او علميا لهذه الظاهرة , اللهم انها أقرب ما يمكن تصوره عنها , ومن بين تلك الآراء (لا على سبيل الحصر) :
1- انفصام الشخصية الحاد.
2- انفصام متعدد الشخصيات.
3- الكريبتومنيزيا : إعادة تذكّر لغة معيّنة كان الشخص يألفها في طفولته ثم انقطع عنها لفترة طويلة .
4- التخاطر : رأي مطروح , لكن لم يثبت علميا , فمن المؤكد ان لا احد تمكن من تعلم لغة ما عبر التخاطر .
5- الاحتيال : فقد يكون الاشخاص قد تعلموا تلك اللغات وأخفوها عن الباحثين , هكذا رأي لم يصمد امام النقد والاعتراض , كون الباحثين قد وضعوا امامهم كافة الاحتمالات , ولم يبتوا في الامر الا بعد التأكد التام والتدقيق الصارم.
6- الذاكرة الموروثة جينياً: وهذا الرأي لم يصمد أيضا , فلا ربط بين فتى أوربي وبين لغة صينية قديمة عمرها الف سنة , كما ولا ربط بين فتى فلبيني وبين لغة الزولو الافريقية كما تقدم.
7- التقمص: تقمص الروح او التناسخ او عودة الروح بجسد أخر , كعودة روح انسان صيني وتقمصها في جسد اوربي , هذا الموضوع مثار جدل بين رافض للفكرة من الاصل وبأدلة وحجج متينة وبين مؤيدين لها بحجج أقل متانة وقوة , كما ولم تؤكد الفكرة بشكل علمي او معقول حتى.
8- الحلولية : تعتقد بعض الجماعات الدينية بحلول الاله في جسد شخص ما , الامر الذي يمكنه من اتيان بعضا من الخوارق , كالتحدث بلغات لم يتعلمها , هذه فكرة دينية لم توثق او تثبت بشكل علمي , مع وجود معارضين أقوياء لها .
9- الطاقة : كل الاحداث والمجريات والظواهر ان لم يقم البرهان عليها مؤكداً تفسر بما هو أقرب للواقع كما هو الحال في جميع التفسيرات للظواهر الطبيعية الغريبة والتي لم تؤكد علميا ولم يتم التوصل الى دليل ثابت يكشف ما يريب فيها , فبالنهاية , لابد من تفسير أكثر منطقية وأقرب للواقع لكل ظاهرة , هكذا جرت سيرة العقلاء والباحثون أن لا يتركوا شيئا بدون تفسير او تحليل منطقي .
الطاقة هي ربما المرشح الاكبر والاقرب , حيث لا يوجد ما ينافيها او يعترض طريقها في الترشح , وأن وجد فهو ضعيف او غير منطقي , الاسباب الدافعة لتبني هذا الرأي كثيرة منها :
أ‌) الطاقة تجمع كافة الانفعالات النفسية , الايجابية كـ( الفرح , الانبساط , الارتياح , التفاؤل , الطموح وغيرها ) , والسلبية كـ ( الحزن , الكأبة , الانقباض , التشاؤم , الغضب وغيرها) .
ب‌) الطاقة قد تشمل التخاطر في أروع وأبهى وأعمق صوره , لكنها أوسع وأشمل منه بكثير.
ت‌) الطاقة هي نفسها في الانسان والحيوان والجماد وفي جميع العناصر , بل هي نفسها في الارض والنجوم والكواكب وسائر الكون , على اعتبار ان الكون يتكون من طاقة ومادة , فيمكن للطاقة ان تتحول الى مادة , كما ويمكن للمادة ان تتحول الى طاقة .
أما إذا أخذنا بنظر الاعتبار , إن الطاقة أكثر مرونة من المادة , الامر الذي يجعلها المرشح الوحيد دون منافس حتى هذه اللحظة.

حيدر الحدراوي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here