نساء في كركوك غيّرن لون الإسفلت الأسود إلى زهري

سمر ربيع

خطوة جميلة قمن بها بعض النسوة في كركوك حينما اقدمن على عرض الإكسسوارات التي اعددنها بأنفسهن على احد الأرصفة لبيعها لينافسن اقرانهن من الرجال الذين يبيعون الاكسسوار الصيني.

تجلس فليحة بلياقة وأناقة على كرسيها البلاستيكي وأمامها بضاعة ملونة بألوان الأنوثة، لتعرض عليها ما تنتجه من إكسسوارات نسائية وحلي رجالية كالخواتم والمسبحات ذات الأشكال المميزة التي صنعتها يدويا بنفسها.

وقد نحت الجهد والسهر ملامح متعبة لهذه السيدة الأربعينية مما اعطاها ربما عمرا اكبر من عمرها فبرغم جمال أسلوبها في التعامل مع زبائنها وبهندامها المرتب والمنسق إلا ان قسوة الحياة بدت واضحة المعالم عليها.

فليحة من مدينة كركوك كسرت حاجز الخوف والتردد وانطلقت بأعمالها على أرصفة الشوارع لتبيع نتاجها على باعة آخرين يتوزعون في بعض مناطق المدينة وتديرها نساء تتلمذن وأخذن الصنعة منها ليكسبن رزقهن كما تفعل المرأة المكافحة.

أيدٍ وردية وأفكار خلابة تلك التي تجسدت في البضائع التي يفترشنها النسوة على طاولات صغيرة امامهن بعدما تحدين المجتمع وقيوده وتقول فليحة “انطلقت بأعمالي الى الامام بعد معارضة الاهل من فكرة الوقوف على الارصفة بحسب نظرة مجتمعنا القبيحة لعمل المرأة في ظروف يحكمها الشارع والمارة إلا أن زوجي كان أول الداعمين لي”.

فليحة من مواليد مدينة بغداد انتقلت الى كركوك في عام 2005 بعد اشتعال الحرب الطائفية في العراق وخصوصا في العاصمة، حاملة مسؤولية عائلتها لاسيما وان لديها ابنا مصابا بعموده الفقري مما يجعله غير قادر على الحركة.

هذه الزوجة والام خلقت من شظف العيش ومرض ولدها فرصةً للإبداع، بعد ان وجدت في نفسها قدرة على تنسيق الخرزات الملونة وترتيبها بدقه لتصوغها بشكل اكسسوارات جميلة مثل الاساور والاقراط وجميع انواع الحلي والحياكة والخياطة الى جانب عمل صواني المهر والخطوبة التي تعد من عادات المجتمع في العراق.

فليحة بدأت بعرض بضاعة على طاولة صغيرة جدا في شارع القدس وسط مدينة كركوك وتعرضت لشتى المضايقات التي تقلل من قيمة العمل الذي تعرضه لكنها بقيت صامدة فهناك فئة من الناس الكادحين يدعمونها ورفيقاتها.

وتقول “وصل عددنا الى أكثر من 12 امرأة نقف وراء طاولاتنا ونروج لأعمالنا لكسب لقمة العيش، هؤلاء النسوة كلهن يملكن الشغف والحس الفني في تصميم الإكسسوار لكن ببعض الحث الايجابي مني ومساعدتهن في العمل أصبحن جزءا مهما من الفريق”.

احدى امنيات هذه السيدة التي تبدو عنيدة ومن الصعب ان تستسلم للقدر هو ان تمتلك محلا صغيرا لتعرض فيه منتجاتها وتصل بها الى جميع المحافظات العراقية حيث انها تشارك ومجموعتها في اغلب النشاطات والمهرجانات التي تقام في بعض كليات جامعة كركوك او في الندوات النسوية.

“اهم اهدافي هو دعم محدودات الدخل مثل حالتي او من النساء الارامل والمطلقات وايجاد فرص عمل لهن حتى وان كانت بسيطة وذلك عن طريق اقامة دورات لهن لتعليمهن مختلف الحرف اليدوية الى جانب فن الطهي فأنا طاهية ماهرة” تقول بابتسامة كشفت عن معظم اسنانها، قبل ان يقاطعها زوجها الذي يقف على مقربة منها اذ يثني عليها بفخر “فليحة طاهية ممتازة جدا واكلاتها لا تقدم حتى في افخر المطاعم”.

المواد الأولية التي تصنع منها هذه الحلي تقوم بشرائها من مدينة بغداد المدينة التي طالما عشقتها الى جانب مدنيتي اربيل والسليمانية فهناك من يدعمها من التجار ويبيعها بأسعار الجملة والتي تختلف بحسب جودة هذه المواد.

وعلى مقربة من السيدة فليحة افترشت شابة أخرى بضاعتها على طاولة مجاورة يبدو من طريقة كلامها انها متعلمة ولم ينل من لسانها السوق وأحاديثه إذ كانت تتحدث بلياقة غير معهودة لدى الباعة الآخرين.

نور عادل ذات العشرين ربيعا تقف بكل ثقة واتزان مرتدية ملابس تبين قدرتها على اللعب بالالوان وهو ما تجسد على طاولتها المنمقة، متزينة ببعض من اعمالها كسوار يحمل اسمها وقلادة احجار ملونة بألوان الحياة.

هذه الطالبة في كلية الادارة والاقتصاد جامعة تكريت لم تجعل الخجل عائقا امامها وبدأت بكسب لقمة عيشها عن طريق بيع منتجاتها من الحلي، وفي الوقت نفسه لم تهمل دراستها للمحاسبة.

تقول نور لـ”نقاش” ان “مهمة البيع في الشارع رغم صعوبتها كوننا نصادف كل طبقات المجتمع الا انها باب رزق لي لأعيل نفسي وعائلتي حيث ان والدي رجل يعاني من بعض الامراض المزمنة الامر الذي جعله عاطلا عن العمل لكنه يقوم بمساعدتي في بعض الاحيان بحمل طاولتي وانزالها الى الشارع”، وتتابع ضاحكة “وفي بعض الاحيان يضطر الى الوقوف بجانبي منعا من اي مضايقات خصوصا في الاماكن المزدحمة”.

وتضيف نور “احاول التوفيق بين دراستي وعملي الى جانب مساعدة والدتي في اعمال المنزل إذ أقوم بترتيب وقتي ولا اهدره بمتابعة مسلسل او فلم مثلا او ما يلهيني عن اداء واجباتي”.

نور الطالبة في السنة الرابعة تأمل ان تتخرج من كليتها ولا تقف في طابور الطلبة المنتظرين انفراج ازمة التعيينات في العراق فكلها امل ان تحصل على فرصة عمل في احدى المؤسسات الحكومية لمساعدة اهلها في تحسين وضعهم المادي.

تضيف لـ “نقاش” وهي ترتب بضاعتها الانيقة ” تعلمت من والدتي صنع شتى انواع الاكلات لذلك ادخلت هذه الحرفة في مجال عملي وبدأت بإنتاج مختلف الأطعمة الحلوة والمالحة التي أعدها في المنزل وبحسب طلب الزبون وبأسعار مناسبة “.

ترى نور أن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت المجال امام عملها فهي تعرض منتجاتها وتسوقها عن طريق الفيسبوك والانستغرام وتقول “غالبا ما تصلنا الطلبات عبر الفيسبوك او الانستغرام الخاص بصفحتنا فنقوم بتلبية تلك الطلبات وهذا الامر حقق لنا الانتشار”.

تجمع عدد من الزبائن امام طاولتي الشابتين بين مشتر ومحب لرؤية اعمالهن الجميلة ومنهم من شد على أيديهن للمضي قدما بعملهن وترك كلام كل من يحاول احباط عزيمتهن او التقليل من قيمة أعمالهن زاد من إصرارهن على الاستمرار وتقديم الأفضل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here