(*) د. رضا العطار
كان برد، والد بشار طيانا، وهو من سبايا حرب طخارستان ايام الحجاج. فوهبه لامرأة من بني عقيل – – ولما شبّ برد، زوجته من جارية بيزنطية، فولدت له بشارا – الذي اظهر ميلا نحو الادب منذ صباه، ونظم الشعر وهو في العاشرة – – كان له ثقب في اذنيه كانت امه تعلق به قرطين في طفولته.
وكان هو يفخر بانتمائه الى اكاسرة الفرس من جهة الاب والى قياصرة الروم، من جهة الام. ورغم ميله المبكر الى الادب، كان بشار شقيا مشاكسا في صغره، وكان الناس يشكونه الى والده فيوسعه ضربا — فكان بشار يقول لوالده : قل لهم :
(ليس على الاعمى حرج).
عُميت جنينا والذكاء من العمى * * * فجئت عجيب الظن للعلم موثلا
ولما فطن بشار الصغير واستوى، تنبه الى وضعه كمولى – فنشئت فيه نزعة تمرد مبكرة – واخذ يحرض الوالي ويدعوهم الى الخروج عن ولائه للعرب والعودة الى اصوله الفارسية – وفي ذلك يقول عن نفسه :
اصبحت مولى ذي الجلال * * * مولى العُريب فخذ لنفسك وافخر
انتظم بشار في حلقات الادباء والمتكلمين في البصرة ومنها حلقات (واصل بن عطاء) وتشبع بمذاهب المعتزلة، الا انه لم يتمذهب لهم فتعرض لشيخ المعتزلة وطورد بسبب سلوكه المنفلت، فاضطر لمغادرة البصرة واستقر في بغداد اخيرا. – – كان ضخم البدن غليظ الوجه جاحظا يغطي عينيه غشاء احمر. وكان يلبس قميصا وجبة مشدودة من الوسط بازرار، فكان اذا اراد نزعها فك الازرار فتكومت على رجليه حتى لا ينزعها من راسه – – – وكان اذا اراد ان ينشد قصيدة، يصفق بيديه ويتنحنح ويبصق عن يمينه وعن شماله ثم يشرع في الانشاد مرتجلا، وكأنه الشلال الهادر.
اشتهر بشار بالشعر وانفتحت له ابواب الممدوحين من الخلفاء والولاة – فاتخذ من الشعر وسيلة العيش، مع علمه ان ذلك لا يتوافق مع الحق.
يضع مؤرخو الادب، بشار بن برد على الحد الفاصل بين الشعر القديم بطوره الجاهلي وبين الشعر الجديد الذي يعكس انتقال الحياة العربية في ظل الاسلام من وضع البداوة والبساطة الى التحضر – – فهو ابا المحدثين – – ونقف في نتاجه الشعري على خصائص مشتركة لعمود الشعر الاول – الجاهلي والاموي – وللشعر الجديد العاكس للبيئة المستجدة في اوائل العباسيين.
فمن جهة، حافظَ بشار على الحبكة الجاهلية المتميزة بالجزالة ومتانة النظم في قصائد مجلجلة يذكرنا بناؤها المرصوص بشعر الفرزدق الذي ادركه في صباه.
ومن جهة اخرى نجد شعره حافلا بمنتجات الحياة الحضرية للعرب في الحواضر والامصار وبالموضوعات المستجدة – بما فيها موضوعات الحياة الفكرية والثقافية في العصر العباسي الاول، وكان له مجلسان بمنزله – واحد في الصباح والاخر في المساء، وكان المجلس يتنوع ما بين الشعر والغناء والحديث العادي.
كانت النساء يحضرن مجلسه – وعشق بعضهن صوته، وكان منهن عبدة، ملهمته الاولى – فكانت تزوره مع صواحبها فيأكلن ويشربن عنده ويستمعن الى قصائده الجديدة ومعظمها في عبدة. من دون ان تقع بينهما خلوة. وصرح صادقا بان ما يريده من حبيبته (عبدة) لا يتعدى الحديث، انسياقا مع شرط الصداقة عند الجاهليين. وقد حافظ في عموم غزلياته الكثيرة على عفة الغزل الجاهلي وتهذيبه – – ولعله اول من خرج به من حشمة الجاهليين الى البذاءة النواسية. – – وياتي هنا وصفه الشائع بالمجون.
يتصف بشار في ظاهرة الشعراء المثقفين. كان شديد الحساسية، شديد التلون والتغير حتى يصعب نسبة بشار الى معتقد بعينه – – وترد روايات انه كان لا يصلي.
ويوضع بشار في عداد الزنادقة المجوس – – وقد خاطب المسلمين العرب باربعة ابيات تثبت صحة ذلك.
ابليس اشرف من ابيكم آدم * * * فتنبهوا يا معشر الفجار
ابليس من نار وآدم من طينة * * * والارض لا تسمو سمو النار
الارض مظلمة والنار مشرقة * * * والنار معبودة مذ كانت النار
النار عنصره وادم طينه * * * والطين لا يسمو سمو النار
يعاتب مثقفونا على جحودهم للشاعر المثقف بشار، هذا المزاجي الحر التفكير. والذي يقع نتيجة أزمة، وقع فيها بعد تعمقه في العقائد. وقياسها في ضوء الفكر الفلسفي الذي لا بد ان يقود صاحبه الى التصادم مع المسلمات المتوارثة التي لا تخضع للعقل وانما هي من مسائل الايمان – ونجد مصداق ذلك في شخص بشار وهو يصرح قوله :
لا يردعنك القالُ والقيلُ * * * كل ما بُلغت تضليلُ.
يجمع هذا الميل معظم الادباء الذين تأملوا في القضايا العقلية كابن المقفع والجاحظ والمتنبي وابي حيان التوحيدي – وهؤلاء لم يتأثروا بمذهب او فرقة وانما خضعوا لنتائج الثقافة الادبية المعقلنة، فلم يصح لهم تمذهب او انتماء – كما ان تفكيرهم لم ينحسم لصالح الايمان او الالحاد – لان تكوينهم الادبي يمنعهم من التفلسف الخالص. وبشار لم يكن شاعرا عاديا مثل جرير او كثير – على انه لم يكن متكلما، كذلك لم تبلغ به ثقافته درجة التفلسف التي انتهت بالمعري الى نقد الاديان والمجاهرة بتكذيب الانبياء.
بشار ينفرد عن الاخرين بامرين – الاول عفة غزله الذي يجري على سنة القدماء من الجاهليين والثاني ابتعاده عن الحب الغلماني الذي كان قد استشرى في زمانه قبل ان يتلقفه ابو نؤاس بالادلجة والتنظير – – وهنا فهو مدين لنشأته في قبيلة جاهلية حيث يندر الشذوذ الجنسي في البادية، في معشر القبيلة.
ظهرت شهرته مع بداية العباسيين وكان عمره 36 سنة – توافق مع اشتعال نار المعارضة للعباسيين بعد سنوات من استيلائهم على السلطة – وكانت المعارضة دموية، اججها انكشاف نوايا العباسيين وتبخر وعودهم الكاذبة بالعدل. كان اسلوب بشار عنيفا ولاذعا ومتناغما مع اماني (الرعية) في محاربة مظاهر الظلم الاجتماعي، فهو على عكس الحياة المتهادنة المتعارضة للعرب المسلمين على امتداد التاريخ تجاه ظلم الطغاة وجورهم،
اعتبر المستشرقون بشار، شهيدا للالحاد – – لم يكن بشار مادحا ومؤيدا لرجال الحكم بقدر ما كان ناصحا وموجها، وهذه علاقة معارضة تتميز عن علاقة السلطة بالتكافؤ بين الشاعر والرئيس – – نجد هذا النمط من الشعر السياسي المرشد، نظائر في العصر الحديث، تميز به كل من أحمد شوقي في مصر و محمد مهدي الجواهري في العراق.
اصطدم بشار بوزير الخليفة يعقوب بن داود، فهجاه، وختمه بهجاء الخليفة ببيتين فاحشين، انشدهما علنا في مسجد البصرة – – ووصل الهجاء الى الخليفة فأمر بقتله تحت السياط والقاء جثمانه في الهور.
وبهذه الصورة الهمجية البشعة يُقضي على حياة ابرز شاعر مبدع في بلاد العرب، يلتهب ثقافة، عُرف بعطائه الادبي الغزير، كونه يعتنق دينا، غير دين الاسلام، من قبل حاكم عربي متهور جائر، يجهل معنى الثقافة اصلا.
لا بد اخيرا من الالمام بالشعوبية التي اتصف بها الشاعر بشاربن برد، وهو كما نعلم فارسي، ادعى الانتساب الى ملوك فارس، اي الطبقة التي سماها (قريش العجم) تأسيسا على قريش التي تسيدت على العرب في الجاهلية وتسلطت عليهم في الاسلام. وكان في الوقت نفسه قد ولد وتربى في قبيلة بني عقيل العريقة في جاهليتها – فكانت مصدر تأهيله كشاعر وكشخصية اجتماعية ، فنشأ متمردا مكابرا شديد الاعتداد بنفسه.
كان بشار يمثل القيم الجاهلية في الاباء والكرم والشجاعة – فصار شعره معرضا لمفردات الشخصية الجاهلية يباري نظائره في الشعر الجاهلي – وخضع لتأثير بيئته حتى في غزلياته التي قاومت اندفاعه المجوني فحافظت على عناصر الحب العفيف – لكن بشار لم ينسى نسبه، وانه سيق مسبيًا من موطنه الى العراق.
كان بشار في شبابه يرفض الولاء العربي والعودة الى الاصل. فكان لا يجالس كبارهم، ينعكس ذلك في شعره – قصائد يفتخر فيها بحضارة الفرس وامجادهم ويندد بماضي العرب في بدائيته وجهله وتخلفه – – هذا هو القدر المشمول بمعنى الشعوبية – وهو انسياق طبيعي لشاعر حساس وجد نفسه يعيش في وسط غريب لا يملك فيه غير والديه الغريبين وغير اخوانه الفقراء –
ان تأصل بشار في العرق الفارسي وقرب عهده به، ابقاه على صلة حية بالاصل – – وهذه نزعة مبررة ان لم تكن ضرورية لمن هو في مثل موقعه. ويمكنني القول بهذه المناسبة ان الشعوبية كانت يقظة ضمير لدى اهلها – بل هي رد فعل طبيعي يصدر عن الانسان السوي في اي ظرف مماثل – مما نجد عليه امثلة حية لدى المثقفين المغاربة في العصر الحديث، في رفضهم لنظام الفرنكونية الاسباني.
هذا نموذج من شعره في الارشاد :
اذا كنت في كل الامور معاتبا صديقك * * * لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش وحيدا او صل أخاك فانه * * * مقارف ذنب مرة ومجانبه
اذا انت لم تشرب مرارا على القذى * * * ظمئت واي الناس تصفو مشاربه
وفي الغزل يقول :
حوراء إن نظرت اليك * * * سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها * * * قطع الرياض كُسين زهرا
وتخال ما جمعت عليه * * * ثيابها ذهبا وعطرا
كما يقول في السياسة :
اذا الملك الجبار صعّر خده * * * مشينا اليه بالسيوف نعاتبه
غدونا له والشمس في خدر أمها * * * تطالعنا والطل لم يجر ذائبه
بعثنا لهم موت الفجاءة اننا * * * بنو الملك خفاق علينا سبائبه
* مقتبس من كتاب شخصيات غير قلقة في الاسلام للمفكر هادي العلوي مع اضافات لكاتب السطور.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط