ماذا لو سمع المتوفي ما يقال خلف جنازته ؟

* د. رضا العطار

لو سمع هذا كله، ماذا كان يصنع ؟ – لو علم ان هؤلاء المشيعين لا يتكلمون عنه بل يستنزلون عليه اللعنة اذا طال المشي او طال الانتظار في المسجد للصلاة عليه، وان منهم من يسلي نفسه وجاره اثناء المراسيم بنوادر تدعو الى الضحك والسخرية، حتى ان منهم من يتكلم عن مغامراته ومضارباته وطموحاته، مع علمهم ان كل ما ينفق من وقت المشيعين في الخشوع لجلال الموت لا يتجاوز لحظات، وان الصمت الذي كان من المفروض ان يحيط بنعشه لم يدم اكثر من دقيقة، بعدها يبدأ الهمس يعلو والهمهمة ترتفع والثرثرة تدوي بين الصفوف في طنين كطنين الذباب، ذلك ان الناس غير قادرين على نسيان انفسهم والسمو عن هذه الارض والارتفاع عن شؤون حياتهم اكثر من 5 دقائق.

ومع ذلك، لماذا نريد من الناس الوقوف امام المتوفي موقفا افضل من هذا، ان الموت لا يعظم الاّ في نظر من يموت، في تلك اللحظة التي يشعر فيها المحتضر انه مفارق هذه الدنيا الى مكان مجهول فراقا لا رجعة بعده، انه يراها تبتعد عنه كما تبتعد المحطة عن انظار المسافر في القطار – – يرى دموع المودعين من الاهل والخلان تتساقط على باقات الزهور يقدمونها اليه، فيتخيل اليه ان ذهابه سيغير وجه الارض ولا يعلم ان هؤلاء المودعين سينصرفون من باب المحطة الى شؤونهم ضاحكين كأن لم يحدث شئ

ترى لو نظر الميت من تابوته واُعطي القدرة على الخروج منه، اما كان يصيح في الناس 🙁 اتسمون انفسكم مشيعين ؟ انصرفوا ايها المنافقون ! ) – – – ان المتوفي اذ يجتاز عتبة العالم الاخر داخل منطقة (الصفاء) ينظر الى الناس من وراءه كما ينظر الانسان الحي الى سرب من النمل يحمل جناح صرصر الى ثقب في اسفل الجدار، يستكثر (التحرك) من صندوقه لينظر الى المادحين والناعين بابتسامة سخرية تعلو شفتيه الجافتين.

اني على كل حال لو تمنيت شيئا اقوله في الناس بعد موتي قبل ان يقولوا هم عني شيئا بعد موتي – – – وقد فعل ذلك احد الامريكان غريبي الاطوار، اذ سجل خطبة له على اسطوانة واوصى المشيعين ان يطلقوها على قبره تنطق بصوته يقول ما شاء ان يقول، فماذا يمنعني من ان اصنع مثله – وان اقوم في الناس خطيبا بعد موتي اقول لهم :

( سيداتي وسادتي ! فلتجفف الاوانس اعينهن حتى لا تمسح الدموع طلاء وجوههن وصبغة شفاههن، وهذا هو المهم فاني ما زلت حريصا على ان تكون المرأة جميلة. والجمال هو العذر الوحيد الذي به نغتفر للمرأة حماقاتها. انتن ولا ريب تصغين اليّ والغيظ باد عليكن ولولا جلال الموت لألقيتن على قبري احذيتكن ذات الكعب العالي عقابا لي، تخفين مناديل العبرات العاطرة وتخرجن اصابع الاحمر الناضرة تنظرن في مرأة حقيبتكن وتهززن اكتافكن قائلة احداكن للاخرى – والنبي الدموع فيه خسارة ! –

( اما انتم ايها الرجال ! الناطقون بالضاد، اللابسين السواد عليّ، الباكون على قبري، سيلقي خطبائكم وشعرائكم تلك المراثي البليغة و القصائد العصماء لتأبيني. ولعل اكثره قد وضع قبل ان اموت ! لم كل هذا الحماس ؟ لماذا لاتتركوني وشأني وقد صرت ترابا.
ايظل يلاحقني الزملاء شيطان القلم وانا افر منه الى عالم آخر. انا الذي صنعه خالقه ووضعه في دنيا جميلة زاهرة، اه انكم لو انصفتم معشر المشيعين ووضعتم جثتي مع كتاباتي واشعلتم النار فيها، احس اليّ من ان تصرخوا ورائي عبارة ( في ذمة الخلود )

وبعد – لا احب ان استبقيكم امام قبري اكثر من ذلك فان من بينكم من قد ارتبط بمواعيد عاطفية او تجارية وهو يختلس النظر الى ساعته من آن لأخر، لكن رغم ذلك لي بينكم اصدقاء مخلصين لا يمكنني ان استخف بعواطفي نحوهم ولعل مشاعرهم الصادقة نحوي هي اثمن ما اتركته في الحياة الدنيا.
والان اسمحوا لي ان اسكت سكوتي الابدي وانا ارجو منكم ان تنصرفوا الى اعمالكم كأنه لم يحدث شئ، فلست في حاجة الى كلامكم واذا اردتم ان تذكروني في دنياكم، فاصغوا الى تلك الاغنية الموسيقية التي كنت احبها، تلك هي اللغة الوحيدة التي افهمها عنكم في كل وقت.

* مقتبس من كتاب عهد الشيطان لتوفيق الحكيم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here