ما الفرق بين حياة الانسان وخضرة الفجل ؟ (حلقة ثقافية)

* د. رضا العطار

اننا حين نتأمل حياة بعض الناس في ممارساتهم، نجد ان كثيرا منهم يحيى حياة البقول، حسبه من الدنيا ان ياكل ويشرب ويتناسل بعيدا عن الاهتمامات الروحية والثقافية،
فلا يخالط الناس ولا يختلط بأحد، قائما جامدا وكأنه فجل. (لانفع ولا دفع)
وهناك فريق اخر كرس حياته ليكون عبدا للمال: يجري وراء مطامعه بنشاط دؤوب لكنها لا تعدو مستوى الشهوات. اذا حدثته عن حديث السياسة او العلم او الادب او الفن وحتى في الدين، نفض يده منك ووصمك بانك طوبائي. فليس له في الدنيا سوى جمع المال وان قصارى ما يرجوه ان يكون ثريا مستمتعا بثرائه.
اما الفريق الثالث فيتالف من الاشخاص الذين يحملون في رؤوسهم هموم البشر واهتمامات الانسان الحديث وهؤلاء هم نخبة المجتمع.

تجد اناسا يقضون حياتهم خواء يكثرون الجلوس على خشبة المقهى في شبه غيبوبة يتثاوبون ويتمطون لا يعاشرون المجتمع ولا يشاركونه في نشاطاته الاجتماعية لانهم يفتقرون الخلفية الثقافية، فقد سئموا الدنيا يعللون تواجدهم في المقهى او في البيت بانه – قتل للوقت – وهذا الفريق هو الذي يحس بعد الستين ان وجوده يشكل له مشكلة اجتماعية، تتراى له الدنيا وكانها تافهة ماسخة. ولهذا يقضي سنواته الاخيرة في احدى حجر المنزل الذي لا يتركها الا يوم الوفاة.

اما الفريق الثاني فالاغلب ان طموحاته ستجعله يعيش بعد السبعين سنوات طويلة وهو على الاكثر من طبقة التجار والمقاولين واصحاب المال. وان هموم افراده هموم قروية. وان انكبابهم على الماديات حرمهم من العناية بالقراءة، فاذا ما شرعت الشيخوخة يشيع في اعضائهم الضعف وفي نفوسهم الخواء، عندئذ يتصرفون في البيت كما لو كانوا وبالا على كل من يسكنه. فان نفوسهم تضيق لصوت الاطفال تزعجهم حتى ضحكاتهم مثلما تثيرهم فكاهات البنات والاولاد. فهذا واحد من هؤلاء يمنع افراد اسرته من الخروج من البيت لانه انقلب بقدرة قادر الى داعية اخلاق. مع ان الحقيقة تؤكد انه فارق روح العصر الذي يعيش فيه وجمد. وسرعان ما يفقد ذاكرته لانه لم يتعود القراءة التي تربط كلمات المعاني بتفاريعها في عقله الراكد.

اما الفريق الثالث الذي يحمل افراده هموما واهتمامات بشرية فهو الفريق الذي يسعد بشيخوخته. ويجد افراده انهم في كل يوم في شأن. لا يسخطهم تغير الدنيا وتطورها بل هم يهتمون بالحركات الارتقائية وربما يلتحقون بها ويتحمسون لها فتجد احدهم يدعو الى اتجاه سياسي معين. او يتزعم مذهب اجتماعي. او ينخرط في مؤسسة دينية تدعو الى نشر البر والاحسان، او يجاهد ويضحي ببعض وقته وماله في سبيل تحقيق اهداف نبيلة وهذا الجهد يوقظ قلبه وعقله ويكسبه احساسا ساميا بانه يؤدي رسالة اصلاحية بارة.

المعروف عن المسنين عندنا في العراق انهم راكدون عموما, يكرهون التغير والتطور وانهم لهذا السبب ينفرون حتى من الازياء الجديدة لدى الشبان والفتيات. كما ينفرون من اي ابتداع في الممارسات الاجتماعية العامة. وهذا الجمود يفقدهم الاتصال الروحي بالجيل الجديد الذي بدوره يقوم يبتعد عنهم ويتفاداهم تدريجيا, ونتيجة لهذا التجنب والجفاء يشعر المسن بعزلة موحشة، تؤلم روحه.

وفي التحليل النفسي يعزى هذا الجمود الى القلق والخوف. فإن المسن الذي عاش عمره سائرا على قواعده التي تكاد تكون ثابتة والتي إطمأن وارتاح اليها, يكره تركها الى قواعد جديدة لا يدري عواقبها. فهو هنا كالطفل الذي يتجنب الغرباء او الخوف من الخروج الى الشارع. وهذا الخوف نستطيع ان نفهمه عندما نجد احد المسنين في وسط الشباب يلتزم الصمت خوفا من ان تنكشف مفارقته الكبيرة تجاه الافكار العصرية, فهو جازع من مواجهتهم.

كلنا عرضة لهذا الجمود اذا اهملنا تطور شخصيتنا وعزلنا انفسنا عن المجتمع وعن حركة نموه وارتقائه. والوان الرقي كثيرة. فإن رجل السبعين الذي تعلق بقراءة الجرائد كل صباح واطلع على السياسة الوطنية و العالمية, يكون قادرا على معرفة اتجاهها والوقوف على نبض حركتها وتطوراتها المستقبلية, واذا كان قد ثقف نفسه زمن الشباب فإنه سيجد افاقا جديدة تتفتح امامه بعد سن الخمسين والستين والسبعين . فقد يجد نفسه بفضل الثقافة الرائدة وكأنه شابا يانعا يكافح في سبيل الدفاع عن حق امّته في تقرير المصير, او يكون متحمسا لشؤون تتعلق بتحرير المرأة في نيل حقوقها المدنية، عندئذ يهمّ المسن بالتوسع والتعمق في لغز الحياة .

يوم واحد مُجدِ في حياة المسن خير من عام كامل في حياة الشاب الذي يقتل وقته في المقهى بلعب النرد او المسرّات التافهة. فعلى كل من جاوز الخمسين من العمر ان يلجأ الى اهتمامات ذهنية في سبيل ترقي ذهنه حتى اذا رأى فيها بعض المشقة وان يعمد الى التنقيح او التغيير بغية مواكبة نغمة ثقافة عصره, يشترك في نشاطاته المجدية التي تكسبه الشعور بالسعادة.

* مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين للعلامة سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here