ماذا وراء انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من مجلس حقوق الإنسان؟

ساهر عريبي-جنيف

[email protected]

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وعلى لسان سفيرتها لدى هيئة الأمم المتحدة نيكي هيلي إنسحابها من مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية ,الذي يتخذ من مدينة جنيف السويسرية مقرا له. وعزت هيلي هذا الإنسحاب الى ماوصفته بعدم تحلّ أي دول أخرى ب“الشجاعة اللازمة“ للإنضمام الى معركة إصلاح المجلس الذي وصفته ب“المنافق والأناني“.

وياتي هذه الأعلان الأمريكي تتويجا لسلسلة من التهديدات التي اطلقتها إدارة الرئيس الأمريكي بالإنسحاب من المجلس منذ اكثر من عام متهمة إياه بمعاداة اسرائيل. كما وان هذا الإعلان يأتي في سياق سلسلة من الإنسحابات التي اعلنتها إدارة ترامب من اتفاقيات دولية متعددة الأطراف ومنها الإنسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والإتفاق المتعلق ببرنامج أيران نووي.

وقبل الخوض في الدوافع التي تقف وراء هذا الإعلان الأمريكي فلابد من الإشارة الى ان الولايات المتحدة رشّحت نفسها لعضوية المجلس في فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق باراك اوبما, لولاية تمتد لمدة ثلاث سنوات تنتهي في العام المقبل 2019. ويتألف مجلس حقوق الإنسان من 47 دولة يتم انتخابها عبر الإقتراع المباشر في الجمعية العامة للأمم المتحدة, وتمثل المجموعات الأوروبية والآسيوية والأفريقية بواقع 13 دولة لكل مجموعة و8 دول للأمريكية ومنطقة الكاريبي, ويمكن لهذه الدول الترشح مرتين متواليتين لشغل عضوية المجلس.

وسبق للولايات المتحدة الأمريكية أن انسحبت من المجلس لمدة ثلاث سنوات في عهد الرئيس جورج بوش قبل ان تعود اليه في زمن إدارة أوباما ولذات الأسباب التي تسوقها إدارة ترامب لتبرير انسحابها اليوم. وهنا لابد من الإشارة الى ان مجلس حقوق الإنسان تأسس في العام 2006 على انقاض لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة , ويتولى ومنذ إنشائه تعزيز ومراقبة أوضاع حقوق الإنسان في العالم ويعقد ثلاثة إجتماعات دورية كل عام ولمدة عشرة أسابيع , حيث يناقش تلك الأوضاع وفقا لعدة بنود يختص كل منها بموضوع حقوقي , كالبند المختص بحرية التعبير والرأي والآخر المتعلق باوضاع المدافعين عن حقوق الإنسان ومنها حول الحقوق الثقافية والمساواة وغير ذلك. لكن البند السابع طالما أثار غضب الولايات المتحدة, الذي يناقش الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهو البند الذي طالما وجّهت فيه انتقادات لإسرائيل على خلفية تعاملها مع الفلسطينيين , مما أثار على الدوام غضب الولايات المتحدة الأمريكية , وكانت آخر حلقة في هذا المسار هو تبني المجلس لقرار ضد اسرائيل في شهر مايو الماضي بعد ان قتلت 60 فلسطينيا قرب الحدود مع قطاع غزّة.

وتبدو للوهلة الأولى ان مواقف المجلس من الممارسات الإسرائيلية هي التي تقف وراء القرار الأمريكي, لكن أي متابع لنشاطات المجلس طوال السنوات الماضية وماجرى خلاله من حوارات تفاعليه سيخلص الى أن تلك المواقف ليست الا مفردة واحدة ضمن سلسلة من المفردات التي أثارت غضب الإدارة الأمريكية الجديدة وتسببت لها بإحراج شديد. فهذا المجلس تحول خلال جلساته الدورية الى منبر لفضح الممارسات القمعية وإنتهاكاتها لحقوق الإنسان التي أقرتها الشرائع السماوية والأرضية ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الإقتصادية.

فقد نجحت العديد من منظمات المجتمع المدني في تعرية بعض الأنظمة القمعية فعلى سبيل المثال لا الحصر تمكنت المنظمات الحقوقية البحرانية والسعودية من استخدامات الآليات الأممية في كشف إنتهاكات الأنظمة الحاكمة في هذين البلدين وعرضها أمام أنظار الدول الأعضاء في المجلس وبشكل متواصل , تسبّب بإحراج تلك الأنظمة التي صبّت جام غضبها على المجلس وعلى مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان وشخص رئيسها الأمير زيد بن رعد الحسين.

وكان اللافت أن الولايات المتحدة التي برّرت ايضا انسحابها من المجلس لأنه لم يحاسب منتهكي حقوق الإنسان, لعبت دورا كبيرا في التغطية على إنتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الأنظمة الحليفة لها في المنطقة وخاصة في السعودية والبحرين. وقد أسهمت الولايات المتحدة الأمريكية في إحباط أي مشروع لتشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة في اليمن من قبل مختلف الأطراف , كما وانها وطوال الحرب السعودية المتواصلة على اليمن لم تصدر منها أي إدانة لتلك الحرب بالرغم من الكوارث الإنسانية التي خلفتها في اليمن.

وغضّت الولايات المتحدة الطرف عن الإنتهاكات التي تعرض لها المدافعون عن حقوق الإنسان في السعودية والبحرين وتصفية المعارضة السياسية وأحكام الإعدام بحق المعارضين وزج الآلاف منهم بالسجون فضلا عن اسقاط جنسيات المئات وكما هو عليه الحال في البحرين التي تتخذ منها الولايات المتحدة الأمريكية مقرا لأسطولها الخامس. لقد تحول المجلس الى منصة لفضح الأنظمة القمعية الحليفة للولايات المتحدة ولم يتسبب بإحراج تلك الأنظمة فحسب بل أحرج الولايات المتحدة الحليفة لتلك الأنظمة وهي التي تدعي الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.

لكن غضها الطرف عن الإنتهاكات الجسيمة لحلفائها وضعها في موقف محرج امام أنظار المجتمع , بل إنها لم تكتف بذلك بل عززت من علاقاتها مع تلك الدول في ظل إدارة ترامب التي وضعت مبيعات السلحة والمصالح الأمريكية فوق حقوق الإنسان التي أدارت ظهرها لها. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي الإنتقادات التي وجهها المفوض الأممي السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد الحسين للولايات المتحدة الأمريكية على خلفية الإجراءات التي اتخذاتها ضد المهاجرين. فقد دعا المفوض السامي في خطابه الإفتتاحي لأعمال الدورة الحالية لمجلس حقوق الإنسان , دعا الولايات المتحدة الى وقف الممارسات ”غير الرحيمه“ ضد المهاجرين والمتمثلة بفصل الأطفال القصّر عن ذويهم.

إذ لم يكد يمضي سوى يوم واحد على ذلك الخطاب ألا وأعلنت الإدارة الامريكية انسحابها من مجلس حقوق الإنسان. وبالنظر الى سياسة الإدارة الأمريكية فإن هذا الإنسحاب بنظر العديد من الحقوقيين الدوليين يصب في مصلحة المدافعين عن حقوق الإنسان وضحايا الأنظمة القمعية الحليفة للولايات المتحدة والتي تعتبر أكبر سند وداعم لها داخل المجلس في التغطية على انتهاكاتها وفي إجهاض كافة المحاولات لإصدار قرارات بإدانة تلك الأنظمة الحليفة. كما وان هذا الإنسحاب سيمنح المنظومة الأوروبية وخاصة الدول الإسكندنافية مساحة أوسع للتحرك داخل المجلس بمايؤدي الى تعزيز حقوق الإنسان في العالم.

إن هذا الإنسحاب يؤكد تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها بدعم بحقوق الإنسان العالمية , كما وانه يؤكد على ان مجلس حقوق الإنسان وبالرغم من افتقاره للصلاحيات التي تلزم الأنظمة بتطبيق توصياته, يؤكد ان المجلس بات مقلقا للولايات المتحدة ولحلفاءها القمعيين الذين يسعون اليوم لإنهاء الدور التاريخي للمجلس الذي لعبه طوال السنوات الماضية في الترويج لمفاهيم حقوق الإنسان وفي تعرية الأنظمة البوليسية, وهو مايحتم على المجتمع الدولي الإستمرار في دعم المجلس وفي تطوير آلياته وبمايؤدي الى مسائلة منتهكي حقوق الإنسان ومعاقبتهم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here