الدكتور طه جزاع ..وتساؤلات عن إخفاء عشق المتصوفة وهيامهم بالخمرة !!

حامد شهاب

يقول أحد المتصوفة المعاصرين وهو محمد السكران :

قالوا تسلى عن المحبوب قلت بمن!!

كيف التسلي وبالأحشاء نيران

إن التسلي حرام في مذاهبنا

وليس أرضى بكفر بعد إيمان

فشارب الخمر يصحو بعد سكرته

وشارب الحب طول العمر سكران

كثيرة هي المقالات التي كتبها الدكتور طه جزاع أستاذ الفلسفة وزميلنا الصحفي والكاتب البارع عن المتصوفة وطرائقهم في التصوف ، وهو الذي تجول بين فلسفاتهم ومنابعهم وأصولهم الفكرية ، ونال التكريم قبل فترة ، لأنه أبدع في فن الرحلات والكتابة عنهم ، مستفيدا من كتب مفكرين أثروا هذا الموضوع بالكثير، لكن الشيء اللافت هو ان دكتورنا الكبير طه جزاع ، لم يذكر لنا ولو مرة عن جانب مهم من حياة أؤلئك المتصوفة ، وبخاصة التي تتعلق بهيام هؤلاء في العشق والغرام والتغني بجمالية وعذوبة السكرة ، وكيف أن السكران يصحو بعد سكرته ..أما العاشق ومن اكتوى بنار الحب يبقى طول العمر سكرانا!!

ونحن إذ نغوص في معاني ودلالات توجهات اؤلئك الفلاسفة فنحن نعرف مضامين تلك التوجهات ومغزاها، فالعشق بالنسبة لديهم هو العشق الإلهي لرب السموات، والتغزل بالخمرة وسكرتها للدلالة على انهم يهيمون في عشق الله جلت قدرته، وهم يهيمون بحبه وغرامه كما يهيم العاشقون بحبياتهم..هذا في المعنى الاستدلالي..ولكن من يقرأ نصوصهم الشعرية بتجرد يحسب ان هؤلاء هم مولعون بعشق الحبيبات واللهاث وراء الخمرة وسكرتها وجنونها، بالرغم من انهم في قرارة أنفسهم بعيدون عنها كل البعد، وقد كرسوا كل حياتهم وأفنوا زهرة شبابهم للابتعاد عن الملذات بكل أنواعها واصنافها، وتفرغوا لعبادة الخالق!!

ومن المتعارف عليه في لغة الشعر ان من يخوض غمار الحب ونيران العشق والهوى والغرام ويهوى شرب الخمرة عله يصعد الى مراكب الهوس والجنون ويطوف في فضاء واسع يخرجه من واقعه الرتيب، لابد وان تكون هناك حالة معايشة لهذا الواقع، أي انه اكتوى بالحب ونيران العشق واغترف من انهار الخمرة ما يصعد بافلاكه الى بحور الهيام والصبا والتغني بلذة تلك اللحظات التي يراها من اجمل سويعات عمره، حيث كان العرب مولعين بالعشق والغرام وشرب الخمرة ، وبخاصة الشعراء منهم وأولئك الابطال الذين ملأوا الدنيا شجاعة وبطولات!!

ويقال أن أفضل الشعراء المصريين الذين كتبوا عن الخمرة ووصف طيب شرابها وهيام الشاربين بها لم يتذوقها أصلا، وقد كتب كثيرون عنها من وحي خيالهم وليس عن طريق ممارسة فعلية، ما يعني انه ليس كل من كتب عن بحور العشق والغرام هو عاشق صال وجال في بحور العشق ولا كل من كتب عن الخمرة وتغزل بها قد تذوق كؤوس الخمرة، واسكرته بشرابها اللذيذ!!

ومن أجمل ماقاله أحد المتصوفة المعاصرين عن عشقه للخمرة وعشق الحبيب وهو محمد السكران ، حيث أنشد يقول :

قالوا تسلى عن المحبوب قلت بمن!!

كيف التسلي وبالأحشاء نيران

إن التسلي حرام في مذاهبنا

وليس أرضى بكفر بعد إيمان

فشارب الخمر يصحو بعد سكرته

وشارب الحب طول العمر سكران

ولهذا اشار احد الباحثين في شعر المتصوفة الى ان هذا بيت جميل درج على ألسنة الناس، وغناه المغنون في الماضي والحاضر، وراج رواجا كبيرا، عندما تتأمل هذا البيت ربما تسأل نفسك: ايهما أشد تأثيراً على الانسان الخمر أم الحب؟ هذا الشاعر يقول ان الحب أشد تأثيراً من الخمر، فشارب الخمر لابد ان يصحو ويفيق ويذهب تأثيرها عنه، لأن الخمر لها وقت معين وتذهب آثارها، أما شارب الحب فيظل طول عمره سكرانا، يعاني تأثير الحب عليه، أي حب هذا الذي يجعل الانسان فاقداً لوعيه طول عمره؟ هذا الشاعر لا يقصد الحب الذي يعرفه الجميع، ولكن «الحب الإلهي» عند الشعراء الصوفيين، وقد تميزوا بهذا الفن من الشعر، لأنهم غارقون في حب الله عز وجل، فهذا ابن الفارض عمر بن علي (576-632 هــ) يقول:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها من قبل ان يُخلق الكرم

لها البدر كأس وهي شمس يديرها

هلال وكم يبدو اذا مزجت نجم

أما صاحب البيت عنوان الموضوع ( شارب الخمر يصحو بعد سكرته) فهو زاهد متصوف اسمه محمد بن سكران بن أبي السعادات، من متصوفة القرن السابع الهجري.

وكان الناس في وقته يسمونه: محمد السكران، أما سبب لقبه «السكران» ففيه قولان، الأول انه كان يملك بستانا، فمن أخذ من بستانه شيئاً دون اذنه اصيب بحالة من فقدان الوعي، حتى انه لا يستطيع السيطرة على قواه العقلية، فيصبح مثل السكران! أما القول الآخر وهو الأقرب للواقع هو انه لقب بالسكران لتركه الدنيا، وهيامه بالله تعالى، وقبر هذا الرجل لا يزال ظاهراً في رصافة بغداد، ناحية الراشدية، ومكتوب عليه تاريخ وفاته 9 شعبان 663هــ، وهذا يعني انه شهد سقوط الدولة العباسية 656هـ، وعاش بعدها سبع سنين، وهو القائل:

ذكر صفي الدين في «مراصد الاطلاع» انه الشيخ الزاهد محمد بن سكران بن أبي السعادات مقمر، وانه انشأ رباطا في ناحية المباركة من قرى الخالص، والى جانب الرباط بستان له، يزرعه ويتقوت منه، أوقفه على الفقراء، وانضم اليه جماعة من الصالحين، فانقطع الى العبادة الى ان توفي، ودفن في رباطه، وعلى قبره ضريح من الخشب، وبنيت عليه قبة عالية لا تزال الى اليوم.

وما كتب عن المتصوفة في هذا الجانب الكثير.. لكن صديقنا وزميل عمرنا الدكتور طه جزاع وهو الخبير بأحوالهم وغرائب طباعهم لم يخض غمار تلك الحياة الجميلة في سفر المتصوفة ولم يستفرد في يوم ما فصلا عن سبب تغني أؤلئك المتصوفة بالعشق الإلهي ، وأملنا ان يفرد لنا فصلا في وقت قريب بهذا المعنى بالرغم من اانا ندرك أن سكرة هؤلاء المتصوفة هي للدلالة على هيامهم بحب رب السموات حتى ترى وكانهم (سكارى) وما هم بسكارى،وليسوا ممن يقربون الخمرة بأي حال من الأحوال!!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here