ثقافة فن الحياة – ضرر الوقار الزائف على صحة المسن !

* د. رضا العطار

ان المسنين عندنا من الجنسين جديرون بان يعيشوا حياة افضل, لكي يستمتعوا سنوات العمر المتبقية بدل من ان يقضوها في ملل وتمارض . وعلى جمهورنا ان يكف عن مطالبتهم بهذا الوقار المصطنع الذي يحمل المسن على ألا يلعب ولا يتنزّه او يقوم بنشاط الشبان . فان كثيرا من ركود وخمول المسنين في بلادنا وترهلهم نفسيا وجسميا يعود الى هذا الوقار المفروض من قبل المجتمع، وهي عادات قديمة موروثة. هذا الوقارالذي يمهد الطريق لهم ان ينتهوا على خشبة المقهى . ولا يسمح لهم الوثب والجري او التمشّي على شاطئ نهر او التمرغل بين احضان الطبيعة ليستمتعوا بجمالها, من روعة مشهد الرياحين او سماع تغريد الطيور الى النسيم العذب المشبع بعطر الزهور، فهناك متسع من الوقت كي يمارس مع رفاقه من الرجال العاب الكرة الخفيفة، كل هذا يخدم صحة المسن ويطيل في عافيته ويبعده عن التفكير في اوهام الشيخوخة.

ان ما نحتاج اليه عندما نبلغ الستين هو ان نتحّدى الشيخوخة ولا نستسلم لمظاهرها. وذلك بان نعد الجسم والذهن والعاطفة لنشاط لا يركد. وصحيح ان هذا النشاط قد يبطئ ولكن العدو الذي يجب ان نكافحه هو هذا الركود الآسن الذي نركن اليه فيما يشبه لذّة الموت. مستهينين لثقافة الفكر والنفس, قانعين بالاستقرار دون الاستطلاع حتى تذبل العواطف او نعيش دون عواطف, وما قيمة الحياة اذا الانسان لم يستمتع بنشاط الجسم والذهن والعاطفة ؟ .

علينا ان ننظر لمشكلة الشيخوخة باعتبارها مشكلة نفسية قبل ان تكون مشكلة جسمية. وهي لذلك تحتاج في اكثرها الى المعالجة السيكولوجية وفي اقلها الى المعالجة الطبية. بل نستطيع القول بان امراض الجسم كالسمنة والترهل و الاوجاع المفصلية انما هي نتيجة لأمراض نفسية احدثتها عادات سيئة في طرائق المعيشة ونوع التغذية اهمها، لكننا نستطيع التغلب عليها بالرياضة والحركة والحياة النفسية السليمة التي تهزأ بآلام الجسم الوهمية، كماعلينا ان نعلم انه متى ما فسدت النفس فأن الفساد يسري الى الجسم .

ان النفس البشرية تحتاج من وقت لأخر الى ما يشبه التحليل الكيميائي كي نقف على العناصر التي تعمل على اصلاحها او افسادها. فأن الفرد الذي يقضي معظم وقته في اجتراء الحقد والغيرة والحسد والخوف والقلق، سرعان ما ينتقل الأثر من النفس الى اعضاء الجسم . اي ان توتّر النفس يؤدي الى ركود الجسم وبالتالي الى تصلّب الشرايين المبكر الذي يعجّل علينا بالموت الزوأم, اما بالسكتة القلبية او الفالج بعد انفجار الشريان في الدماغ . فهنا نفس مريضة ادّت الى جسم مريض.

لكن هناك امراضا اخرى تخفي على الجمهور الذي يعتقد انها جسمية صرفة مع ان الاصل فيها مرض نفسي, فان السمن والترهل ينشآن من الكسل والسأم وكلاهما لا تجد الهمّة او الاهتمام للعمل والنشاط . وكثيرا ما تؤدي السمنة الى مرض السكر او الكلية او زيادة ضغط الدم او الى مرض المفاصل وقد يتعرض لأمراض لم تخطرعلى بال.

يكاد يكون من النادر ان تجد شخصا قد بلغ الثمانين يسأم حياته او يشكو دنياه . اذ لا بد له من هواية تملأ فراغه او عمل يتابعه بالجد والمثابرة او له مُثل عليا يسعي لتحقيقها
فهذا الأديب الانكليزي ج . ولز مثلا يؤلّف ويخطب ويكافح في اواسط القرن العشرين من اجل المذهب العالمي ضد المذهب الوطني وهو على اعقاب الثمانين من عمره . وهذا غاندي يعيش بقوة كفاحه ونضاله المرير لاجل تحرير بلاده من نير الاحتلال الاجنبي وهو في اواخر السبعين من عمره.

وجميع هؤلاء يمتازون بصحة النفس وهم يجاهدون من اجل اهداف سامية وضعوها لأنفسهم وهم يتشبثون بالحياة لانهم يشعرون بانها غالية اذ هم يؤمنون بها ويحبونها . وكل منهم يقرأ ويدرس ويتحمّل المسؤوليات. وعمله هو هوايته التي يتعلق بها ولا يبالي ما تستهلك من وقته ومجهوده . وهنا يجدر بنا ان نلاحظ ان المسنين الذين يؤدون عملا مفيدا ويتخذون في الحياة خطة ارتقائية، يكونون في اكثر الاحوال من المجددين المتفائلين الذين يؤمنون بالمثل العليا , يبغون ارتقاء مجتمعاتهم . ..
اما الجامدون , ففي اغلب الاحوال يائسون متشائمون . وهذا الجمود يؤثر في نفوسهم أسوأ الاثر لانه يحول بينهم وبين التفكير الصائب يحملهم على التقاعد والخمول اعتقادا منهم بأن اي مجهود لا قيمة له. ويمكن القول ان صحة النفس التي تؤدي الى شيخوخة نضرة هنيئة تقتضي :

اولا : ان يكون سلوكنا وتصرفنا بعيدا عن الغيرة والحسد والخوف والقلق لان هذه الهموم الأكّالة تستهلك الجسم وتحدث به امراضا كثيرة. ودين الاسلام قد اكّد على ضرر الصفات الممقوتة هذه واوصى بالابتعاد عنها اذ قال في سورة البقرة
( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون ) . كما قال في سورة الفلق ( قل اعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق اذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد اذا حسد ) .
ثانيا : ان نتعلق بهواية منتجة تؤدي الى عمل مفيد تجعلنا نشعر بفائدتنا للمجتمع , فنحسّ بنهضة الكرامة وبحياة ملئها التفائل يفضي علينا مشاعر السعادة ويحمينا من السقوط في حياة الخواء.
ثالثا : من المفضّل ان يكون العمل الذي نؤدّيه او الهواية التي نتعلق بها ان تكون ارتقائية في غايتها, تبعث على التفائل والاستبشار . كأن نربي في حقولنا اورادا نتمتع بزهو جمالها, ثم نقوم في تقطيرها وننتج منها عطرا، نزين به اجواء بيوتنا بعبقها الفواح الى جانب ذلك نكسب مالا نعزز به اقتصادنا الوطني.
علينا ان نتوقى الهرم كما نتوقى الموت, اي ينبغي ان لا نموت في الشيخوخة التي لا تزال تحتفظ بالكثير من فضائل الشباب، نتجنب الاطعمة الدسمة التي تحدث ترسبات الاحماض ونحافظ على النحافة بالرياضة الخفيفة. وشر ما يعمل هرم الشيخوخة هو النهم اثناء تناول الطعام. كما يحتاج الانسان بعد الخمسين الاعتدال في كل شئ و تجنب الاغذية المالحة او الحاوية على الشحوم وعدم الاكثار من مواد الكاربوهيدرات, كالخبز والرز والبتيتة واستبدالها بالخضروات واكثرها خطرا على صحته في المراحل المتقدمة من العمر، الحلويات بجميع اصنافها.

والجدير بالذكر انه لايجوز الكف التام عن الاشياء التي كنا قد اعتدنا عليها من قبل، فالكف التام يميت ولا يحيي. فالمسن ينبغي ان يستمر على ممارسة نشاطه الاجتماعي من قراءة الجرائد والمجلات وارتياد النوادي وزيارة الاصدقاء. اما الاعتقاد باننا دخلنا مرحلة الانهيار واننا نشرع في الخرف وان الخطة المثلى ان نقضي ما تبقى من سنوات العمر في الفراش, لأن القضاء المحتوم قد اوشك، فهذا وهم صارخ.

* مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين للعلامة سلامة موسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here