ماذا في نشيد الموت (1) ؟؟؟

عدنان الظاهر

(( نقد لرواية وليمة لأعشاب البحر للكاتب حيدر حيدر ))

– 1 –

من هو البطل الحقيقي لرواية حيدر حيدر المطولة ( وليمة لأعشاب
البحر ) ؟؟ بهذا السؤال أبدا استعراضي للرواية متجها نحو المركز قبل أن أنصرف للفروع الجانبية الكثيرة التي أساء بعضها للرواية .
خلافا لما قد يظنه الراوي فأن بطل الرواية الحقيقي في التحليل النهائي هو ليس ” مهدي جواد ” … انما هو ” مهيار الباهلي ” بطل القسمين الموسومين ( الأهوار ) و ( نشيد الموت ) . واذا ما كان الأمر كذلك , وهوبكل تأكيد كذلك , فما هو دور حيدر حيدر أو ( مهدي جواد ) في أحداث الرواية؟ سؤال صعب لكنه سؤال وجيه . أجل , شديد الوجاهة. ذاك لأن أحداث الرواية الأخرى بكل ما فيها من تفاصيل ناجحة في أغلب الأحيان , وفاشلة في الباقي من الفرص , ما هي الا أحداث حب رخيص عادي ومألوف ضحيته طالبة في مرحلة الدراسة الثانوية وفارسها مدرس استأجرته عائلة الفتاة كي يقوم بأعطائها دروسا خصوصية في بيت أهلها . فتاة مراهقة في مجتمع محافظ لا يحب الأغراب , بل ولا يحب العرب , ورجل تخطى الثلاثين من عمره جاء الى هذا البلد كي يمارس تعليم اللغة العربية في احدى مدارس مدينة جزائرية تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط . جاء هذا الرجل من مجتمع هو الأخر مجتمع محافظ فتخيل أنه في هذا المحيط الجديد قد نفض يديه وتخلى عن عقد مجتمعه مذ أن اصبح شيوعيا يريد تغيير العالم بالكفاح المسلح الذي انخرط فيه فعلا في شباط ( فبراير ) 1963 . جاء هذا المعلم الى الجزائر هربا من الجور والقتل والتعسف الذي ضيق الخناق على شعب العراق منذ 1968 ( وحتى اليوم ). جاء الى هنا حاملا شتى صنوف الحرمان والكبت . جاء متعطشا للحب والحرية المفقودتين في وطنه , متعطشا للجنس والبحر الذي لا وجود له أصلا في العراق . أن تقع طالبة مراهقة في دوامة غرام مع أستاذها الأكبر عمرا والأكثر تجربة والأعمق محنة والأعظم حرمانا انما هي مسألة عادية لا فن فيها ولا غرابة ولا اثارة تستحق الفضول . فليقل المؤلف شكرا للحرمان الذي كان يعانيه من جهة وللعائلة التي سمحت لرجل غريب مثله أن يدخل دارها . المثير للدهشة أن هذا ( الأستاذ ) كان يمارس تدريس الصبية في البيت في غياب رب الأسرة ورغم انفه , اذ أن زوج الأم السيد يزيد ولد الحاج لم يكن مسرورا من مجيء المدرس مهدي جواد الى بيته مهما كانت الأسباب . ما كان يطيق رؤيته والسلام عليه . لماذا اذن يصر المربي , المدرس , المعلم الشرقي أو الشرقاوي على مواصلة اعطاء الدروس الخصوصية في بيت لا يطيق رؤيته ؟ فمن الناحية الأنسانية – الأجتماعية كان لزاما على الأستاذ مهدي جواد ( حيدر حيدر نفسه ) أن يراعي المشاعر العامة لمجتمع يحتضنه , دعاه لتعليم أبنائه اللغة العربية لا
لتعليمه الهوى والسكر ورقص ” الجيرك ” والأنغمار في صاخب الحفلات
وتحدي أولي الأمر ومن هم في مقام الآباء . أين هي عناصر التراجيديا الممكن استخلاصها من علاقة ذئب شره جائع متمرس مع حمل وديع ؟ وهل تصلح مثل هذه العلاقة أن تكون موضوع رواية طويلة عريضة ؟ انني كقاريء أقول لا . انها قط لا ولن تصلح .
كتب قبله احسان عبد القدوس الكثير من قصص الحب والغرام والمغامرات الرخيصة . اذن لماذا نقرأ هذا النوع من الأدب ( الواقعي جدا جدا) ؟ نقرأه بكل تأكيد لا لأنه أدب واقعي ولا لأنه أدب غرام و ( بورنو ) بل لأنه أدب جديد من حيث تنوع أحداث الرواية وأشتباك الغرام مع الثورة والتمرد والحرمان والتشرد هربا من البطش والعسف وأستبداد الحكام . فلأول مرة يكتب روائي من المشرق العربي – لعله سوري أو عراقي أو بين بين –
قصة أو رواية وقعت أحداثها له شخصيا في المغرب العربي . الراوي هو بطل الأحداث . سبق وأن كتب الأديب اللبناني سهيل أدريس رواية ( الحي
اللاتيني ) التي دارت أحداثها في باريس وليس على تراب بلد عربي .
قبل أن ألج عالم الرواية أود أن أؤكد للقاريء الكريم ثانية أن ” مهيار الباهلي ” – وهواسم مستعار لشخصية حقيقية – هو بطل أحداث الرواية وليس ” مهدي جواد ” . هو الراوي الحقيقي وهوشاهد أحداث الفصلين ( الأهوار ) و ( نشيد الموت ) . لقد احسن الكاتب حين أقحم هذين الفصلين في سياق روايته , ولولاهما لكان باقي القص اطارا من خشب الصفصاف العراقي المهلهل . انشاء جميل حينا وحشو فراغ أحيانا أخرى . يصيب الكاتب تارة ويخطيء أخرى إنْ وصفاً أو لغة أو صرفا .
الحقَّ أقولُ : لقد كان بارعا في هذا الإقحام وكان سيد صنعته إذْ مهّد لهذين الفصلين منذ بداية الرواية بحضور شاهد العيان ” مهيار الباهلي ” . الحضور الذي كان ينمو بشكل تدريجي طبيعي وبصبر شديد يحاكي نمو الجنين في بطن أمه في سياق الزمن غير المرئي . نتساءل هنا : لماذا اختار الكاتب هذا الأزدواج بجعله ” الباهلي ” يقاسمه بطولة مسرحه العريض ؟ وهل أن الأمر خيار حر أم أنه أمر مفروض عليه فرضا ؟ اني أرجح الأحتمال الثاني. نعم , كان الإزدواج مفروضا عليه بقوة سلطان الحس الفني وليس تحت ضغط قوى خارجية . وتلكم نقطة تسجل لصالح الكاتب دون ريب وتجعلنا معجبين به ومشجعين لهذا النوع من الأدب. لقد فرض الكاتب على نفسه هذه الأزدواجية – وكان موفقا – للأسباب التالية :
أولا – هو في الأصل من ذات طينة صديقه ” الباهلي ” في مجال السياسة والعقائد . فهما يرومان فرض التغيير الجذري على المجتمع ولو بقوة السلاح . وكلاهما رفع السلاح يوما وقاتلا نظام الحكم في بغداد .
ثانيا – اخفاق المهمات التي ناضلا من أجلها في الوطن. أنشقاق الحزب الشيوعي العراقي وأنتكاسة الثورة المسلحة في أهوار جنوب العراق وأستشهاد أحد أبرز قادتها ونفر من أعز الرفاق .
ثالثا – وأن هذه الهزيمة من العمق بحيث تركت في نفس ” مهدي جواد ”
أبلغ الآثار وأكثرها خطورة اذ طبعت حياته – بأعترافه هو – بطابع أسود
شديد السوداوية وشديد التشاؤم حتى أنه بات يفسر كل ما يجري حواليه
انطلاقا من نتائج التجربة الثورية الفاشلة اياها . لا يغرف الا من ذاك المعين الذي يفور أسى ولوعة وفشلا وأحباطا . كان دائم الخوف ان يقظة أو مناما كما كان شديد التطير دائم الحزن سواء أكان على ساحل البحر يتعرى مع الشابة الجزائرية ( آسيا ) أو وحيدا في حجرته الصغيرة . رجل بمثل هذا التركيب العصبي يتوقع دوما حصول كارثة . متى وكيف ؟ لا أحد يدري .
هل ثمة من شبه بين ” مهدي جواد ” وشخصيات الكاتب الروسي
” دوستيفسكي ” المهزوزة (2) العصابية والمتطيرة ؟ أترك الجواب لعلماء
النفس وأطباء الأعصاب .
رابعا – جعل ” مهدي جواد ” إنكفاء ثورة تموز ( يوليه ) 1958 في العراق وكارثة انتفاضة الأهوار عام 1968 ومقتل أحد قادتها خالد أحمد زكي مبررات لقناعة راسخة فيه ( وكنبوءة وقراءة الغيب ) أن لا مناص من فشل علاقته ب ( آسيا ) , وأن فاجعة الفراق بينهما واقعة لا محالة . وكان مُهيّأً فعلا لقبول العواقب المأساوية والمصير السيء لدرجة التعايش معها آناء الليل وأطراف النهار رغم مرحه ( وهو مرح نادر أصلا ) ورغم مزاحه الفج مع ” فلة بوعناب ” والسهرات القليلة مع الأصدقاء . فهل كان ” مهدي جواد ” على حق في كل أو بعض ذاك ؟ وهل من الضروري أن تنسحب تجاربنا الفاشلة السالفة فتطغى وتغطي مجمل حياتنا اللاحقة وتصبغها باللون القاتم الأسود ؟ لم يقل ذلك حتى فلاسفة البؤس . وانه بذا يدخل في تناقض صارخ مع آيديولوجيته الماركسية المتفائلة أبدا . آيديولوجية التقدم والنظر أبدا الى الأمام لا الى الخلف . النظر الى الأمام له معنى واحد : التفاؤل وكشف وتبني كل ما هو جديد , فالحياة مع الجديد ومع التطور بالجديد . لم يشارك الكاتب في انتفاضة الأهوار جنوب العراق لكنه وظف فشلها بعدا رابعا وخلفية سوداء قاتمة ترتكز عليها أعصابه المتعبة ومزاجه السوداوي المريض أصلا بتأثير بيئته الأولى وطفولته المعذبة والبائسة . وبمناسة أحداث الهور يحق لنا أن نسأل : كيف نجا ” الباهلي ” من المجزرة التي أطاحت برؤوس كافة رفاقه الا هو ؟ وهل ألقى الأعداءُ عليه القبضَ بعد أن أصيب بإطلاقين ناريين ؟ ثمَّ، اذا كان الأمر كذلك فما هو الثمن الذي دفعه ” الباهلي ” لقاء اطلاق سراحه من السجن أو اعفائه من عقوبة الموت ؟ هل ضعف فخان وأندحر معترفا وفاشيا للمزيد من المعلومات التي يبتغيها العدو المقاتل ؟ لم يتطرق الكاتب الى هذه الأمور. واذا ما تجاوزنا هذه المسألة الشائكة والغامضة فاننا بصدد أن نرى ” مهيار الباهلي ” رجلا ايجابي المواقف والتصرف منسجما مع ذاته وأفكاره , مثاليا بقدر ما تسمح به ظروف مدينة ( بونة ) الجزائرية الصغيرة والمحافظة. لم يتخذ عشيقة كحال صديقه ورفيقه ” مهدي ” ولم يمارس مثله غراما محفوفا بالمخاطر وشذوذ التصابي . بلى، لقد مارس الجنس مع صاحبة الفندق ( البانسيون ) بطلب منها ومراوداتها اللجوجة عن نفسها , وكانت امرأة حُرّة ومنفتحة على الآخر وأبوابها مشرعة للشرق والغرب حسب ما ورد في نصوص الرواية . متى مارس ” الباهلي ” جسد ( فلة بوعناب ) صاحبة البانسيون ؟ مارس معها الجنس قبيل انتهاء الرواية , أي قبل أن يُطردَ الإثنان من الجزائر بوقت قصير . مارسها بعد أن سقط صريع هوس وهيستيريا ولوثة عقلية أو شيء قريب من هذا ( الصفحة 307 من الرواية) وفي ظرف مَرَضيٍّ منحرف لا يطاق . حُمّى وقشعريرة وهذيان ( الصفحة 324 ) . وكان قبل ذلك وفيا لزوجته البعيدة عنه .
” مهيار الباهلي ” بطل ايجابي , مرة أخرى , لأنه تصدى لرجال مخابرات
بسمات مزورة محسوبين على هيئات التدريس في المدرسة . كما دافع مرة
أثناء شجار عن ” مهدي جواد ” فتلقى ضربة من زجاجة شجت رأسه ورضت أصابعه ( الصفحة 318 ) . فما الذي فعله ( البطل ) ” مهدي
جواد ” ؟ هل تصدى للكلاب المسعورة التي افتعلت وبدأت المشاجرة وأعتدت على صديقه ” مهيار الباهلي ” ؟ هل ثأر لجرح صديقه الصدوق ورفيق عقيدته ؟ كلا . لم يفعل ! كان مصيرهما في نهاية الأمر واحدا : الطرد من الجزائر وإنْ تباينت أسباب الطرد . طرد ” مهدي جواد ” من الجزائر بسبب علاقته مع ” آسيا ” , فتاة لم تدخل الجامعة بعد . وطرد ” مهيار الباهلي ” بسبب مجاهرته بالماركسية ودفاعه عن الإشتراكية عَلناً وعلى رؤوس الأشهاد في حصة الدرس وأثناء الدوام الرسمي ( الصفحات 301 – 302 ) . وكان ذلك سلوكا طائشا وتصرفا ساذجا ما كان من الضروري أن يأتيه وبهذا الشكل سيّما أنه يعلم حق العلم أن السياسة محرمة أثناء الحصص المدرسية .
– 2 –
هل يحق للكاتب اليوم أن يتصرف بالمصادر والأفعال كما كان يفعل الشاعر العملاق أبو الطيب المتنبي (3) حيث ناصبه النقاد العداء على قوله :

أحادٌ أمْ سُداسٌ في أُحادِ لييلتنا المنوطةُ بالتنادي

من أين أتى بالسُداس والعرب ما عرفت غير الثلاث والرباع . وكيف جوّزَ
تصغير ( ليلة ) فجعلها ( لييلة ) …

وعلى قوله :
واحرَّ قلباهُ مِمّنْ قلبُهُ شَبِمُ

وكان المفروض أن يقول (( واحر قلبي )) , ثم هو الذي جمع ( البوق ) على ( بوقات ) بدل أبواق فأقام الدنيا وأقعدها . ليس من حق الكاتب المعاصر ان يتصرف باللغة على هواه دونما مسوغ أو حجة أو سابقة تسنده . فما بال السيد ” حيدر حيدر ” يتلاعب بالألفاظ المعروفة فيزاوجها ويشتق منها ما لا يستوجب الإشتقاق ؟ أستطيع أن أقدم نماذج من هذا التجاوز اللغوي غير المقبول وغير المبرر : –
1- (( على حافة المنحدر الغضاري ))( صفحة 9 ) . فما هو هذا المنحدر الغضاري ؟ .
2- (( الليلة التي أمحق قمرها )) ( صفحة 16 ) . العرب تقول : دخل
القمر المحاق أو دخل في المحاق .
3- (( تشيل عيناه نحو الأعلى )) ( صفحة20 ) . الفعل شال يشيل فعل
متعد . نقول : شال الحصان ذيله …
4- (( المستحاثات التي تحجرت )) ( صفحة 20 ) . وما هي هذه المستحاثات ؟ لا أحد يدري .
5- (( ممدودة على الرمل كغزالة مراشة بسهم )) ( صفحة 42 ) . ماذا
يقصد بأنها مراشة بسهم ؟ السهم هو المراش وليست المرأة أو الغزالة .
6- (( شربت فلة بوعناب حتى انخمرت )) ( صفحة 48 ) . شارب الخمرة هو المخمور وليس المنخمر . الا اذا كان الفعل جزائريا محليا .
7- (( وتحت هذا الإحتلاك )) ( صفحة 50 ) . العرب تقول حلكة ولا تقول احتلاك .
8- (( وهذا الصوت الجريح المرغرغ )) ( صفحة 50 ) . هل نحت الكاتب لفظة المرغرغ من كلمة غرغرة ؟ الغرغرة يستخدمها الأطباء لتنظيف الفم المريض والأسنان بسوائل طبية . اما أن يكون الصوت جريحا ومرغرغا فتلك مصيبة . أي والله مصيبة !
9- (( بين آسيا لخضر ومدينة بونة وشج قديم )) ( صفحة 58 ) . الوشائج
مفردها وشيجة وليس وشج !!
10- (( تحت سيالة ضحكتها )) ( صفحة 74 ) . الصحيح سيولة وليس سيالة .
11- (( موج الأشعاع الداخلي طغا على وجهها )) ( صفحة 79 ) . الصحيح طغى بالألف المقصورة . قد يكون هذا خطأ مطبعيا . نتمنى ذلك .
الرواية تعج بمثل هذه التخريجات اللغوية الخاطئة أو الغريبة على اللسان العربي . لكني أود أن اختتم هذا الجزء بمثال الغلط فيه لا لبس فيه :
12- قال حيدر حيدر على الصفحة 244 من روايته ما يلي :
(( عاكسا على روحها والأطفال حميا دماره الإقتصادي الوشيك )) .
في حين يعلم الجميع أن الحميا انما هي الخمرة . وواضح أن الكاتب كان
قاصدا الحمى لا الحميا .
اللغة قوانين تلزم الجميع ولا تدع مجالا للتصرف الكيفي أو الشخصي أو المزاجي . وإلا سنجد أنفسنا يوما في فوضى شاملة وخراب مروع . اللغة
ضابط النفس والعقل وقالب اللسان ( نافذة الدماغ على العالم الخارجي ) .
وتعدد اللهجات وسيادة اللغة السوقية الدارجة كارثة حقيقية على كل العرب
من المحيط حتى الخليج .

– 3 –

ما هي أبرز خصوصيات الكاتب والكتاب ؟

أولا : خصوبة خيال القاص وقدرته الفائقة على وصف الأشياء والطبيعة ولا سيما البحر . ولقد سبقني الى هذه النقطة شاعر وأديب فلسطيني (4)
فأشار الى قدرة القاص على الوصف . فمن أين يغرف حيدر حيدر ومن أي نبع خيالي ينهل ؟ قدرته على وصف الجزئيات يكاد يضاهي فيها نجيب محفوظ . أما إذا انصرف الى عالم النبات والحيوان فأستطيع أن أجازف
بالقول أن لا مِن أحدٍ يُضاهيه بين مَن أعرف من الكتاب الجدد .
أما براعته في تصوير الأحلام وترجمة الأساطير فلا أحد يجاريه فيها .
أنظر الصفحات ( 110 , 111 , 140 , 141 ) وظهور اللوثايان
( الصفحات 227 , 228 , 229 , 230 ) . إنه عالم قائم بذاته من الألوان والأصوات والنأمات والشواهد . عالم لا حد له من الفضة والعنبر والمسك والأرجوان . قرأ ” كامو ” و ” بودلير ” كما أنه على علم تام بالتأريخ العربي القديم والمعاصر . وكان بارعا حين استشهد ببعض الأساطير السومرية وهو يتكلم عن الأهوار … وطن السومريين في جنوب العراق . وكنت أتمنى أن يلون ملحمة ” جلجامش ” السومرية بريشته وألوانه الخاصة كي يمنح الأهوار والأنتفاضة المسلحة فيها وصديقه القتيل خالد أحمد زكي … كي يمنحهم جميعا الخلود السرمدي الذي سعى جلجامش ” اليه (5) . لكنه قد أجاد باعادة صياغة قصة ” غوديا ” ( صفحة 205 ) ومدينة ( أور ) السومرية التي ما زالت قائمة في جنوب العراق محطة لقطار بغداد – البصرة.
ثانيا : وظف الكاتب في سياق روايته ألفاظا محلية عامية دارجة . بعضها
بذيء والأخر شديد البذاءة . وكانت – حسب ظني – ناجحة التوظيف بارعة الأداء يفهمها العراقي و يستوعبها الجزائري . أخصُّ بالذكر مداخلات ونقاشات ” لالة فضيلة – أم الصبية آسيا ” . ” لالة فضيلة ” إمرأة
أميّة , ونقل حديثها كما هو مسألة فنية مقبولة بل وضرورة تتسق وواقع
لوحة الحياة . كما أنه أجاد رسم شخصية المصري المتميزة ببعض الخصوصيات , والعراقي الموصلي ” ذو النون ” ذي الخلفية النمطية القديمة. وبلغ الذروة في تشريح مرتكزات شخصية ” فلة بوعناب ” ودوافعها وردود أفعالها . ما كان قلمه ليقصر أويكبو أو ينكفئ , الأمر الذي يفصح عن ثقافة عميقة ودراية بأحوال الناس وسايكولوجية مختلف البشر .
وكان المؤلف أمينا مع نفسه ولقرائه على حد سواء . أكيد أنه أفاد من اعترافات ” جان جاك روسو ” وربما الى أبعد الحدود . كما أرجّح إمكانية
اطلاع الكاتب على شيء من قصص القاص العراقي فؤاد التكرلي (6) الذي
استخدم قبله ألفاظا بذيئة في قصته الطويلة الأولى وسبابا مكشوفا . وقد فعل
الشاعر العراقي ” حسين مردان ” في ديوانه ( قصائد عارية ) ما هو أسوأ
من ذلك .
– 4 –
( ملاحظات ختامية )
أولا – كان الكاتب بارعا في التعرض لحياة كل من الثائر الجزائري ” عمر يحياوي ” الذي انتهى منسيا يحمل عاهة دائمة . والثائر العراقي ” عطشان
ضيلول ” ( وقد أسماه الكاتب خطأ عطشان ضيوي ) الذي انتهى غيلة أو
انتحارا في أحد فنادق مدينة ( بون ) الألمانية . مع ملاحظة هامة : ليس بالضرورة أن ينتهي الثوار قاطبة الى هذا المصير . اذا قتل ” جيفارا ” مثلا فقد بقي ” كاسترو ” حياً يرزق .
ثانيا – اذا كان ” مهيار الباهلي ” هوبطل القصة الأول وليس “مهدي جواد ”
فان ” فلة بوعناب ” هي الأخرى بطلة الأحداث الأولى وليست ” آسيا الأخضر ” . ” فلة بوعناب ” هي الثورة وهي الظل وهي الشاهد الصامت
والمتكلم معا .
ثالثا – تبدو ( وليمة لأعشاب البحر ) مجموعة قصص محبوكة جيدا ويربطها خيط عريض محكم الفتل . فلماذا أصر الكاتب أن يسميها رواية ؟ ثم لماذا أقحم مأساة انتفاضة الأهوار في جنوب العراق في نسيج روايته ولم يكن مساهما فيها ؟ وهل يستوي ذكر البطل الشهيد خالد أحمد زكي مع سرد وقائع حب عادي ( اذا كان حبا ! ) لفتاة جزائرية في سن المراهقة ؟ واذا ما كانت هنالك عِبرة في استشهاد خالد فما هي العبرة في ايقاع صبية مراهقة في حب يعرف ( البطل ! ) سلفا أنه حب فاشل ولا يؤدي الى أية نتيجة سواء له أو لها ؟ هل يصلح حادث ايقاع فتاة صغيرة في غرام مشبوب أن يكون موضوع رواية مطولة استغرقت كتابتها عشرة أعوام ؟ وهل تليق قصة حب من هذا النوع بالثوار ومدعي النضال وتغيير المجتمع بقوة السلاح ؟
رابعا – ذكر كاتب الرواية أسماء كثرة من الرجال في معرض التنديد أو التشهيرأو الفضح , لكنه تجاهل ذكر آخرين هم أسوأ كثيرا من اولئك , أو أنهم ليسوا بأفضل منهم على أية حال .
خامسا – وجميل من ” حيدر حيدر ” أن أطلق اسم ” آسيا ” على فتاته الإفريقية , كأن الكاتب يريد أن يوحي للقاريء أن الإفريقي هو آسيوي في نهاية المطاف . ثم , وهو المدمن كآبة والمريض هموما , بأمس الحاجة الى من يسليه ويؤاسيه . والأسية بالعربية هي الممرضة ومن بحكم المنصرف الى العناية بالمرضى .
أما مجانسة ” فلة بوعناب ” اسما وطبيعة ومسلكا فذلكم أمر مدهش حقا . لكن تعميم أنموذج هذه الإمرأة على كافة النساء الإفريقيات – كما تحاول هي – أمر غير سليم . انها تمثل انحرافا عن الطبع السوي . وهذا النوع من الإنحراف معروف في بعض أوساط النساء لكنه يكاد يكون نادرا . ولقد شخص لمرحوم ” نزار قباني ” (7) يوما حالة شبيهة بهذه حين قال :

الجنسُ كان مُخدِّراً جرّبتهُ لم يُنهِ أحزاني ولا أزماتي

سادسا – إختلطت أحداث القصة – الرواية بحيث لم نعد نستطيع تمييز أحداث الستينيات عن أحداث السبعينيات . فهو – حيدر حيدر – اذ يتكلم عن انتكاسة ثورة 14 تموز ( يوليه ) 1958 في العراق وعن قائدها عبد الكريم قاسم وانهيار خط ” خروشوف ” حول التطور السلمي للأشتراكية من خلال البرجوازيات الديموقراطية الحاكمة , ينتقل فجأة الى أحداث وقعت في السبعينيات كتوقيع ميثاق الجبهة الوطنية عام 1973 بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الذي كان على رأس السلطة في العراق يومذاك . لكنه عندما تطرق الى شجار وقع في أحد المقاهي لم يشأ أن يسمّي الأشياء بأسمائها . كان لديه ميل واضح لإجتناب ذكر اسم حزب معين . لم يذكر هذا الإسم قط , ولا حتى مرة واحدة !! تُرى ما السبب ؟
سابعا – كذا كان اطلاق اسم ” مهدي ” على بطل أحداث الرواية السلبي والمنكفيء على ناصيته أمرا ذا مغزى . فمهدي الآن لا شيء سوى شبح ضال . هزمت ثورته وعقيدته في بغداد . وأستشهد مثله الأعلى على ضفاف أهوار جنوب العراق . غريب ومنفي في بلد لا يريده بل ولا يطيق وجوده ووجود أشباهه . هو – مع ذلك – مهدي , ولكنه ضال !!
ثامنا – الرواية جديدة وممتعة وفيها دروب لم يطرقها أحد قبل ” حيدر حيدر ” . فيها نكهة غريبة على الأدب العربي وفيها تحضر و(عصرنة ) . فيها مكاشفة جريئة مع الذات وفيها محاولات ناجحة لسبر أغوار النفس البشرية المعقدة والغافية في سراديب وظلمات الدهور السحيقة السالفة . فيها محاولة عظيمة لرصد الظواهر وربطها ثم اخضاعها لقانون واحد مشترك . وتلك لَعَمري إحدى أبرز مزايا ” حيدر حيدر ” .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here