الانتخابات العراقية: ملاحظات أولية

 يحيى الكبيسي

 18
الملاحظة الأهم التي كشفت عنها انتخابات مجلس النواب العراقي لعام 2018 هي النسبة المتدنية للمشاركة؛ حيث لم تزد نسبة المصوتين عن 44.5٪ من مجموع الناخبين في حين بلغت في الانتخابات الثلاثة الماضية 76.4٪، 62.4٪، 60٪ في انتخابات الاعوام 2005 و2010 و2014. ويعود سبب هذا الانخفاض، غير المسبوق في المشاركة، إلى عاملين أساسيين: الأول رفض الجمهور للطبقة السياسية القائمة وعدم الثقة بها، مع ما يعكسه ذلك من ازمة ثقة تتعلق بالنظام السياسي ككل. والثاني هو ان استخدام النظام البايومتري (بطاقة ناخب تحتوي على صورة وبصمة إبهام الناخب) لأول مرة في هذه الانتخابات، مع استثناءات قليلة، قد منع عمليات التزوير الواسعة التي كانت تحدث فيما سبق (أي منع عمليات التصويت بالنيابة/ التسويد).

وان كانت نتائج الانتخابات غير نهائية، لكن الارقام الاولية كشفت عن تقدم تحالف «سائرون» الذي يشكل أتباع السيد مقتدى الصدر عماده الأساسي بحصوله على ما بين 54 و55 مقعدا، في حين يتنافس تحالف النصر والفتح على المركز الثاني بعدد مقاعد ما بين 48 و45 مقعدا، لتأتي بعدهم 7 قوائم مختلفة حصلت على ما بين 25 و14 مقعدا (الحزب الديمقراطي الكوردستاني 25، دولة القانون 25، الوطنية 20، الحكمة 19، الاتحاد الوطني الكوردستاني19، القرار العراقي 15، القوائم المتحالفة مع حزب الحل 14)، ثم 16 تحالفا وحزبا توزعت المقاعد المتبقية (اعلاها التغيير وحزب الجماهير 5 مقاعد لكل منهما، وحراك الجيل الجديد 4 مقاعد لكل منهما، التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة وجبهة تركمان العراق 3 مقاعد لكل منهما، فيما حصلت 8 احزاب على مقعدين لكل منهم، وحصلت 3 أحزاب على مقعد وحيد لكل منها). وهذه الخريطة المعقدة للنتائج ستنعكس بالضرورة على مفاوضات اختيار الرئاسات الثلاث (رئيس مجلس النواب، ورئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء)، وعلى مفاوضات تشكيل الحكومة مع غياب كتل كبرى يتمحور حولها الآخرون كما كان عليه الامر في الانتخابات الثلاثة الماضية، وحضور كتل متوسطة يحتاج كل منها إلى ما يزيد عن 110 مقاعد إضافية على الأقل (كما في حالة سائرون) للوصول إلى الأغلبية المطلقة في مجلس النواب، مما يعني أن تشكيل هكذا ائتلاف واسع يتطلب التحالف مع 4 إلى 5 كتل على أقل تقدير للوصول إلى هذه الاغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب والتي يمكنها تسمية رئيس مجلس النواب (165 صوتا)، ثم انتخاب رئيس الجمهورية والذي سيكلف بدوره «مرشح الكتلة الأكثر عددا» في مجلس النواب بتشكيل مجلس الوزراء.

في الانتخابات الثلاثة الماضية كانت الكتل الهوياتية الصلدة (الشيعية والسنية والكوردية) التي تتشكل قبل الانتخابات (كما في انتخابات عام 2005)، او تتشكل بعد الانتخابات (كما في انتخابات 2010 و2014) تتقاسم فيما بينها الرئاسات الثلاث، ثم تشارك في تشكيل الحكومة وفقا لحجمها ونسبتها في مجلس النواب. أما في الانتخابات الحالية، ولأسباب تتعلق بطبيعة القوى الفائزة، وطبيعة الصراع الأمريكي الايراني في العراق، من الممكن هذه المرة ان يتشكل ائتلاف واسع عابر للهوياتية، ولو شكليا، قد يصل إلى تحقيق أغلبية مطلقة في مجلس النواب. وقد بدا من خلال التغريدة التي أطلقها السيد مقتدى الصدر، والردود عليها، أن ثمة رؤية مشتركة لتشكيل ائتلاف واسع يضم كلا من سائرون والنصر والحزب الديمقراطي الكوردستاني والوطنية والقرار العراقي وقوائم حزب الحل، كما يمكنه استقطاب العديد من القوائم الصغيرة. وهذا الائتلاف الواسع يمكنه نظريا الوصول إلى ما بين 175 إلى 190 مقعدا يستطيع من خلالها توزيع الرئاسات الثلاثة بين المؤتلفين أنفسهم، ويستطيع تشكيل الحكومة بالطريقة نفسها أيضا.

في المقابل ستسعى القوى الأخرى، الأقرب إلى إيران، إلى محاولة تشكيل ائتلاف مضاد يحاول هو الآخر أن يصل إلى الأغلبية المطلقة، يرتكز على قوائم الفتح ودولة القانون والاتحاد الوطني الكوردستاني (92 مقعدا على أقل تقدير)، كما يمكنه استقطاب بعض القوائم الفائزة الصغيرة، فضلا عن محاولة استغلال هشاشة بعض التحالفات (كما في حالة النصر) عبر استقطاب بعض الفائزين فيها، وأخيرا محاولة استمالة واحد او اثنين من القوائم السنية عبر منحها الحصة السنية بالكامل (إحدى الرئاسات مع الوزراء!).

لن تكون عملية تسمية الرئاسات الثلاث، او تشكيل الحكومة سباق مسافات قصيرة، بل سيكون ماراثونا طويلا يتجاوز بالتأكيد، كما في كل مرة، التوقيتات الدستورية. كما ان المواجهة الأمريكية الايرانية بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، والتي قلنا في مقال سابق أن العراق سيكون ساحتها الاولى، قد بدأت عمليا من خلال الخطوة التصعيدية التي اعتمدتها الولايات المتحدة لأول مرة في العراق، من خلال إدراج بنك البلاد الإسلامي للاستثمار والتمويل ورئيسه، على لائحة مكتب مراقبة الأصول الأمريكي، لاتهامه بالعلاقة مع الحرس الثوري الايراني وحزب الله، وتأتي الاستجابة السريعة للبنك المركزي العراقي الذي قام بإيقاف البنك المشار اليه من الدخول في مزاد بيع وشراء العملة الاجنبية، والتحفظ على كافة حسابات البنك وحسابات رئيس مجلس إدارته، والتي عللها البنك أنها تستند إلى الاتفاقيات الدولية من جهة، وأنها تستهدف الحفاظ على سلامة النظام المالي والمصرفي في العراق، تأتي هذه الاستجابة في السياق الذي ذكرناه. ورغم معرفة الأمريكيين أن بعض البنوك الخاصة العراقية كانت تتعامل مع إيران لمواجهة ازمة العملات الاجنبية طوال السنوات الماضية في سياق الحصار ضده قبل توقيع الاتفاق النووي، لكنهم سكتوا تماما عن ذلك، وبالتالي لا يمكن فهم هذه الخطوة الأمريكية إلا في إطار ما تحدثنا عنه في مقالة الأسبوع الماضي من أن الأمريكيين قد قرروا إنهاء اللعبة المزدوجة التي مارسوها في العراق طوال 15 عاما، وهذا سيفرض على الايرانيين تغيير قواعد اللعبة المضادة التي يجب عليهم استخدامها في هذا السياق، كما سيفرض على الحكومة العراقية القائمة والمستقبلية تحديد موقفها بشكل صريح من هذه المواجهة، مع محاولة التقليل من أضرارها المحتملة على الامن والاستقرار في العراق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here