قراءة في قصيدة (سبايكر) للشاعر و الناقد هاتف بشبوش من ديوان (الطريق إلى سانت كروز).

نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة، باحثة و ناقدة

قراءة في قصيدة (سبايكر) للشاعر و الناقد هاتف بشبوش من ديوان (الطريق إلى سانت كروز).

و أنا أتصفّح الديوان الخامس للشّاعر و الناقد السماوي هاتف بشبوش (الطريق إلى سانت كروز) و أقرؤه لأكثر من مرّة استوقفتني قصيدة (سبايكر)، القصيدة التي حملت في طيّاتها التأريخ، الألم،الدم، الغدر بأرواح شابة، شاهدة عيان لمجزرة حقيقية.
قصيدة حملت أحزانا لا منتهية.. قصيدة تُحسّسُنا بثكل أمّهات.. بآباء مفجوعين.. بعوائل مازالت تحت وقع الصدمة.. لأنّها لا تملك قبرا لمن فقدت سوى نهر دجلة..
القصيدة هي وصمة عار مُسجّلة ضدّ مرتكبي الجريمة الشنعاء بحقّ أبرياء.

يقول الشاعر في القصيدة:

من سينال من الآخر
تحت هذا السّيف المنبعث من الظّلام
و من سيصفّي حساب الموتى و دموع ذويهم
فكلّ مسبحةٍ لها لونها البرّاق
و كلّ دين له مشاغبيه و وجه المكفهر
و عاهراته اللاّتي يُراودن الصبية
فوق ملاءات الجهاد، و أمام تثاءب وحي الفضيلة
زناةُ الدهر، أم زناة الطائفية، أو العشيرة و لا فرق
فكلّ الأراذل
كانوا يمارسون الطّقوس المعتادة
*****
يُصلون على النبيّ
يفعلون بما قاله اللوح المقدّس
اللّوح الذي تشارك و السّيف
كيْ يكونا على الرقاب موتا شرعيا
و إرهابا يُناصب العداء للمشاكسين
و لكلّ من يكون على شاكلة أبي مرّة
*****
ألفٌ و سبعمائة من الفتية اللاهثين
وراء كعبة الخبز
مضوا قتلا، بالتّكبير، و التّوحيد، و راية سوداء
ألفٌ و سبعمائة
مضوا ظلما في قبورهم النّهريّة
و على طريقة سانت برتملي
و مباركة، من كان مخمولا بكفّ المجرم المقبور
*****
أيّ أخلاق ازدهرتْ، على جبين أسلافنا
و أين الكذّاب فينا؟ أمسيلمة
أم ما توارثناه من قاتليه
و هو يلثم نهدين كعوبين
كانا يجودان، بعسل الحياة و أمانيها
و أيّة دروسٍ، كانت تُحاك لنا، وراء ستار الكنعبوت
فيا أيتها النّفس اللاّمطمئنة، في هذه البقعة بالذّات
لا تعودي إلى ما قاله اللّوح الورقيّ
بل كوني كأسا منتظرا
لما يسيح من فوهات قناني الخمر
و يا أيّتها الألف و السبعمائة
كوني مفاتن قبورنا الماضية، و الآتية بعد حين
كوني زاوية، ينتهي فيها هذا الدّرس الشّنيع
زاوية حزينة
في هذا العالم الغبيّ

سبايكر هي الجريمة الشّنعاء التي ذهب ضحيّتها 1700 جندي شابّ من أبناء العراق بسبب حرب عفنة اسمها الطائفية.
طائفية منقسمة لسنّة و شيعة..هذين الاسمين تسبّبا في تشتيت شعب و عوائل و أحبّة و أخوة.
طائفية ملعونة و لعينة تسبّبت في نحر الكثيرين على يد من كانوا أحبّ النّاس إليهم، هي الطائفية التي جعلت الأب يكره ابنه،و الإبن يكره أباه و كلاهما يرى الثّاني مجرم و كافر يستحقّ القتل و دمهُ مُباح.
المشكلة الكبرى أنّ كلاهما يدين بنفس الدّين و المعتقد، نفس المعبود و نبيّهم واحد و كلاهما يُنادي (الله أكبر) لقتل الثاني… و ما أكثر الجرائم التي ارتُكبت باسم الله.
تذكّرت و أنا أقرأ القصيدة ما حدث في أحد المحاكم الأمريكية قبل أعوام، تناولتها وسائل الإعلام، حيث تشاجر عربيين مسلمين و كادا يتقاتلان و هما في الشارع على مرأى النّاس.
فأخذتهما الشرطة و حُبسا، و لمّا مُثّلا أمام القاضي، سألهما عن السّبب الذي أدّى بهما لهذه المعركة الطاحنة، فقال أحدهما:
– لقد قام بشتم علي بن أبي طالب.
و قال الثاني:
– لقد شتم معاوية بن أبي سفيان.

فقال القاضي:
– استدعوا علي و معاوية.
فأجابا معا بأنّ علي و معاوية متوفّيان منذ قرون.. هنا احتار القاضي و أمر بإيداعهما في مستشفى للأمراض العقلية للأبد.

أعود لقصيدة الشاعر هاتف بشبوش و هو يطرح سؤال كما طرحه القاضي:

من سينال من الآخر 
تحت هذا السيف المنبعث من الظّلام
و من سيصفّي حساب الموتى و دموع ذويهم
فكلّ مسبحة لها لونها البرّاق

يقول فولتير بهذا الصدد:

الخلاف الطويل، يعني أنّ كلا الطّرفين على خطأ.
ثمّ هذا السّيف القادم من الظّلام الحالك، مُنبعث من عقول سوداء متحجّرة لا تفقه ماذا تفعل، سوى القتل ثمّ القتل، ثمّ القتل.. لكن قتل من؟
أبرياء لا حول لهم و لا قوّة، عُزّل بدون سلاح يُدافعون به عن أنفسهم من خناجر و سيوف تحزّ رقابهم الشّابة و هم في ربيع العمر.. كلّ واحد من السنّة أو الشيعة يُنادي باسم جماعته و صلاحها، و في الأخير و لا واحد منهما على صواب.
صدق جبران خليل جبران حين قال:
ويلٌ لأمّة، كلّ قبيلة فيها أمّة.

لنتمعّن في قول الشاعر هاتف بشبوش:

و كلّ دين له مشاغبيه و وجهه المكفهر
و عاهراته اللاتي يراودن الصّبية
فوق ملاءات الجهاد، و أمام تثاءب وحي الفضيلة
زُناة الدهر، أم زناة الظائفية، أو العشيرة لا فرق
فكلّ الأرذال كانوا يمارسون الطّقوس المعتادة

و كأنّه يقول:

و كلّ طائفة لها مشاغبيها و وجهها المكفهر الجهنميّ و الوحشي، فكلاهما يُنادي بالصّلاح على طريقته،كلّ ينادي بالإسلام و لكلّ طرف فتاوى خاصّة تُحلّل و تُحرّم حسب ما يرضيه.
ثمّ أخذنا إلى جهاد النكاح الذي بات معروفا و منتشرا بطرق عجيبة بعد ظهور خفافيش الظّلام.
و الطّامة الكبرى أنّهم خصّصوا له فتوى خاصّة، حيث جعلوا له أجرا عظيما يُرضي الربّ، و له درجة حسنات عظيمة و جنّة عدن في الحياة الأخرى. و هؤلاء و من يتبعهم سيظلّون يعيشون بلا مبادئ و لا ضمائر و لا عقول حتّى، كما قال أحدهم:

من عاش بلا مبدأ.. مات بلا شرف.

يقول الشاعر هاتف بشبوش:

ألفٌ و سبعمائة من الفتية اللاهثين
وراء كعبة الخبز
مضوا قتلا، بالتّكبير، و التّوحيد، و راية سوداء
ألفٌ و سبعمائة
مضوا ظلما في قبورهم النّهرية
الشاعر هنا يُخبرنا أنّ هؤلاء الفتية الألف و السبعمائة كانوا فقراء يبحثون عن قوت بسيط لإعالة عائلاتهم المسكينة يبحثون عن لقمة عيش تسدّ رمقهم عن لقمة تسدّ جوعهم فقط لكنّهم و في الأخير ذهبوا ضحية الهمجية تظلّلهم الرايات السود لعمائم و لحى لا علاقة لها بالإسلام لا من القريب و لا من البعيد.. رايات سوداء كما رفعها يوما أبو جعفر المنصور و هو يؤسّس الدولة العباسية بقيادة أبي مسلم الخرساني الذي ارتكب أبشع الجرائم و ذهب تحت سيفه المسلول الآلاف من الأبرياء.. و كأنّ عجلة الزّمن تعود بنا للوراء للبعيد و القديم جدّا.. عجلة تأريخ مُكرّرة بطرق مبتكرة في عصر جديد بعقول سوداء..
و هنا تكمن المشكلة في أنّ التاريخ لا يُكرّر نفسه، وحده الإنسان من يُكرّر غباءه.
ألف و سبعمائة شاب ذُبحوا باسم الله و الله أكبر.
ألف و سبعمائة شاب رُميت جثثهم في نهر دجلة لتكون مقبرتهم الجماعية.. و ما أكثر المقابر الجماعية في العراق.
ألف و سبعمائة شاب من عوائل عراقية كثيرة مازالت تلطم فقدان فلذات أكبادها.

و في آخر القصيدة يقول الشاعر:

و يا أيّتها الألف و السبعمائة
كوني مفاتن قبورنا الماضية، و الآتية بعد حين
كوني زاوية، ينتهي فيها هذا الدّرس الشّنيع
زاوية حزينة
في هذا العالم الغبيّ

يتحدّث الشاعر هنا بحزن و ألم وذكرى تُمزّق نياط القلوب الدامية كربا و هو يقول مناديا تلك الجثث التي غيّبها نهر دجلة في قاعه: 

يا أيّتها الألف و السبعمائة

شباب كانوا يحلمون بمستقبل زاهر كانت لهم أحلامهم المراهقة كانوا طلاّبا لكن انتهت حياتهم بأسلوب بشع تقشعرّ لها الأبدان.
ينادي الشاعر الجثث و هو يكلّمها لتكون عبرة للأجيال القادمة، يُكلّمها بحزن و قد أعطت درسا في الطائفية اللعينة و الملعونة بيد الدواعش الظلاميّون، فيقول:

كوني زاوية، ينتهي فيها هذا الدّرس الشّنيع
زاوية حزينة
في هذا العالم الغبيّ

يتحدّث الشاعر مع الجثث المدفونة في قاع نهر دجلة بقلب حزين ومتألّم لهذه الذكرى و الفاجعة النكراء و هو يتمنّى أن تكون هذه نهاية الحزن ولتكون نهاية مثل هذه المجازر الشنعاء لتبقى الذكرى في صفحات التأريخ العراقي الدامي.
هي أرض العراق التي شربت الكثير من دماء أبنائها و ما ارتوت بسبب المتعطّشين للدماء الطاهرة، بسبب مصّاصي الدماء البشريّين، بسبب الوحوش الآدمية هذا ما قدّمه لنا الشاعر هاتف بشبوش في هذه القصيدة التي جمعت في طيّاتها كلّ الحزن و الدموع و الفقدان و التأريخ و الدم الذي صيّر نهر دجلة أحمرا سنة 2014 في مجزرة سبايكر.. ومن ينسى هذا الاسم سبايكر..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here