وداعا عزيزتي البراري و الغابات و الأفاق المديدة : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

بعد كفاحه المرير و التحمل البطولي الفريد مع مرضه الخبيث ، أخبره طبيبه عن أسفه الشديد بعدم فعالية الأدوية بعد الآن أمام انتشار واسع لهذا المرض الغدّار الذي أخذ ينخر بداخل العظام أيضا ..

ــ حقيقة لقد فعلنا كل ما بوسعنا فما من شيء آخر نستطيع فعله بعد الآن سوى تزويدك بحبوب مخففة للألم و مرفون و أشياء أخرى مساعدة من هذا القبيل ..

بلّغه الطبيب بنبرة أسف روتينية و معتادة ، مع ابتسامة تعاطف آلية و مضى إلى شأنه .

فابتسم هو الآخر ابتسامة واهنة و ساخرة بعض الشيء كأنما من وضعه و قدره ، ولكنها كانت ــ قبل أي شيء آخر ــ ابتسامة مريرة تكّسرت مهشمة و متناثرة بين أسارير وجهه الشاحبة ، كشظايا خيبة حادة وجارحة .

و في النهاية لم يتفاجئ بالأمر الجلل والفاجع ، لأنه كان يعد نفسه ممن يأخذون حدوث كل شيء نحس و مشؤوم ، كاحتمال قائم في وارد حدوث مفاجئ في أي وقت كان .

فكر مع نفسه مع بقايا نفس الابتسامة المريرة على ملامح وجهه :

ــ نحن البشر أشبه بلوحات زجاجية ممكن أن تتكسر لأبسط رجة و تتناثر كشظايا مدفونة تحت غبار النسيان الأبدي فمصيرنا مع القدر أشبه بصندوق ساحر مليئة بالمفاجآت ..

شعر و أحس في الوقت نفسه بأنه لم يكن له أي عزاء بشري ما لا سابقا و لا الآن ، لكونه لم يكن يثق ببشر بل كان يُعدهم في قرارة نفسه من أردأ وأسوأ مخلوقات الله على الأرض إطلاقا : أنانية ، و جشعا ، وطمعا ، ولامبالاة بمصائر غيرهم ، ولم يكن تظاهر أغلبهم لطفا و دعوات خير غير رياء و مداهنة ونفاق ، وبالتالي فلم يكن له عزاء آخر سوى حضن الطبيعة و عمق البراري و نقاوة الأنهار و الخلجان البعيدة غموض و هيبة الغابات و دزينة صديقاته من أشجار معمّرة ذات مئات سنين ، مع سناجب وديعة أضحت أليفة معه ، ومثلما سابقا و دائما ، فالآن أيضا سيذهب إلى هناك ، و لكن في هذه المرة سيبقى بشكل متواصل ، كمقيم دائم ، ليمضي أيامه الأخيرة هناك ، مع بعض أكياس طعام و علب حبوب منوّمة كثيرة ــ سيستعين بها دفعة واحدة عندما يشعر بأنه قد آن أوان الرحيل بعدما تنحط قوته الجسدية ويصبح عاجزا عن العناية بنفسه ــ طبعا مع كتب كانت عزيزة على قلبه دوما ، فهو لا يود أن يُدفن في وسط مقابر بشر ، إيا كانوا و مهما كانوا ، إنما أن تُحلل أطراف و بقايا جسده ممتزجة بجذور و لحاء أشجار و أدغال و أزهار برية وثمرات و أوراق متساقطة ، لتتحول إلى خميرة تربة خصبة لبذور أعشاب وأشجار أخرى حتى تنبت و تزدّهر مع كل ربيع جديد ..

فتوغل إلى عمق إحدى الغابات البعيدة ، مختارا شجرة معمّرة وارفة الظلال كأحضان أم حنونة ، فحفر ملجئه تحتها ، بين جذورها وعروقها المتينة و السميكة ـ لتقيه من أمطار مباغتة أو عواصف مشاكسة ، فتربع في وسطه كراهب بوذي مستغرق في توهج صوفيات غامضة ومهيبة :

منتظرا الوقت المناسب و القريب ليقول كلمة الوداع الأخيرة من أمه الطبيعة التي عشقها أكثر من أي كائن بشري آخر باستثناء أمه الراحلة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here