عندما تزكو مشاعر الحب في دنيا الفن !

(*) د. رضا العطار

بينما كنت صباح احد الايام من عام 1974 جالسا في مقهى بشارع الشانزليزيه في باريس ، اطالع صفحات جريدة دوتشلند الألمانية، جائت سيدة فرنسية ومعها ابنها وجلست بجواري، كان الصبي في نحو العاشرة. وما هي ان استقرت حتى اخرجت من حقيبتها نقدا اعطته اياه وارسلته كي يشتري لها وردة. وعاد الصبي بعد دقائق ومعه وردة نضرة، زاهية اللون. فتأملتها السيدة وكأنها تستمتع بزهو سحرها وعبق رائحتها،
ثم اخرجت مرآتها الصغيرة ووضعت الوردة على شعرها … ليس الذي اراه امامي هو مجرد ذوق خاص، انما في النهاية يجري في سياق المجتمع الباريسي المتصف بالتألق.

ونظرتها انا في اعجاب، فقد جلّلت الوردة سحنتها بنور من الحياة، فتألق وجهها وغدت عيناها اكثر لمعانا و شعرها اكثر جمالا، مثلما بانت وجنتاها اعذب حمرة … وعدت الى نفسي اتأمل في هذا التأنق الذي يتسم به البارسيون رجالا ونساء. وهو تأنق يشمل كل شئ، فهو في الهندام كما هو على المائدة، بل كما هو في اللغة والأيماءة. وهو في المدينة الزاخرة بميادينها الفسيحة، المزدانة باحواض المياه العذبة وشوارعها المنسقة تزينها تماثيل فنية رائعة وحدائق غناء تزخر بالوان الورد. والنظافة العامة في كل مكان، انهم يتسامون الى الجمال في كل ما دق وجلّ.

وليس في الدنيا بيت يجمع بين الفن والخدمة، بين التأنق والضرورة، كما يجمع البيت الفرنسي، حيث تعني سيدة الدار بالزهور والرياحين، تزين بها مائدة العشاء مثلما تجملها بأواني الحساء المزخرفة — واحيانا اتأمل جمال الفتاة الفرنسية واحاول ان احلل تفاصيله واجزاءه، وكثيرا ما انتهي الى الاستنتاج بانه ظرف واناقة اكثر منه ملاحة، فهو احيانا هندام انيق كأن مهندسا قد رسمه بألوان حلوة تروق لها العين، وتظن انه يخرج منها فراشة لم تخلق الاّ لترشف الرحيق.

ثم هذا التأنق ينتقل الى اللغة، فليس هناك استهتار في التعبير او اهمال في اخراج الفكرة،
فالمعنى مُبين، لا يشوبه شك او غموض . وكثيرا ما رايت محدثي يتعنى ويتعمل كي يعبر بالكلمة والجملة عما يعني في وضوح. والمثل الفرنسي يقول:
(ماليس واضحا ليس فرنسيا).

ولقد رايت نساء ورجال فوق الستين في باريس. وقد تجلّت في وجوههم روعة الجمال ما لعله يفوق جمال الشباب والفتيات. فضلا انهم يتخيرون ملابسهم في عناية فائقة.
وتعني المرأة بتصفيف شعرها مثلما يعني الرجل بقص لحيته. وكلاهما يبدو كما لو كان قد صاغ وجهه فنان بارع — هذا التأنق هو الفن الجميل الذي يجب ان نتعلمه ونمارسه، نمارسه لكي نكون ادباء وشعراء. واذا لم نوفق الى ذلك فلا بأس ان نكون اصحاب ذوق.
اما حب الشاب للفتاة، والفتاة في اعجابها بالشاب، يجدان معاني الشعر والأدب، كل منهما في الآخر. ولم تكن مصادفة ان يكون الحب عند جميع الامم المتمدنة موضوع الادب والفن، ولكنه لم يكن كذلك قصدا وانما يلتصق الحب بالفن او ان ينساب الحب من ينبوع الفن، لأن الحماسة الجنسية عندما تحتبس، تنتهي الى منافذ من الحماسة الفنية بل واحيانا تنتهي الى الوان من النشاط الروحي.

فنحن مثلا نتحسس مشاعر قيس و ليلى او جميل بثينة، وهو احساس واضح لا يحتاج الى تفسير، لأن مشاعر الحب عندهما قد احدثت انغاما فنية، نطق بها العاشقان اشعارا عبرت عن خلجات النفس الانسانية الصافية، كما نتحسسها نحن في شعر قيس عندما يقول:
ان تك ليلى تداني دون قربها * * حجاب منيع ما اليه سبيل
فإن نسيم الجو يجمع بيننا * * ونبصر قرص الشمس حين يزول
وارواحنا بالليل في الحي تلتقي * * وتعلم اين في النهار تجول

وحينما يخاطب جميل بثينته يقول:

الا شعري هل ابيتن ليلة * * بوادي القرى اني اذن لسعيد
افنيت عمري بأنتظاري وعدها * * وابليت الدهر وهو جديد
خليليّ ما القي من الوجد قاتلي * * ودمعي بما قلت الغداة شهيد

يجب الاّ ننسى ان اعظم رجال الدين في التاريخ كانوا ايضا شعراء. وان الكنيسة الكاثوليكية التي لا تزال كهنتها من الرهبان هي اعظم المؤسسات الفنية في العالم. كما يجب الا ننسى ان الحب والفن قد اندمغا اندماغا مضللا حينا، ومنيرا حينا آخر، كما هي الحال عند ابن الفارض وابن عربي وسائر المتزهدين من مسلمين ومسيحيين. ولكن هذا الحب عند هؤلاء الفنانين و اؤلئك المتدينين كان قد احتبس، ثم تجمع بخاره فانفجر ادبا وفنا، كما يحتسب الماء وقت الغليان فلا يخرج ماء اذ يستحيل بخارا. ولو ان الحب وجد هدفه عندهم بلا عائق لما تسامى الى بخار بل الى الفن والادب.

ولا يختلف الفنان عن الحيوان وقت الهياج الجنسي. الاّ من حيث ان الاول قد سما بالحب الى مستوى العقل وبقى الثاني على مستوى الغريزة.
واعظم ما يمتاز به الأدب والفن هو الغلو … هذا الغلوالذي هو الميزة الاولى للطرب الجنسي. ولذلك نحن نجد في طرب المعانقة نوعا من طرب الفن ونتحدث عنه في غلو الشعر والادب.

يجب على مجتمعنا ان يبيح الحب للشباب والفتيات مشروطا بالأشراف الأسري، لان هذا الحب هو من حقهم الطبيعي. ولكن يجب على هؤلاء الاّ يستبيحوا الحب ويرتخصوه، اذ هو في هذه الحالة يتحول الى شهوة الجنس دون شهوة الروح، الى ذبذبة الجسم دون ذبذبة النفس. ولعل اسعد اوقات الحب هي تلك اللوعات التي نبتعد فيها عن الحبيب، نختلي بأنفسنا نتأمل ونتذكر، فاننا هنا نرتفع الى الشعر والفن والفلسفة … نرتفع فوق انفسنا. والشاب الذي يهدف الى الجمال والحب والفن يحيا حياة السعادة ضمن السلوك الكمالي.

وما اجمل ما قاله ثورو الأديب الامريكي الشهير:
( كل انسان يبني لنفسه معبدا، هذا المعبد هو جسمه، وهو يتعبد فيه على نهجه الخاص، وهو لن يجد ما يعوضه عن هذا المعبد مهما جهد. ونحن جميعنا بناؤون، ومادتنا هي لحمنا ودمنا وعظامنا. لكن عواطفنا النبيلة هي التي تكسب هذا المعبد جمالا وروعة. اما عواطفنا الخسيسة فتكسبه شهوة بهيمية )

ما اجمل هذه الافكار التي تعبر عن عواطفنا واحساساتنا، انها تصوغ من كل منا شخصية جميلة او دميمة. فاذا فكرنا في الجمال نطقت ملامح وجوهنا بالبُشر وعكست تقاسيم اجسامنا في ارق العواطف والطفها. اما اذا فكرنا في القبح، عم الجحيم ارجائنا وظهرت خطوطه العريضة على وجوهنا. علينا ان نعرف اننا لن نفكر في الجمال يوما، الاّ اذا احببنا، ولن نحسن هذا الحب الاّ اذا ملكتنا مشاعر انسانية سامية، طهّرت عقولنا من الافكار السوداء و نفوسنا من النزعات الشريرة.

* مقتبس من اعمال الموسوعي سلامة موسى مع الاضافة والتصرف لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here