قاصرون مغاربة… هروب من قسوة شوارع الوطن إلى التشرد بباريس

باريس- محمد المزديوي

وصل الفتى المغربي سعيد الراجحي ورفاقه القُصّر، إلى حي باربيس (Barbès) الباريسي، قبل 9 أشهر، بعد رحلة تهريب عن طريق مدينتي مليلية وسبتة المغربيتين المحتلتين من قبل إسبانيا التي تمثل معبرهم الأووربي الأول في طريقهم إلى القارة العجوز، وتختلف طرق تسلل كل واحد منهم، وإن كانوا يلجأون، في الغالب، إلى الاختباء تحت سيارات وشاحنات، فيما يجرؤ بعضهم على الدخول مشياً على الأقدام برفقة مواطنين يقيمون في المنطقة، ويحق لهم دخول هذه المدينة متى شاؤوا، كما يقول الراجحي، مضيفاً بلهجته المغربية “بحثنا في العاصمة عن حيّ دافئ فلم نجد أفضل من هذا”.

كثيرون من رفاق الراجحي في حي باربيس قضوا شهوراً وأحياناً سنوات في الشارع، في المدن المغربية الكبرى، خاصة الدار البيضاء، إذ تصل أعدادهم إلى 50 ألف طفل مشرد في شوارع المملكة، حسب تقرير جمعية “بيتي” التي تُعنى برعاية الأطفال الذين يوجدون في وضعية صعبة.

إحصائيات متباينة

يصل بعض من هؤلاء الأطفال من إسبانيا إلى باريس على فترات متفاوتة، ولا تتحدث الداخلية الفرنسية سوى عن ما بين 30 و40 طفلاً، بينما تشير جمعية “المكتب الفرنسي للهجرة والاندماج” الحكومية عن مائة قاصر مغربي في شوارع باريس، لكن غيوم لاردانشي، رئيس جمعية “خارج الشارع”، المتخصصة في رصد ومساعدة المشردين يرى أن عددهم ما بين 60 و80 قاصراً في العاصمة، من بينهم أحمد، الذي يقول إنه من مدينة سطات الواقعة بين الدار البيضاء ومراكش، الذي التقيناه مع أربعة من رفاقه قرب المكتبة البلدية “غوت دور”، في حي باربيس.

يقول الفتى المغربي أنه قضى ثلاث سنوات يهيم في شوارع الدار البيضاء، قبل نجاحه في ولوج فرنسا عبر إسبانيا، إذ صعد متسللاً إلى حافلة تم شحنها على ظهر سفينة عبرت به مضيق جبل طارق، ونزلت به في إسبانيا، التي تضمّ قرابة ألف طفل مشرد ومعزول، حسب الجمعية الإسبانية “ألجيزيراس أكوخي (Algeciras Acoge)”.

ولم تكن باريس وجهة أحمد ورفيقه طارق المفضلة، كما يقولان، ويعترف أحمد بأنهما لم يخطر في بالهما التواجد فيها. وقد أقاما خلال بعض الوقت في إسبانيا، وخاصة في مدريد وبرشلونة، اللتين تضم مراكز الإيواء فيهما أعداداً كبيرة من هؤلاء القاصرين. وهناك رفضوا كل الحلول التي كانت تقترحها منظمات إنسانية لإيوائهم وتعهدهم، كما أن الظروف الاقتصادية في هذا البلد لم تساعدهم على البقاء فيه.

كلهم مروا من مراكز الشرطة

يقيم معظم هؤلاء القُصَّر، الذين تتراوح أعمارهم، ما بين 9 إلى 16 سنة، في المقاطعتين الباريسيتين الثامنة عشرة والعاشرة، وقد وصلوا إليهما ما بين نهاية 2016 وبداية 2017، وبحسب جولة ميدانية لمعد التحقيق، رصد وجود هؤلاء الأطفال في جماعات صغيرة. ولا يتوقفون عن تناول المخدرات والكحول، طول النهار، وفي الليل يُكسّرون أبواب بعض السيارات، خاصة سيارات البلدية، أو يقتحمون أسوار حديقة “ألان باشونغ”، كي يحتموا فيها من صقيع الليل، كما يؤكد سكان المنطقة التي يتواجدون فيها.

ويصف أصحاب المتاجر والمقاهي العربية، في هذا الحي الباريسي، الذي شهد في الماضي هجرات كثيفة من العمال العرب، حال هؤلاء “بأنهم يدخنون، يبصقون، يشربون النبيذ، ويتناولون المخدرات ويشتمون ويخربون وينشلون”.

وكثير منهم تعرض للاعتقال خلال فترات قصيرة من طرف الشرطة، بسبب إقدامهم على مهاجمة عجائز وسرقة أموالهن، من بينهم جواد، الذي يقول إنه في 13 من عمره، واقترف كثيراً من الجنح، آخرها سرقة حقيبة يد امرأة عجوز، عثر فيها على 300 يورو، وقد استطاع أن يترك المبلغ لدى رفيق قبل أن يعتقل ثم يطلق سراحه، بعد ساعات.

وغالباً ما تحدث صراعات فيما بينهم، بتأثير المخدرات، وأحيانا تضطر سيارات الإسعاف للتدخل. والشيء الذي يريح السلطات الفرنسية، التي تتعاون مع نظيرتها الإسبانية، لكون هؤلاء جميعا مروا من إسبانيا، في هذا الصدد، “بأن هؤلاء القصّر ليسوا خاضعين، فيما يبدو، لأيّ عصابات إجرامية تشغّلهم من بعيد، على الرغم من الغموض الذي لا يزال يلف مسارهم ومحفزاتهم” كما يقول كولومب بروسيل، مساعد رئيسة بلدية باريس للشؤون الأمنية، آني هيدالغو.

وإذا كانت هذه السلطات لا تلغي أي فرضية، إلا أنّ هؤلاء القاصرين المغاربة، كما يقول لـ”العربي الجديد” جان بيير دي لاغوزييغ، مسؤول في مركر شرطة غوت دور (حي بَارْبيس حيث يتواجد هؤلاء القصر)، “يعيشون في فقر مدقع، وليس لديهم ما يبيعونه”، بل “ويضطرون للسرقة لشراء احتياجاتهم من النبيذ والسجائر والمخدرات”.

السلطات الفرنسية لا تزال في ورطة

يعترف مسؤولون فرنسيون اجتمعوا في بلدية باريس (المقاطعة الثامنة عشر)، في ديسمبر/كانون الأول 2017، بأنهم أمام وضعية غير مسبوقة، أي وجود قُصّر وفي نفس الآن هم مدمنو مخدرات، وفي نفس الوقت يرفضون كل مساعدة من السلطات المختصة.

وتؤكد دومينيك فيرسيني، المكلفة بالتضامن ومكافحة الحرمان واستقبال اللاجئين وحماية الطفولة في بلدية باريس لـ”العربي الجديد”، بأنّ “هؤلاء الأطفال القصر والمراهقين يرفضون كل مساعدة تقدَّم لهم”. وتسرد قصصا عن بعض من قبلوا منهم قضاء الليل في مراكز إيواء استعجالية، لكن سرعان ما هربوا منها، فيما لجأ آخرون إلى التسبب في أعمال عنيفة.

وتؤكد أن “البعض منهم كانوا يعيشون وفق هذه الطريقة في المغرب”، وهو ما يؤكده كثير من هؤلاء الأطفال الذي التقينا بهم في هذا الحيّ ولهذا السبب يرتبط البعض بعلاقات وثيقة فيما بينهم، وكما يقول زهير، وهو من مدينة صفرو الواقعة في سفح جبال الأطلس المتوسط ، والذي يبدو أكبرهم سنا: “لا شيء أثمن من الرفيق في عز الليل”.

محاولة للحل

حاول “مركز العمل الاجتماعي البروتستانتي”، (جمعية أهلية) والذي يمتلك تجارب سابقة في هذا المضمار في أماكن من العاصمة، خاصة قرب محطتي المترو والقطارات في “سان-لازار” و”ليهال”، منذ عام 1980، إقناع هؤلاء الأطفال والمراهقين بقبول حماية اجتماعية، لكن لا يتوقع العاملون على هذا الملف نتائج سريعة، ويراهن مسؤول الجمعية، جيل بوتي غاتس، Gilles Petit-Gats، على عامل الوقت في التعامل مع هؤلاء القصر قائلا: “يجب توفر الوقت حتى ننجح في إقناع هؤلاء الشباب بقبول حماية لا يريدون أن يؤمنوا بها”، والرهان على المدى غير القصير كان هو رأي دومينيك فيرسيني التي تقول: “نَعِدُ بوسائلَ وبتنظيمٍ وبمِهَنيين، ولكن لا يجب انتظار حصول تقدم سريع”.

ومن حين لآخر تجري السلطات الفرنسية اتصالات مع السفارة المغربية في باريس ومع جمعية “Amesip” المغربية، والتي عملت خلال سنوات طويلة مع أطفال الشوارع، خاصة في الرباط لدراسة قضاياهم، من دون جدوى. كما تحاول السلطات الفرنسية، كما تؤكد بلدية باريس 18، العثور في المغرب على عائلات هؤلاء الأطفال المشرَّدين وإعادة العلاقة بين الطرفين.

ولكن هذا العمل مع السلطات المغربية يثير غضب كثير من المنظمات الفرنسية، التي تؤكد على حقيقة أن هؤلاء القاصرين تعرّضوا للعنف في عائلاتهم وفي الشارع المغربي، وبالتالي فليس من الوارد إعادتهم إلى المغرب. ومن جهتها تأسف “جمعية العمال المغاربيين في فرنسا”، التي تعد من أهم الجمعيات المهتمة بشؤون العرب والمهاجرين في فرنسا لأن كثيراً من الفاعلين لم تتم استشارتهم من قبل السلطات الفرنسية، كما يقول لـ”العربي الجديد”، ناصر الإدريسي، المسؤول في الجمعية مضيفاً، إن “الجميع، في وسائل الإعلام، اكتشف هؤلاء القصر حين استقبلناهم في مقرنا، المتواجد في نفس المنطقة، وقدمنا لهم القهوة، وسمحنا لبعضهم بمهاتفة أهاليهم”.

ومن جهتها، صرّحت ليتيسيا فيليسي، نائبة المدعي العام في باريس، في اجتماع بلدية باريس الثامنة عشر، في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017، بـأن “هؤلاء القصر يوجدون في خطر”. ولكنها تعترف أن “هؤلاء لا يُسهّلون المأمورية، فهم لا يكشفون عن أسمائهم الحقيقية ولا عن أعمارهم”. وتضيف: “كل محاولات وضعهم في مراكز إيواء باءت بالفشل، بسبب هروبهم أو تصرفاتهم العدوانية العنيفة”. وتختم بأنهم “يمتلكون قدرة مقاومة كل محاولة للأخذ بأيديهم ويعودون إلى الشارع”، يينما أكّدت فاليري غوتز، المسؤولة في مركز الشرطة الموجودة في المنطقة أن “القصّر المغاربة ليسوا المشكل الوحيد في هذه المقاطعة الباريسية”.

وفي جرأة نادرة تقول غوتز: “هذه الحالة لم تحدث منذ الحرب الكونية الثانية، حيث حرم الكثير من الأطفال من آبائهم”. كما تشدد أيضاً على ظروفهم الصحية الهشة بسبب سوء التغذية وتناولهم للخمور والمخدرات، بإسراف، وأيضاً بسبب غياب كلي للحنان والعاطفة.

ولحد الساعة لا يزال هؤلاء القصّر المغاربة يجوبون شوارع حيّ باربيس، في جماعات، وتأثيرات المخدرات والخمور وآثارعدم النوم الكافي تشوّه وجوههم، وسط عجز فرنسي عن استيعابهم وإدماجهم. ولا تستطيع السلطات الفرنسية التخلص منهم لأن مرسوم 2 فبراير/شباط 1945، ينصّ على أن الأطفال يجب أن يخضعوا لعدالة خاصة بهم، مرتكزة على مبدأ أولوية التربية على القمع، ويزداد حرج السلطات لأن المنطقة التي يتواجد فيها هؤلاء القصر، لا تخلو من مشاكل إجرام وعنف، تعبّر عنه زيادة تذمّر السكان والباعة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here