تأملات فات آوانها !

(١) تامل ؛ ما الذي نعني في تأمل ، حينما نقول نحن نتأمل شيء ما أو في شيء ما ، لعل أول ما يبادر لذهن ، تركيز الفكر على شيء ما أو في شيء ما ، أو حاله ما ، والذهول عما حولنا ، وهذا الذهول يشتد ويقوى كلما كان التأمل عميق وشديد ، فنحن نصبح مجرد فكر مستغرق في موضع تأمله ، متجاهل ما يحيط به بشكل كلي ، وهذا التفكير العميق ، يصيب الصوفية والفلاسفة ، ولذلك حينما نحت النحات الفرنسي بودن تمثاله للمفكر جعله في حالة استغراق عميق ، وعليه فالتأمل له درجات وابعاد تختلف من شخص الاخر ، ونحن ، ما نقصد بتأملنا ليس من هذاالنوع ، وأنما هو أشبه ، بحال الأستذكار ، الذي يريد فيها مراجعة ما مره بها وتقيمه ، في محاولة لوصول بخلاصة والخروج بأستناج .

(٢) ولكن ، علينا أيضاح نقطة هنا ، قبل الشروع في تأملنا ، الذي ، قلنا ليس مثل التامل الصوفي أو الفلسفي العميق ، هي أننا حين نتأمل لا نتأمل من فراغ كما أراد ديكارت أن يفعل ، حين قام بمسح الطاولة ، ومحو أي معرفة سابقة له .فهو أراد أن يبدأ بداية جديدة ، بعد أن شك بكل شيء ، فدكارت عبقرية فلسفية وعلمية ، أراد أن يجد طريقة جديدة ، لأن الغرب كان على عتاب نهضة حضارية ، بعد سبات طويل أصاب البشرية ، أما نحن ، وأقصد بنحن هنا فترتنا ، وليس الآنا الذاتي ، في مرحلة توشك الحضارة تغلق كل أبوبها ، وتراجع دفاترها ، ومكاسبها ، فنحن نمر بمرحلة أفول للجوانب كثيرة ، من الحضارة الإنسانية ، وهذه الجوانب ، أقصد بها ، الفنون ، والأداب ، والفلسفة ، والتي تنبأ الكثير بموتها ما أن تصل الحضارة مرحلة معينة من تطورها ، وتبقي على الجانب العلمي فقط ، وتكون حضارة علمية بحته ، بلا أدب ، وبلا فلسفة ، ولا رسم ، فهذه لم يعد لها معنى ، في المرحلة العلمية الجافة . فتلك الحضارة توشك أن تغدو حتى لا إنسانية . فتأملنا ، سوف ينطلق من خلفية ومن تراث كبير نتامل فيه ، وليس من لا شيء كما فعل ديكارت ، لانه كان على بداية نهضة ونحن في مرحلة آفول للجانب الإنساني في الحضارة التي ستكون علمية خالصة .

(٣) فتأملنا ، أذن سيكون في الإنسان وعن الإنسان في محولته للخروج من متأهة الصراع وبناء مجتمع سليم . فكل النظريات التي طرحها ، أوجدها بفكرة ، أصيبت بفشل للعوامل كثيرة ، وليس بالضرورة لقصورة تلك النظريات . فلم يحاول أحد يجربها بطريقة صادقة ، ونزيهة ، وحيادية ، ويفتح لها كل الأبواب والنوافذ ، فما طبق من تلك النظريات صادف مقاومة شرسه لحباطها . وعليه ، سنظر في نتيجة هذا الاحباط ، والمرحلة التي دخل فيها الإنسان نتيجة هذا الاخفاق . وعليه سنركز على ما بقى له أن يفعله ، بعد هذا الفشل . وبالطبع ، هذا سوف لن يكون تأمل منهجي وأكاديمي ، وأنما مجرد تأمل ، نترك فيه للعفوية ، وما يرد على البال والخاطر فسحة كبيرة ، فنحن لا نريد أن نكون مدققين في تعابيرنا وتحليلنا ، وعليه لنبدأ ، هكذا ؛

(٤)حينما يدمر عقل الإنسان وحواسه ، ماذا يبقى له ، لكي يحكم على الأشياء.؟ فكون الأنسان كائن عاقل هو أن له حواس وعقل سليم . وقد بتنا نعرف ، نتيجة التطور العلمي عدة طرق ، لتدمير عقل الإنسان وتشويه حواسه . فالمجنون ، الذي يصاب نتيجة ظروف عديدة ، بتدمير عقله وتشويش حواسه ، ليس ، هو ما نعنيه هنا بتدمير العقل والحواس ، فهذه عاهة طبيعية ، وحالة طارئ تصيب عدد محدود من الأفراد ، وهؤلاء ، عادة ما يضعهم المجتمع بعيداًعن مصدر الصدارة ، ويمنع الأخذ بقوالهم، فهو يقوم بعزلهم ويسمهم بعلامة على أنهم لا قدرة لديهم على الحكم السليم . ولكن ، ما نعيه بتدمير العقل والحواس ، هو تدمير عقل وحراس المجتمع ، إذا أطلقنا هذا التعبير ، عن شيء مجرد ، عن تجريد ، الذي هو المجتمع ، فهنا الأستخدام أجرائي ، وليس شيء حقيقي . فسؤال عما يحدث لو أن المجتمع كله ، هو من أصيب بهذه العاهة أو المرض ، أو الجنون ، نتيجة أوضاع أجتماعية وأقتصادية ، فهذه الأوضاع قادرته على توليد أفكار مجنونة في أفراد وأعضاء المجتمع ، والكثير من مفكري أمريكا نعتوه مجتمعهم بالمريض أو المجنون . فهو لهذا أستخدام مشروع هنا ، ولم يبق على سوى أقلية ، لا تزال تتمتع بالحكم السليم ، فهل هذا المجتمع من ثم ، قادر على الحكم السليم ، أما أنه سيعامل مثل المجنون ، الذي لا قدرة له على الحكم السليم ، والذي لا يصغ لقلة الباقي التي لم تصب بهذا الجنون ؟ فالمقصود هنا في جنون المجتمع ، هو أن بعض المجتمعات تسيطر عليها فكرة أو عقيدة ، أيدلوجية ، فتعميها عن رؤية الحقيقة ، ورؤية وضعها المريض الذي يغذي تلك العقيدة المرضية . وعليه ، يختلف مرض الأفراد عن مرض المجتمع ، هو كون مرض الأفراد هو مرضي عضوي ، في حين مرض المجتمع هو مرض نفسي ، وتشابه بينهما يكمن فقط في الحكم الخاطئ فالمجنون حكمه على الأشياء لا يطابق واقعها الفعلي ، نتيجة عطب وخلل في نسيج الدماغ ، والمجتمع يخطئ في الحكم على الأشياء نتيجة مصالح وهواء طاغية ومنتشرة في المجتمع . فيفقد المجتمع أبعاده الآخرى ، بتركيزه على استهلاك السلع ، ونظر لكل شيء على أنه مجرد سلعه ، وبهذا يصبح مجتمع ذي بعد واحد ، حينما يغدو المجتمع ، مثلاً ، مجتمع رفاهية ، تسود فيه النزعة الأستهلاكية ، التي جعل منها نتيجة حقب طويلة أيدلوجية لهذا المجتمع كما فهم هربرت ماركوس المجتمع الأمريكي . أو ما أطلق عليه المجتمع المريض ، ، من قبل أريك ، حينما راح كل فرد يهتم بنفسه وضد الآخرين . فهذا المجتمع ، المجنون بالنزعة الأستهلاكية ، تتكون له ، عقيدة أو ايدلوجية ، مرضية نتيجة وضعه الاقتصادي ، تجعله ينظر للعالم من هذا المنظور ، ومن ثم يدين كل من يخالف تفكيره . أما القسم الذي لم يندمجوا في هذا التيار ويغدون جزء منه فهم ، فغالباً ما يسمون الغير منتمين أو المندمجين أو الأصحاء ، أو المنبوذين الذين يخالفون المجتمع .

(٥) وشيء طبيعي ان هذا المجتمع لا يشعر أو يعرف أنه مريض ، بل أنه ، يرى في الذين يعارضون طريقة في العيش هم المرضى والذين يحتاجون علاج . ويسعي هذا المجتمع أن يعمم طريقته ، ويحتوي كل الأفراد بحيث ،لا يبقى معارض أو ناقد للمجتمع لسلوب عيشه ، ويجعل لها السطوة والغلبة في أرجاء الارض . وماركس حين حاول حل هذا الأشكال ، في غلبت وعي الطبقة السائد وهيمنته ، على كل المجتمع ، لأنه كما قال ؛ بأن الوعي السائد هو وعي الطبقة السائدة ، وأن في رحم هذا الوضع ، ينشأ وعي مضاد ، وعي طبقة جديدة بازغه ، التي هي البيروتاريا ، والوعي الزائف لطبقة السائدة ، كوعي شمولي ، سوف تنكشف حقيقته مع تقدم نمو البروتاريا . ولكن نحن نرى في زمننا ، بأن هذه الطبقة التي كان يسميها ثورية ، قد اندمجت في المجتمع الذي تعيش فيه ، ولم تعد هناك طبقة ثورية ، ولم يبق سوى فئات منبوذة وأقليات وأفراد من المفكرين هم من يقولون ، عن مجتمعاتهم، التي تعيش مرحلة الوفرة ، أنها مريضة . غير أن لم يعد يستمع أحد لم يقولوه ، فصم قد أصاب اذان الأكثرية .

(٦) شيء مفهوم ، أن يكون المرء مريض ، ولكن يكون المجتمع مريض ، فهذا يتطلب بعض الايضاح . فمرض الفرد تشي بها تعابيره وحركاته ، ومرض المجتمع يعبر عنها في نمط عيش المجتمع وطريقته في التعامل مع بعضهم البعض ، فعدم الانسجام في تحصيل الرزق ، وتنافس الضاري يؤدي لعصاب ، والعصاب ، يعني ، قبول العنف بكل أشكاله . وعندئذ يهمين القانون ، والسلطة ، اللذان لا يعبران عن أرادة المجتمع ، ومن ثم يبرر الطغيان والخضوع له . وطغيان سلطة القانون ، وهو تجسيد لنعدام النزعة الأنسانية وبلوغها نهايتها . ولذا في هذه الفترة تصبح كل معارض واحتجاج علامة على عدم الانضباط. والتمرد ، وحين يمرض المجتمع ، يدخل في مرحل الأخ الكبير ، حسب تعبير الروائي جورج أوريل في رواية عام ١٩٨٤ ، والتي كان يهجو فيها وقتها الاتحاد السوفيتي ، وخضوعه لسلطة القائد ، الأب ، أو الأخ الكبير ، فالخضوع للقانون ليس دائماً علامة على التحضر والرقي ، إذا لم يكن من صنعهم ، وتعبير عن أرادتهم ، وأنما يكون علامة على سلب الإرادة . ففي المجتمع المريض هناك عجز وخور في التعبير عن أرادة الفرد الواحد ، لأن كل أرادة حلت في أرادة الأخ الكبير ، السلطة ، الدول . ودول أوربا ، فيما يبدو ، تحولت ، هي الآخر لدول الأخ الكبير ، فلم تعد في أوربا معارضة تخالف الأخ الكبير المجسدة في الدولة ، التي يتنافس عليها حزبين من أخوان الأخ الكبير .

(٧) العالم من حولنا تغير كثيراً ، وما زلنا نظر له بنفس العيون القديمة ، فنحن لم نتعلم بعد كيف نرفع العصائب التي وضعت عليها من أحقاب طويلة ، فلكل عصر عيون جديدة . فالافتان في الغرب ، مثلاً ، هو نتاج حقب طويلة ، تغلغل أثرها في دمنا ، لذلك ، لم نراه ، إلا بنفس المنظار ، لأننا ، بقينا تلاميذ لهم ولم نتعلم كيف نكون أستاذه لنفسنا ، ولكن لماذا طال افتتان في الغرب ، فيما تحرر كل تلاميذ الغرب في العالم وأصبحوا أساتذة ؟ فهل يكون الإسلام أم ثروة المجانية لنفط ، هي وراء طول الأقامة على مقاعد التلمذة ؟ فالاسلام منذ أنقسامه على نفسه وتحوله إلى الأيديولوجية ، اصبح التواكل والاعتماد على الغير في الاستقوى على الخصم المنافس في الدين سنة ثابتة ، ومن هنا بات الكراهية هي السائدة في هذا العالم الديني المنقسم ، لذا لم يعد عامل وحدة . ومثل هذا الانقسام الديني ، حدث في أوربا نفسها بفعل الدين ، وخاضوا حروب دينية ، وبعد ذلك ، أبعدو الدين ، وانشؤ مجتمعات لا دينية وعلمانية . وثروة النفط ، من ناحية آخرى ، لم تبن أي شيء ، ولم تصبح أداة الاستقلال لدينا ، وأنما جعلت من التبيعية والاعتماد على الأخرى قاعدة ثابتة ، فهل التحرر يكمن التخلص منهما معاً ، الدين والنفط ؟

(٨)لا شك ، القارئ يشعر معنا بحراجة الموقف وصعوبته ، وأن الحلقة المفرغ هي كل ما بقى لنا ندور فيها . فإذا المركزة قد تحطم ، ولم تعد هناك سوى شظايا ونتف يصعب لحمها وأعادة توحيدها ، فلا بد أن يردد معنا بأن الشق واسع والرقعه زغيره . فتراكم قرون من تمزق لابد ان تجعل من كل تفكير ، في البحث عن حل أمر متعذر . فنحن لا نطمح لتغير العالم ، وأنما بتنا تشد العيش فيه بسلام ، غير أن الصراع غدا في عقر الدار ! فكيف يمكن لن التكيف مع هذا الوضع ! فالعالم كله يبدو أصبح حلبة صراع شرس ، لا رحمة فيه ، فما عاد أحد قادر على صنع مصيره ، فالحرية التي تباه بها سارتر ، بالقول بأن الإنسان كائن حر راحت تتحطم حريته على صخرة حرية الآخرين في حجز حريتك . ولذًة الاعتزال ومراقبت الصراع ، لنقشاع الغبار ، كانت في السابق متوفرة ، أما اليوم ، فما عادة ثمة مكان لا يوجد فيه رقيب يجبرك على المشارك في قتل حلمك وقتل الصديق . فليس القليل الذي بقى ، وأنما ما لا فائدة فيه .

(٩) في مثل هذه الحالة المعقدته ، هل تبقى هناك فسحة من الأمل ، للفرد أن يكون كائن سوي ، حينما تسمم الأجواء ! فَلَو تسألنا ، عن هذه الحساسية ، فهل هي حساسية ، مرضية ، كالتي توجد لدى ابطال دستويفسكي ! فمرضية شخصياته ، كلها تنبع من أنها لا تقبل بما هو موجود ، وتنشد المستحيل ، فهي لا ترضى بما موجود ، ليس لأن ما موجود سيّء وإنما ، لأن في فكره شيء عما يجب أن تكون عليه الأشياء . ولكن بما أن سأمنا ، لا ينبع من حاسبة مرضية ، وأنما ما يشيعه حال العالم فينا ، فلا الوضع في العراق ، وسوريا واليمن ، وما عليه الحال مع أبقار ترامب في الخليج التي تطيل عمر الارهاب وما وصل عليه الحال في ، الدول الكبري ، أمريكا ، فرنسا … وغيرهم من خداع وكذب وتضليل لرأي العام لابد أن ينعكس كل هذاعلى نفس المرء . وعلى أي حال ، سواء ذلك التشائم ينبع من حساسية مريضة أو من أوضاع مزرية ، أو من داخلنا ، فأن هذا لا يغير في الامر من شيء لأن العالم يبدو قد وصل لطريق مسدود . ولم يبق من خيار سوى الذي طرحه البير كامو ، فيلسوف العبث . فهو من قال في كتيبه الصغير ، أسطورة سيزيف ، بأن المشكلة الفلسفية ، الباقيه ، هي التسأول ، عما أذاكانت الحياة تستحق العيش أو الأقدام على الانتحار ! وبما رفض الانتحار لأنه رأى فيه ليس حل لمشكلة ، فأنه ، طالب في الانتحار الفلسفي ، الذي يعني القبول بالأمر الواقع والتكيف معه ، ولذلك ، في نهاية كتيبه ، قال ، علينا مع ذلك ، مع كل ما نحن فيه من ألم واشمئزاز مما حولنا ، أن نتصور أنفسنا سعداء ، مثلما علينا أن نتصور سيزيف سعيد ، وهو يدفع صخرته ، نحو القمة ، والتي تفلت منه ما أن يصل بها إلى الذروة ، لينزل من جديد نحو قاع الجبل ، لكي يعاود دفعها مره آخرى نحو القمة ، وهكذا يتكرر سقوط الصخرة كلما بلغت الذروة . فهذا الانتحار الفلسفي ، هو ، القبول بمصير سيزيف ، ولكن علينا أن نتصوره شخصية سعيدة . وقد علق فاليري ، الشاعر الرمزي المعروف ، ساخراً ، بأن سيزيف ستكون له عضلات كبيرة ، ونحن سكون لنا كروش كبيرة إذا قبلنا العيش في مجتمع الوفرة ، بدون التفكير بما يحب أن تكون عليه الأشياء . فالتزام ما عاد له من معنى في عالم الشمول ، وضياع الصفات ، والتشابه المطلق .

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here

By continuing to use the site, you agree to the use of cookies. more information

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

Close