محن وكوارث المندائيين في وطنهم العراق

د. كاظم حبيب

إلى أحبتنا، أخواتنا وأخوتنا المندائيين، مواطناتنا ومواطنينا في الوطن المستباح بالطائفية والفساد والإرهاب، إلى من عانوا من ظلم الحكام وجمهرة من شيوخ الدين المسلمين العرب وغير العرب أثناء الحكم العثماني والفارسي وقبلهما وبعدهما بالعراق حتى الوقت الحاضر، إلى الشهداء الذين سقطوا لعقيدتهم الدينية أو لأفكارهم ومواقفهم السياسية الوطنية والديمقراطية، إلى من أجُبروا على ترك أرض وطنهم ومياههم، مياه دجلة والفرات، والمندي، إلى من يحنون دوماً للعودة إلى أرض الأجداد، إلى الأرض التي ساهموا بحراثتها وزراعتها والصناعة الفضية التي مهروا حرفتها وأبدعوا فيها، إلى أولئك الأبطال الذين رغم كل ذلك استمروا صامدين على أرض الوطن لأنهم ملحها ونور دنيانا، اليكم يا من أنتم بالوطن أو بالمهجر، هذه اللوحة المكثفة عن دوركم وواقعكم والمحن التي كابدتم منها والكوارث التي عشتم تحت وطأتها وعانيتم منها، يا من تمارسون دوركم في الخلاص من النظام السياسي الطائفي وقوى الفساد والإرهاب وتعملون من أجل بناء عراق ديمقراطي علماني لا تمييز فيه على أساس القومية أو الدين أو المذهب أو الفكر الإنساني الحر!!

المندائيون يشكلون جزءاً أصيلاً من سكان وداي الرافدين، ميزوبوتاميا، منذ أن بزغت الحضارة السومرية على هذه الأرض الطيبة، وهم لا زالوا بالعراق وسيبقون فيه، رغم الكوارث والمحن المستمرة التي تعرضوا لها عبر تاريخهم الطويل، ورغم التهجير القسري الذي لم يتوقف حتى الآن. وقد لعبوا وما زالوا يلعبون دوراً حيوياً ومهماً في الحياة الفكرية والروحية العراقية. وبهذا الصدد يشير الكاتب الفقيد عزيز سباهي إلى ما يلي: “لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دوراً ملحوظاً في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد ما بين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية-الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية-الإسلامية. ولكنهم بعد تدهور هذه الحضارة، والغزو المغولي، والفتح العثماني من بعد، وتعرضهم إلى الاضطهاد في العهود المختلفة، انكمشوا على أنفسهم في القرى المنتشرة عند البطائح الممتدة من جنوب نهر الفرات حتى نهر كارون في جنوب غرب إيران، ..”.1
يختلف الباحثون حول أصل الدين المندائي. إلا أن الكثير من الدراسات المقارنة المهمة لأبرز الباحثين الذين بحثوا في الدين المندائي تشير إلى أن هذا الدين رافديني الأصل، إذ أن هناك روابط أو وشائج قوية بين الدين المندائي والدين السومري العراقي القديم. وهنا يبدو لي بأن من المجدي حقاً أن نفكر بالاتجاهين التاليين، وهما:
أ. هل إن السومريين، كمجموعة بشرية، كانوا مجاورين للمندائيين، كمجموعة بشرية أخرى، في جنوب العراق، وبالتالي كانت المجموعتان متأثرتين بأصول دينية ذات جذر واحد مع تباين في تفاصيل الدين.
ب. أم إن المندائيين هم الاستمرار لما تبقي من السومريين، وبالتالي فأن دينهم يتطلق من جذر واحد، ولكنه، كأي دين آخر، عرف بعض التحولات والتغيرات عبر القرون اللاحقة، ولاسيما في مجال تعدد الآلهة في الدين السومري، في حين تسود وحدانية الحي العظيم في الدين المندائي، وتحول الآلهة المتعددة في الديانة السومرية إلى ملائكة (إثري) في الدين المندائي تخوض ذات الصراعات التي كانت تخوضها في الدين السومري أو البابلي بشكل عام، إضافة الى تميز الدين المندائي بالغنوصية (المعرفية).
في أغلب دراسات الباحثين تجري المقارنة بين الدينين ولا تنطلق من احتمال كونهم كمجموعة بشرية من أصل واحد. ولكن الباحث عزيز سباهي أثار في بحثه القيم تساؤلاً مشروعاً بهذا الصدد، حيث كتب ما يلي: “يثار هنا تساؤل مشروع. هل كان المندائيون قد تأثروا بشكل مباشر بأفكار الجماعات البابلية التي كانت تجاورهم، أو أن يكونوا هم ذاتهم من بقايا البابليين وطوروا معتقداتهم من خلال تفاعلهم مع الجماعات اليهودية والفارسية وغيرها التي كانت تعيش بجوارهم، أو أن يكونوا من الجماعات الآرامية التي تطورت أفكارها كثمرة للتفاعلات المختلفة، أو أن يكونوا جماعة صغيرة هاجرت إلى جنوب العرق من الغرب وهي تحمل فكراً غنّوصياً فطورته بتأثير الفكر البابلي والفارسي محولة إياه إلى تيار غنّوصي ذي مزايا شرقية خاصة؟” 2مع إنه لا يقطع بأي من هذه الاحتمالات، إلا إنه يميل، وأنا معه في ذلك، واستناداً إلى تراثهم الأدبي في مختلف المراحل إنهم من جنوب العراق.3
إن تتبع الكثير من الدراسات والكتب الصادرة عن باحثين مختصين بالشأن المندائي، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب هنري أوستن لايارد الموسوم “نينوى وما تبقى”4، وكتاب الباحثة المختصة الليدي دراور الموسوم “الصابئة المندائيون”، وكتابها الثاني الموسوم “أساطير وحكايات صابئية”5، وكتاب مارك ليدزبارسكي الموسوم “كتاب يوحنا عن المندائيين6، ثم كتاب عزيز سباهي الموسوم “أصول الصابئة (المندائيين) ومعتقداتهم الدينية”7، وكتاب خزعل الماجدي الموسوم “جذور الديانة المندائية”8، التي تعتبر دراسات جادة ومهمة أجرت مقارنة بين الدين السومري والدين المندائي، وهي تشير إلى التماثل الكبير في الجواهر الإلهية الثلاثة التي برزها الباحث خزعل الماجدي: جوهر الماء وجوهر النور وجوهر الظلام9، إضافة إلى التقارب الكبير في المندي، وتراتبية الكهنة، ومراسيم دفن الموتى والطقوس الدينية، ورمز الديانة الدرفش أو (الراية)، مع الأساس الفلسفي لهذا الدين وجوهره ومدى تأثير الغنّوصية العرفانية أو المعرفية عليه لاحقاً. إضافة إلى الأساطير والحكايات الشعبية. وتجدر هنا الإشارة إلى تركيز الباحث عزيز سباهي أولاً ومن ثم الباحث خزعل الماجدي على مسألة أساسية في الدينين هي التماثل الكبير في أسطورة الخلق أو الكون. كتب عزيز سباهي في كتابه القيم بهذا الصدد ما يلي:
“1. إن كلا الأسطورتين تقرّان بوجود عالمين من البداية.: عالم الظلام، العالم الأسفل، تسكنه كائنات معينة (تي آمت وأبسو) والوحوش الأخرى في البابلية (والروها وكاف وأور وكرون والوحوش الأخرى في المندائية من جهة،. .. وعالم النور، عالم السماء، العالم العلوي من جهة أخرى. إن أهمية هذه المسألة تكمن في كون الأسطورة البابلية (ذات الأصل السومري) قد أشارت بوضوح تام إلى هذا التناقض منذ البداية. وبالتالي فهي أصل القول بعالمي الظلام والنور وليست المعتقدات الفارسية. إن الفرس هم الذين استقوا هذا المعتقد من بابل وطوروه من بعد إلى صراع بين أهريمان وأهورا مازدا، وبالتالي فأن المندائيين يأخذون معتقدهم في الظلام والنور من البابليين مباشرة وليس من خلال الفرس كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين…” 10 وهنا يمكن أن ترد الملاحظة التالية: يقول عزيز سباهي إن المندائيين يأخذون معتقدهم من البابليين مباشرة وليس من الفرس، ولكن الوقائع التاريخية تشير وتؤكد إلى أن المندائيين هم بابليون أيضاً، أي أنهم جزء من الحضارة البابلية ومعتقداتها، وإن معتقداتهم هي جزء عضوي من معتقدات البابليين، مع الأخذ بالاعتبار تطورها والإضافات الي حصلت على الديانة المندائية.
“2. كلا الأسطورتين تقومان على أساس أن تمرداً ما يحدث في عالم الظلام ضد عالم النور، وأن عالم النور يعمد إل قمعه فتتم بعدها عملية الخلق. وكلاهما يصف الاستعدادات التي يتخذها كلا الطرفين استعداداً للصدام.
3. كلاهما يختار شاباً لقمع التمرد ويمنح كل الوسائل الضرورية لاكتساب قوة جبارة يستطيع بها أن يحقق النصر على قوى عالم الظلام …
4. وفي الأسطورتين يبدو الإنسان مزيجاً من عنصرين: أرضي، طين الأرض، وما ينشأ عنه من خلق وطباع وغرائز مستمدة من العالم الأسفل، عالم الشر، وسماي: مرة يبدو في صورة دم إلهي، وتارة في صورة نفس سماوية، وما يرتبط بها من عقل ومعرفة وحكمة.”
وفي ضوء ذلك، هناك من الدلائل ما يؤكد أصلهم الرافديني البابلي العراقي، رغم وجود بعض الآراء التي ترى أن أصل وجودهم متوسطي شامي مصري، وبعضهم الآخر يرى كونه فارسي وهندي الديانة. إذ جاء في الكاتب الموسوم “جذور الديانة المندائية للكاتب الدكتور خزعل الماجدي بهذا الصدد ما يلي: إلا أننا نرى ان أصول الديانة الصابئية المندائية تمتد بجذورها راسخة في أرض العراق القديم، وتحديداً أرض سومر.. حيث نرى ان الدين الصابئي المندائي هو ما تبقى من الدين السومري (الذي طواه الزمن منذ زمن بعيد) .. ولكنه أصبح مغلفاً بالكثير من الأديان التي أتت من داخل أو خارج العراق القديم”. ثم يؤكد ذلك مباشرة بقوله: “إن الدين المندائي دين توحيدي شأنه في ذلك شأن الديانات الموحدة المعروفة ولكن عمقه الروحي والتاريخي ضارب في الجذور القديمة لأقدم ديانات وادي الرافدين.”11
تعتبر الديانة المندائية أقدم الأديان التوحيدية التي يطلق عليها المسلمون بالديانات الكتابية (المندائية والمجوسية واليهودية والمسيحية والإسلام)، وكتابهم المقدس “كنزا ربا” إضافة إلى كتب دينية عديدة أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر نشير إلى “دراشة اديهيا”، و “ديوان أباثر”، وديوان “حران كويثا”. والدين المندائي مغلق غير تبشيري، وغير معروف تماما ما إذا كان منذ البدء غير تبشيري، أم حصل هذا لاحقاً بسبب المضايقات والاضطهاد والقمع الذي تعرض له المندائيون، إذ إن الأديان من حيث المبدأ تبشيرية عموماً، وبالتالي، فأتباع هذا الدين لا ينافسون أتباع الأديان الأخرى في دينهم، ولا يسعون إلى كسب أتباع الأديان الأخرى لدينهم. دين الصائبة المندائيين، وبخلاف الكثير من الأديان، فالدين المندائي مسالم، يدعو إلى المعرفة، بحكم غنوصيته، وليس لهذا الدين من نبي أو مؤسس محدد، كما في الأديان الكتابية الأخرى، وهو أمر إيجابي، فاتباع هذا الدين، الناس، كلهم هم الذين مارسوا هذا الدين ووضعوا طقوسه وسجلوا تراتيله. كتب الشيخ الترميذة علاء النشمي إجابة عن سؤال من هو مؤسس الدين، ما يلي: “إن الديانة المندائية تختلف عن باقي الأديان، بكونها ليس لديها مؤسس بشري .. أن المندائية ببساطة هي شرعة الحياة الفطرية (شرشا اد هيي) التي عرفها والتزم بها آدم أبو البشر (أول إنسان عاقل) .. فقد ورد في ك/ي، عندما أمر الخالق العظيم، رسول الحياة والنور (هيبل زيوا) (أ.س) بما يلي: ((اذهب، ناد بصوتك آدم وامرأته حواء وجميع ذريتهم بصوت عال ناديهم واجمعهم وخذ على نفسك أن تعلمهم كل شيء. أعطهم دروسا عن ملك النور السامي ذو القوة الواسعة العظيمة دونما حد أو عدد وعرفهم بعوالم النور الأبدية))، وأيضا ورد في ك/ي ((لقن آدم وزوجته العلم والمعرفة)). فهذا الأمر من الخالق العظيم لملاكه الطاهر، بان يعلم آدم وزوجته حواء (العلم والمعرفة).. فهذه المعرفة هي المندائية، ويقصد بها معرفة وجود الرب الحي العظيم. فالمندائية امتداد لشريعة عوالم النور (عوالم الله).. فهي تعني المعرفة.. ويقصد بها معرفة الرب وتوحيده، الحي العظيم (هيي ربي) مسبح اسمه، وتنظيم الصلة ما بين رب الأكوان والإنسان، وهذا هو أهم شيء وجوهر الدين المندائي.. وأول من عرف، وكان مندائي بسبب معرفته، هو آدم (مبارك اسمه).. المندائية هي معرفة الحياة وهي ليست وليدة عصر، وإنما وليدة كل العصور.”12 من هذا يمكن القول بأن الدين المندائي يقترن بأدم ونوح وسام وشيت وبعدد آخر من المصلحين (الأنبياء) الذين ذكروا في القرآن أيضاً، ولاسيما إبراهيم ويحيى وزكريا، بالتالي فهم يحترمون جميع “أنبياء” الأديان الأخرى.
رغم هذا التوضيح، اختلف الكهنة وشيوخ الدين من جميع الأديان الأخرى بشأن المندائيين. ويعود هذا إلى حد ما إلى الانغلاق المندائي على الذات من جانب شيوخ الدين المندائيين ومنذ القدم، باعتباره ديناً باطنياً لا يجوز كشف أسراره. ونشأ عن ذلك، إضافة إلى عوامل أخرى لا دخل للمندائيين فيها، ومنها محاولة احتوائهم وإدخالهم في دين الآخرين، كما لحقت بهم إساءات كثيرة وتفسيرات خاطئة، وتعرضوا إلى محن وكوارث كثيرة عبر تاريخهم الطويل.
فعلى سبيل المثال لا الحصر جاء في كتاب (حران كويثا) (حران السفلى) ( Inner Harran ) ، وهو أحد الكتب الدينية الذي يتحدث عن تأريخ الصابئة المندائيين، إلى تعرضهم في القرن الميلادي الأول وفي بداية الدعوة المسيحية الى الإرهاب والمجازر وحملة إبادة جماعية للمندائيين في مدينة أورشليم سنة 70م التي كان يسيطر عليها الحكم الروماني حيث تمت إبادة آلاف المندائيين ومن بينهم 360 رجل دين مندائي وكانت هذه المذبحة العامل الأساسي في هجرتهم الأولى من اورشليم والعودة الى موطنهم الاصلي في وادي الرافدين ووقف التبشير بالدين المندائي مما أثر على أعدادهم لاحقا”.13 يمكن هنا العودة إلى مواعظ وتعاليم (دراشة أديهيا) ليحيى بن زكريا الذي يشير فيه إلى العلاقة مع اليهود حينذاك.14
كما كتبت الليدي إي. أس. دراوور في كتابها (الصابئة المندائيون) عن الإبادة التي تعرض لها المندائيون في القرن الرابع عشر في مدينة العمارة حين كان السلطان محسن بن مهدي حاكما عليها، وكان ابنه فياض حاكما على شوشتر حيث تعرض بعض العرب على امرأة مندائية لغرض اغتصابها وعلى أثر ذلك أعلنت الحرب على المندائيين فتم قتل رجال الدين والرجال والنساء والاطفال وبقيت الطائفة بلا رجال دين لعدة سنين.15 بالنسبة للمسلمين، من حيث المبدأ، يفترض أن يأخذوا بما جاء في القرآن بشأن المندائيين، إذ اعتبرهم أهل كتاب، وبالتالي فلا يجوز الإساءة لهم أو قتلهم بأي حال. فهل تصرفوا باستمرار على هذا الأساس؟ واقع الحال يشير إلى غير ذلك! فقد تصرف الكثير من الحكام وشيوخ الدين المسلمين بخلاف ذلك، ونقلوا موقفهم أحياناً كثيرة إلى أوساط المسلمين، مما أدى إلى تعرضهم للكثير من الكوارث والمحن على امتداد تاريخهم في ظل الدول ذات الأكثرية المسلمة.
فالواقع يشير إلى أن شيوخ المسلمين لم يختلفوا عن كهنة وشيوخ بقية الأديان الكتابية بشأن الديانة المندائية وأتباعها. فمنهم من رأى ضرورة فرض الجزية عليهم باعتبارهم من الذميين وأهل كتاب، ومنهم من رأى أنهم كفارا يجب قتلهم. كتب د. رشيد الخيون في كتابه الموسوم “الأديان والمذاهب بالعراق” في الجزء الأول منه بهذا الصدد ما يلي: ” إن الجهل في تاريخ هذا الدين، بسبب باطنيته جعل الطبري ينقل عن المفسر عبد الرزاق الصنَّعاني (ت 211ه) عن سفيان الثَّوري (ت 161ه) “الصابئون قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين).16 ومثل هذا التقدير ليس خطأً فادحاً فحسب، بل يعرض أتباع هذه الديانة إلى خطر القتل على ايدي المسلمين. كتب الخيون بصواب ما يلي: لا نعتقد أن في الشرق منبع الأديان، هناك قوماً لا دين لهم. ومن يطلع على كتاب “كنزا ربا” وترجمات كتب المندائيين الأُخر مثل “ديوان أباثر” ورسوم الأفلاك، والكائنات النورانية قد يعذر الزمخشري (ت 538ه) على الشطر الأخير من عبارته التالية: “قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة”.17 التفسيرات الخاطئة وبعيداً عن معرفة الدين وأصوله وطقوسه كان سبباً في الكثير من الاجتهادات الخطيرة التي عرضت أتباع الديانة المندائية إلى الكثير من الكوارث والمحن. فعلى سبيل المثال لا الحصر صدرت فتاوى تعتبرهم مشركين، وبالتالي يحل على المسلمين قتلهم، منها مثلاً ما أفتى به محتسب بغداد والقاضي والفقيه الشافعي ابي سعيد الحسن بن يزيد الإصطخري (ت328هـ) أيام القاهر العباسي، روى الخطيب البغدادي (ت 463ه) في سياق ترجمة الإصطخري: أفتاه بقتلهم، لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنصارى، وأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، حتى جمع بينهم مالاً كثيراً له قدر فكف عنهم.”18
تؤكد جميع المصادر التي تحت تصرفي إلى العراق وإيران هما موطنا المندائيين. كتب الباحثان نعيم بدوي وغضبان الرومي في مقدمة كتاب الليدي دراوور الموسوم “الصابئة المندائيون” الذي قاما بترجمته ما يلي: “حول ضفتي الرافدين وبخاصة في المناطق السفلى من النهرين فيما يسمونه البطائح منهما حيث يصب النهران العظيمان مياههما في الأهوار وحيث يلتقيان في مدينة القورنة قبل أن يفرغا مياههما في الخليج العربي، وفي بطائح عربستان من بلاد إيران حول نهر كارون الذي يصب هو أيضاً مياهه في الخليج ذاته، في تلك الأصقاع عاش ولا يزال يعيش بقايا طائفة يطلق عليها الصابئين أو الصابئة أو الصبة وتطلق هي على نفسها اسم (المندايي). وكان الصابئون المندايي هؤلاء يقطنون تلك الأصقاع حين فتحت الجيوش الإسلامية بلاد الساسانيين وكانوا بأعداد كبيرة تكفي لأن يذكرهم القرآن الكريم باعتبارهم ديناً كتابياً ويمنحهم الحماية ويسميهم (الصابئين)، هذه التسمية التي لا يزالون يُعرفون بها اليوم والتي تضمن لهم وجودهم وعيشهم بين المسلمين كدين كتابي متسامح معه.” 19 لغة المندائيين هي الآرامية- المندائية، وهم آراميون.
سنحاول فيما يلي أن نتطرق إلى واقع المندائيين بالعراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتى الآن.
أشرنا سابقاً إلى أن المندائيين يتسمون بخصائص إنسانية كالرغبة الجامحة في السلام والمحبة والتعاون والتضامن والابتعاد عن الصراعات وحب العراق، باعتباره وطن الآباء ولأجداد الذي شاركوا في بناء حضارته على امتداد تاريخ العراق بكل صمت وتواضع، وهم من محبي العلم والمعرفة. ومن هنا انطلقت تلك الحكمة المندائية التي تقول “ويل لعالم غير منفتح على غيره، وجاهل منغلق على نفسه”. جنبهم هذه المواقف الكثير من المصاعب والآلام، رغم بروز مواقف غير ودية من جانب الحكام في فترات مختلفة من تاريخ العراق. وفي العراق الحديث، حيث وضع الدستور والقوانين ونظم العمل الحديثة، ابتعد المشرع العراقي عن ذكر أتباع الديانة المندائية في الدستور أو في القوانين والأنظمة، كما حصل بالنسبة لليهود والمسيحيين، وأهمل الجانب الشرعي في ديانات الآخرين في أحين أهمل ذلك في ديانة المندائيين، وبشكل خاص موضوع الزواج والطلاق والوراثة والزواج بغير المندائي …الخ.
كما تجلى أيضاً في اعتبارهم يعبدون النجوم والكواكب في بعض كتب التعليم المدرسية والتي تتنافى مع موقفهم التوحيدي والذي لا يختلفون به عن المسلمين في موقفهم من الإله الخالق. كتب الكاتب العراقي المندائي يقول: “فقد جاء بإحدى الكتب التدريسية لمادة (الدين) لجميع مدارس العراق للصف الثاني متوسط، والذي عرف بموجبه الصابئة بانهم قوم يعبدون الكواكب والنجوم، وبهذا تكون الدولة طرفا بالموضوع، وقد ساهمت بتثقيف الشباب وتحريضهم على ممارسة العنف والقتل اتجاه أفراد هذه الطائفة، بشكل غير مباشر باعتبارهم ملحدين كفرة، رغم أن وزارة الاوقاف والشؤون الدينية على إطلاع تام بمحتوى كتب الصابئة الدينية، التي قام بترجمتها الى اللغة العربية أساتذة وعلماء من الجامعات العراقية، وبإشراف الوزارة نفسها وباقي دوائر الدولة المعنية بما فيهم صدام حسين نفسه. وبمعنى آخر أن الدولة أباحت جريمة قتل أبناء هذه الطائفة عمدا مع سبق الاصرار مع الاسف الشديد. وهناك وقائع مادية وأمور سلبية أخرى عديدة مدونة بشكل رسمي أمام القضاء لا يسمح المجال لطرحها جميعها الان.” 20 وإذا كان هذا الأمر قد أساء لهم كثيراً خلال الفترات المنصرمة وقبل إسقاط دكتاتورية البعث وإقامة النظام السياسي الطائفي على أنقاضه من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة، فأن الدستور العراقي الجديد قد جاء على ذكر المندائيين مرة واحدة في الفقرة ثانياً من المادة الثانية، إذ نصت:
“ثانياً: يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والإيزيديين، والصابئة المندائيين.”21
“كما إن البطاقة التموينية الجديدة قد تضمنت ما يسيء إلى المندائيين على وفق ما جاء في بيان لرئاسة الطائفة، نرفق هنا نصه:

راجع: مجلس شؤون الصابئة المندائيين العام في العراق، 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.

وفي الواقع العملي لا يتمتع الصابئة المندائيون بأي حرية فعلية، لأنهم يعيشون في تهديد دائم من قبل قوى الإسلام السياسي المتطرفة، كم إن الحكومة لا توفر لهم أي وضع أمن، بل ربما بعض القوى الحاكم ترتاح لهجرة بقية المندائيين من العراق، تماماً كما هو الموقف من بقية أتباع الأديان والمذاهب الأخرى ومنهم المسيحيون. فقد تعرض المندائيون بالعراق، سواء أكان في موطنهم الأصلي جنوب العراق، أم ببغداد، إلى شتى صنوف الاضطهاد والمطاردة والتشريد والقتل والتهجير، إضافة إلى سلب دورهم ومحلات عملهم وما فيها من جانب المليشيات الطائفية المسلحة التابعة للأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية بشكل خاص في مناطق الجنوب وبغداد، إضافة إلى التنظيمات الإرهابية السنية، كالقاعدة وداعش أو غيرها.
ليست لدينا معلومات تفصيلية عن عدد السكان المندائيين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وأول المعلومات المتوفرة تعود إلى الإحصاء الرسمي لعامي 1957 و1965، إذ لم يذكر عن أتباع الديانة المندائية قبل ذاك بشكل مستقل عن بعض الأديان الأخرى، بل كان أتباع الديانة المندائية يدمجون مع الإيزيديين وأتباع ديانات أخرى، وتذكر تحت باب “آخرون”.
والجدول التالي يشير إلى عدد نفوس المندائيين في هاتين السنتين 12957 و1965:
المنطقة
السنة
عدد سكان الصابئة المندائيين بالعراق في عامي 1957 و1965
نسبة المندائيين إلى نسبة السكان العراق والمناطق%
العراق
العراق
1957
1965
11.825
14.262
0,03%
0,18%
المحافظات الشمالية
المحافظات الشمالية
1957
1965
359
305
3,0
2,1
المحافظات الوسطى
المحافظات الوسطى
1957
1965
5.421
7.492
45,1
52,5
ومنها بغداد
ومنها بغداد
1957
1965
3.768
6.271
31,9
43,9
المحافظات الجنوبية
المحافظات الجنوبية
1957
965
6.305
6.465
52,2
45,3
المصدر: د. فاضل الأنصاري، مشكلة السكان، مصدر سابق، ص 31 و32.

ورغم هجرة جمهرة غير قليلة من المندائيين إلى خارج العراق في فترة حكم البعث، بسبب مواقف المعارضة من استبداد النظام وبطشه ومن ملاحقة أجهزة الأمن لهم وابتزازهم، فأن عدد السكان الصابئة قد قدر بـ 70000 نسمة في نهاية عام 2002 وبداية 2003. وتشير آخر المعطيات المتوفرة إلى إن عدد المندائيين بالعراق لا يزيد عن عدد يتراوح بين 7000 – 10000 نسمة، ونسبة مهمة من هذا العدد تعيش بإقليم كردستان، ولاسيما أربيل حيث بنوا معبدهم المسمى “المندي”. وبهذا يكون عدد المهجرين قسراً يصل إلى رقم خيالي بالنسبة للأقلية الدينية السكانية المندائية، إذ بلغ بحدود 60000 نسمة أو ما يعادل 85% من المندائيين. وهم يعيشون اليوم بأوروبا، ولاسيما بالسويد والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والأردن، حيث تعتبر الدولة الأردنية موقع العبور لهم إلى دول العالم الأخرى. إنها جرائم بشعة تلك التي ارتكبت بحق الأفراد والعائلات المندائية خلال الفترة الواقعة بين 2003-2016، إذ بلغ عدد القتلى على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة والإرهابية بـ 193 شهيداً. 22 ولا بد من الإشارة إلى أن الجرائم ضد المندائيين ما تزال ترتكب حتى الآن بهدف إشاعة الرعب في صفوفه ودفعهم للهجرة من وطنهم والسيطرة على أملاكهم، إنها جريمة مستمرة ولم يوضع لها حد حتى الآن.

المصادر
 أنظر: عزيز سباهي، أصول المندائية (المندائيين) ومعتقداتهم الدينية، دار المدى للثقافة والنشر، منشورات المدى، دراسات 18، ط 1، دمشق -1996.

2 أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 77/78.
3 المصدر السابق نفسه.
4 Henry Austin Layard, Ninevah and its Remains, John Murry, London1849.
5 أنظر: الليدي دارور، الصابئة المندائيون، ترجمة نعيم بدوي وغضبان الرومي، دار المدى للثقافة والنشر، ط 2، بغداد 2006.
أنظر أيضاً: الليدي دراور، أساطير وحكايات شعبية، ترجمة نعيم بدوي وغضبان الرومي، دار هيفي، أربيل، ط 2، 2009.
6 Siehe: Mark Lidzbarski, Das Johannesbuch der Mandäer, Verlag von Alfred Töpelmann, Giesen 1915.
7 أنظر: عزيز سباهي، أصول المندائية (المندائيين) ومعتقداتهم الدينية، مصدر سابق.
8 أنظر: خزعل الماجدي، جذور الديانة المندائية مطبعة صفاء حسين الناصر، بغداد، 1997.
9 أنظر، خزعل الماجدي، جذور الديانة المندائية، مصدر سابق، ص 10-22.
10 أنظر: عزيز سباهي، أصول الصابئة .. ، مصدر سابق، ص 76.
11 أنظر: خزعل الماجدي، جذور الديانة المندائية، مطبعة صفاء حسين الناصر، ط 1، 1997. ص 1.
12 أنظر: الشيخ الترميذة علاء النشمي، أسئلة وأجوبة عن الديانة المندائية على موقع الهوية الآرامية، أخذ المقتطف بتاريخ 21/03/2018.
13 أنظر: فائز الحيدر، الصابئة المندائيون والإرهاب عبر التأريخ، موقع اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر، 7 شباط/فبراير 20139.
14 أنظر” يحيى بن زكريا، دراشة أديهيا، مواعظ وتعاليم، بغداد، الطبعة الأولى، 2001م.
15 أنظر: الليدي دراوور، الصابئة المندائيون/ مصدر سابق.
16 أنظر: رشيد الخيون، د.، الأديان والمذاهب بالعراق، مصدر سابق، ص 115.
17 أنظر: المصدر السابق نفسه.
18 أنظر: المصدر السابق نفسه ص 116/117.
19 أنظر: الليدي دراوور، الصابئة المندائيون، ترجمة نعيم بدوي وغضبان الرومي، دار المدى للثقافة والنشر، بغداد، 2006، ص 7.
20 أنظر: عربي فرحان الخميسي، المركز القانوني للصابئة المندائيين في العراق، الجمعية المندائية في المهجر، بتاريخ 21 نيسان/أبريل 2013.
21. الدستور العراقي لسنة 2005.
22 أنظر: التقرير السنوي عن حالة حقوق الإنسان في العراق لعام 2016 الصادر عن الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here