مو صلاح والإسلاموفوبيا

رشا عمران

صدف أنني في اثناء المباراة النهائية لكأس الأندية الأوروبية، بين فريقي ليفربول وريال مدريد، كنت في شرم الشيخ بصحبة أصدقاء مصريين. شاهدناها في مقهىً كان فيه بعض السياح غالبيتهم بريطانيون، مع مقيمين أجانب في المدينة من جنسيات أخرى. ليس مفاجئا طبعا تفاعل المصريين والبريطانيين مع المباراة، وتشجيعهم “ليفربول”، فهو بالنسبة للبريطانيين من أعرق فرق بلادهم، ولطالما كان الفريق الأكثر شعبية بين الفرق الإنكليزية، وتشبه علاقتهم به علاقة المصريين بفريق الأهلي. وبالنسبة للمصريين، فإن وجود اللاعب المصري الجميل، محمد صلاح، يكفي ليصبح “ليفربول” فريقا شعبيا “مصريا”، يشجعه الجميع. وبالنسبة لي أيضا كان الأمر مشابها، مع أن علاقتي بكرة القدم تقتصر على “المونديال” وعشقي الأبدي للكرة البرازيلية، ونادرا ما تابعت مباريات أخرى. فجأة وجدتني أتابع المباراة، وأنفعل مع كل تقدم لفريق ليفربول. كان الجميع في المقهى بالحماسة الليفربولية نفسها، ليس فقط المصريون والبريطانيون، بل الجميع، كما لو أنها عدوى تصيب كل من تصادفه في طريقها.
تحول الحماسة المشتركة لتقدم “ليفربول” في نصف الساعة الأولى من المباراة إلى حزن وغضب مشترك، حين خرج محمد صلاح بعد إصابته بكتفه، إثر شدة قوية من راموس، لاعب “ريال مدريد” العنيف. فجأة بدأت الشتائم تنهال على راموس، وعلى حكم المباراة الذي لم ينتبه إلى تقصّد راموس ممارسة العنف تجاه مو صلاح، كما يسميه الإنكليز. كان الغضب يعبر عن نفسه بلغاتٍ متعدّدةٍ في المقهى، كان أيضا يشبه عدوى تسري وتصيب كل من تصادفه في طريقها، ثم تحول الغضب إلى حزنٍ، إثر فوز “ريال..” باللقب، بعد مباراة تحولت باهتةً، ما أن خرج محمد صلاح منها باكرا. وعلى الرغم من أن الجميع يعرفون أن “ريال مدريد” أحد أعرق الأندية الأوروبية وأعظمها، وفوزه باللقب لن يكون مفاجئا أو استثنائيا أو غريبا، فهو صاحب تاريخ بحيازة اللقب، وهو أيضا أكثر الأندية العالمية شعبية في العالم كله، إلا أن ثمّة سحرا خاصا للاعب محمد صلاح، جعل الجميع ليفربوليين تلك الليلة.
شكل صعود صلاح الصاروخي إلى الواجهة العالمية، بالنسبة للعرب عموما، وللمصريين خصوصا، تعويضا مهما عن تاريخ من الهزائم والخسارات. شكل أيضا تعويضا عن اليأس الذي منيت به الروح العربية، بعد إفشال ممنهج للثورات التي بدأت عام 2011، حيث أصبح حلم التغيير مستحيلا، وحيث استطاع الطغاة، والاستبداد بأنواعه كلها، استبدال طاقة التغيير الإيجابية بطاقة العبث واللاجدوى والعدم، خصوصا لدى جيل الشباب الذي أغلقت بوجهه كل نوافذ الأمل. جاء محمد صلاح الشاب المصري الأسمر الذي رفضته سابقا النوادي المصرية العريقة ليصبح نجما عالميا، ويحقق في زمن قصير حلما يراود شبابا كثيرين، من دون أن تحمله أية رافعة، لا سياسية ولا ثقافية ولا اقتصادية. بل العكس، هو نموذج للمرفوض من المؤسسات السلطوية في بلادنا العربية، المعتادة على تكسير كل مبدع حقيقي وتهميشه، ليأتي الغرب ويرفعه، مقدّما له كل أسباب النجاح والتطوّر. سيقول قائل ربما إن الغرب يستفيد من هذه الطاقات العربية لمصلحته، وليس لسواد عين هذه الطاقات.. نعم، ولكن لماذا لا تستفيد بلادهم منهم؟ لماذا تدمرهم وتهمشهم وترفضهم؟ محمد صلاح مثال حي وصارخ لما يحدث لمواهب الشباب في بلادنا الحزينة والمقهورة.
في الوقت نفسه، يشكل محمد صلاح نموذجا جميلا للشفاء من حالة الإسلاموفوبيا والعربفوبيا التي أصيب بها الغرب خصوصا، والعالم عموما، فهو شاب عربي مسلم، يسجد في الملعب أمام أعين الملايين، كلما يدخل هدفا، ويحضن زوجته المحجبة وطفلته التي تحمل اسما إسلاميا لا مواربة فيه، من دون أن يشعره ذلك بالحرج، ومن دون أن يحاول إظهار قناعاتٍ معاكسة لقناعاته. هو الشاب العربي المسلم القادم من “حتة” شعبية مصرية، إسلامها شعبي وبسيط وطبيعي، ليصبح نجما في لعبة رياضية هي الأكثر شعبيةً في العالم كله. فعل محمد صلاح، في زمن قياسي، ما عجزت عنه الميديا والثقافة والفكر العربي خلال العقود الأخيرة من التاريخ. سيبدو مدهشا أن يردّد الأطفال البريطانيون أغنية تقول كلماتها ما معناه: أن محمد صلاح أُرسل هدية من الله، في توريةٍ بالمعنى واللفظ تحيل إلى الإسلام. وسيبدو مدهشا أيضا أن لا يعترض البريطانيون على تقليد أطفالهم سجود مو صلاح في الملعب، إذ لا خوف من الإسلام الشبيه بإسلام هذا اللاعب الشاب، غامق اللون وذي الشعر الأسود الكثيف.

;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;
شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here