ثقافة فن الحياة – مشكلة النسيان، كيف يعالجها المسن ؟

(*) د. رضا العطار

يحناج القارئ الكريم هنا ان يثبت قيمة القراءة في حالة النسيان والذاكرة عند المسن.
فان المعاني ليست في الواقع اكثر من الكلمات. فاذا تذكرنا الكلمات تذكرنا المعاني، فاذا اعتدنا قراءة الجريدة اليومية والمجلة والكتاب وصارت القراءة عندنا عادة يومية فان الكلمات تبقى ماثلة في اذهاننا سهلة الاستذكار لاننا نألفها بالتكرار. وعندئذ نستطيع التحدث في الشؤون السياسية والاجتماعية في راحة ويسر بل اننا ايضا نستطيع التفكير الحسن. لان معظم التفكير يجري بالكلمات. وعلى ذلك نستطيع ان نقول ان اعظم ما يصون ذاكرة الانسان ويبقيها سليمة في الشيخوخة هو القراءة بل قراءة الصحيفة اليومية التي تحدثنا عن حوادث اليوم الداخلية والخارجية، المألوفة منها والغريبة.

والمسن الذي داب على القراءة والدرس تبقى ذاكرته حية رغم ضعف الجسم الذي ادى اليه بسبب اهماله للرياضة. حتى لو تجاوز الثمانين من عمره. صحيح انه قد ينسى اين وضع المنديل او الفرشاة او قد يجد صعوبة في استذكار الاسم لاحد المعارف ولكنه اذا تحدث تقاطرت عليه معاني المفردات على ذهنه لان عدته من الكلمات وفيرة ومهيأة. ونحن كما قلنا نفكر بالكلمات.
وفي هذا السياق يستذكر كاتب السطور يوم زاره الجواهري الكبير في مستشفى امراض العيون لجامعة برلين في المانيا عام 1963 برفقة صديقه الدكتور صباح الدرة، قادما من براغ بغية اجراء الفحص الطبي اللازم. فيقول : وبعد عبارات المجاملة والترحيب سألت ضيفي عن عمره قال: اربع وستون، دهشت وقد خلته في اوائل الخمسين، فقلت له مازحا، استاذنا انا ما اقدر اصدق، مدّ يده الى جيبه واخرج جواز سفره، ثم أشار الى تاريخ ولادته كما قال.
هكذا يصبح ذهن الانسان بالقراءة و الكتابة المستديمة فاعلا متفتحا نضرا الى حد مكّن الشاعر الفذ من ان يلقي قصائده عن ظهر قلب وهو في العقد التاسع من عمره.

وعلى هذا يجب ان نتهيأ جميعا للشيخوخة النضرة لا المتهدمة. بتعود القراءة للجريدة اليومية التي تقينا في الاعوام القادمة من شر النسيان. فنصون بذلك ذكائنا ونديم نشاطنا الذهني نبقي شخصيتنا محافظة على استوائها تشعرنا بالاحساس بالكرامة بعيدة عن الانهيار. فان المثقف الذي دأب على القراءة وجعل اقتناء الكتب هواية، بامكانه ان يحتفظ بشباب الذهن حتى لو ناهز المئة عام.

وقد يجد المسن اهتمامات متجددة تجعل الحياة له لذيذة تتناغم مع سعة الافاق التي يصل اليها ذهنه. فالثقافة هي خير هواية في الشيخوخة وكلنا يعرف ذلك المسن الأمّي الذي لزم حجرة بيته لا يحس ان له حاضرا او مستقبلا يجتر ذكرياته البعيدة يتحدث عنها باسهاب ويكبر من شانها ويزعج الاخرين. ولو كان قد تعود القراءة لما فعل هذا.

وفي بلادنا العربية عموما نفتقر الى المحفزات الفكرية ولذلك فان احاديثنا لا ترتفع فوق القيل والقال وهما ثمرة هذه الغوغاء من الجرائد والمجلات التي تغزو عقولنا بالتافه الماسخ من الحديث والاخبار. ولذلك يستحسن للمسن، ان اراد ان يحافظ على سلامة عقله ان يلجأ الى دراسة لغة اجنبية. واذا لم يستطع ذلك فعليه ان يعني باختيار الصحيفة اليومية الراشدة كي تنبه وجدانه وتوقظ قلبه باهتمامات سامية. تلك التي تعني بشؤون العالم وليس بصخب المهاترات المحلية وربما احتاج المسن الى قراءة اكثر من جريدة للغايات الثلاثة التالية
1 – منع النسيان باستبقاء الذاكرة حية بالكلمات.
2 – صون الكرامة بالشعور الدائم بسلامة الذهن واثر ذلك في صحة النفس.
3 – التوسع في الاهتمامات التي تشغل وقت الفراغ لدى المسن وتجعله يستمتع بالحياة بدلا من ان يعاني، ويحس ان له حاضرا محترما ومهما ومستقبلا اهم. فلا ينكفي الى الماضي يعيش فيه يجتر ذكرياته، وخير الاهمامات الشخصية هي اعمال البر والاحسان كما جاء في سورة البقرة ( والذين امنوا وعملوا الصالحات اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون ).

ليس شئ يبعث على الاشمئزاز اكثر من منظر المسن المدمن على المخدرات. يقضي ساعات ليله كلها محتسيا. يجمع بين هذيان الشيخوخة و الشراب. وذلك لاننا بحكم تقاليدنا العراقية ننتظر من الشيوخ الحكمة والقول المتزن، فنصد مستائين من نقيضها في السكير. ولكننا نعيش في مجتمع يجيز الدخان والخمور. وكثير منا يألفونها في العقد الثالث من العمر وبعضنا يكثر او يقلل منهما او من احدهما وقليل منا من يزهد فيهما معا ونادر جدا من ينبذهما كلاهما، وكاتب السطور احد هؤلاء.

ولكل منهما تأثير نفسي وتأثير جسمي سيّء, ومن الشاق ان ننظر الى هاتين العادتين نظرا موضوعيا لاننا حين نكره التدخين مثلا لا نكاد نتخيل اية فائدة له بل العكس ليس الاّ، وكذلك الحال حين نكره الخمرة. فالحماسة والتعصب يمنعان البحث العلمي لمسألتي الخمر والدخان . والقارئ الكريم يعلم اننا نلتفت الى الناحية النفسية في الشيخوخة اكثر مما نلتفت الى النواحي الاخرى، ولذلك نكون مضطرين الى القول بان الذي اعتاد الشراب والتدخين مدة شبابه الى الخمسين مثلا يجب عليه الا يمتنع عنهما بعد ذلك، انما ان يقلل منهما قدر الامكان، بل هذا هو ما يجب فعله. اما الامتناع التام فسيكون في طبيعة الحال امرا مستحسنا. اما عن الدخان فان احصائيات شركات التأمين في امريكا قد اثبتت انه مضرّ بالصحة الى درجة قد يسبب سرطان الرئة، حتى لو استهلك بأعتدال.

* مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين للعلامة سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here