كيف حارب مهاتير محمد الفساد في بلاده خلال 10 أيام فقط؟ً

بعدما أنهى مهمته في النهوض بالبلاد، ورأى ثمرة جهوده وإخلاصه؛ تتجلى في ملامح حياة كريمة للمواطنين، والمقيمين في ماليزيا؛ رأى أن الوقت قد حان لإتاحة الفرصة أمام قومٍ آخرين ليخوضوا تجربتهم في النهوض أكثر وأكثر بالبلاد.
مُرتدياً لزيّ غير رسميّ، ومُعتمِراً قبعته الخاصة بالثقافة الماليزية؛ قَدّم الدكتور مهاتير محمد استقالته، وقال في ذلك الفصل في مُذكِّراته:
“أعلنت قرار استقالتي من رئاسة أَمْنُو، ورئاسة الوزراء؛ عند الساعة الخامسة والخمسين دقيقة مساءً في 22 يونيو عام 2002. خشيتُ قبل الإعلان أن أنهار، لكن الذي حصل كان أسوأ. فعلى الرغم من أنني تدربت على إلقاء الخِطاب، لم أستطع سوى التلفّظ بجمل متماسكة قليلة، وحين جاء وقت الإعلان؛ انهمرت الدموع من عيني على نحو مُخْجِل، لم أستطع أن أتعامل مع هذه النقطة المِفْصلية في حياتي؛ مثلما كنت أنوي”.
الجدير بالذكر أن مدّة حُكمه هي واحدة من أطول فترات الحُكم في آسيا” ؛ حصل في نهايتها على لقب “تون”، وهو أعلى تكريم لشخصية مدنية في ماليزيا
وبهذا أصبح الدكتور مهاتير محمد شخصية مُحببة لقلوب الماليزيين وغيرهم داخل ماليزيا وحول العالم، وترك إرثاً عظيماً من الحضارة الماليزية، التي أصبحت إحدى النماذج الحضارية التي يُحتذى بها.
خرج مهاتير من التقاعد السياسي وتخلى عن اللقب المذكور بعد أن أثارت غضبه فضائح فساد كبيرة تورَّط فيها رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق، وفي محاولةٍ مستميتة للإطاحة بنجيب، اتجهت المعارضة إلى مهاتير، الذي شغل منصب رئيس الوزراء (1981 – 2002 )، ويُنسَب إليه الفضل في تحويل ماليزيا ذات الأغلبية المسلمة إلى دولة حديثة. غير أنَّ مهاتير أيضاً أسس منظومة السلطة المركزية، التي استفاد منها نجيب لسنوات في حين اعتبرت المعارضة أنه هو القادر على توحيد المخالفين له للخلاص من فساد رئيس الوزراء الحالي. وبحسب نتائج غير رسمية، حقق الائتلاف الذي يقوده السياسي الماليزي العجوز مهاتير 123 مقعداً في حين كان يكفيه فقط 112 مقعداً فقط لتشكيل الحكومة.
أجريت الانتخابات الماليزية الاخيرة رقم 14 يوم الاربعاء 9 مايو الماضي وشهدت نسبة مشاركة بلغت 82.3 في المئة من إجمالي عدد من يحق له التصويت. وأُعلنت النتائج الرسمية فجر الخميس 10 مايو وفي نفس اليوم ادى الفائز الاول العجوز ( 92 عاما ) اليمين الدستورية أمام ملك ماليزيا محمد الخامس، ليبدأ رسميا مهام رئاسة الحكومة، وبذلك يصبح سابع رئيس وزراء للبلاد، منذ الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عام 1957،
عاد مهاتير صاحب 92 عاما إلى العمل السياسي، محملا بآمال وطموحات شعب يرغب في إعادة صاحب التجربة الاقتصادية المتميزة في بلاده والعالم، خصوصا أنه كان الوجه الأبرز في عملية الانتقال الاقتصادي الماليزي, وبدأ مهاتير عمله رافعا شعار مكافحة الفساد عاليا، وعازما على إصلاح “أخطاء” الحكومة السابقة التي ترأسها نجيب عبد الرزاق, وليبدأ في نفس اليوم فتح ملفات الفساد على مصراعيها, مفتتحا برنامجه
بفتح أكثر الملفات فسادا، وهو الصندوق السيادي الماليزي الذي تقدر حجم الأموال المنهوبة منه بأكثر من 4.5 مليارات دولار، كما بدا التحقيق مباشرة مع نجيب عبد الرزاق رئيس الوزراء السابق وزوجته وبعض أقاربه بتهم الفساد وأعلنت سلطات الهجرة في ماليزيا في هذا اليوم أن رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق وزوجته وضعا في قوائم الممنوعين من مغادرة البلاد بتهمة التربح وتلقي رشى خارجية منها 681 مليون دولار من الأسرة المالكة بالسعودية,, لذلك بدأ مهاتير محمد التحرك سريعا لاسترداد أموال منهوبة جرى تحويلها إلى الخارج عبر عمليات غير مشروعة، بل وأكد أن حكومته تسعى لاسترداد مليارات الدولارات دخلت في عمليات غسل أموال في الولايات المتحدة وسويسرا ودول أخرى.
ومن اجراءاته الفورية إلغاء ضريبة السلع والخدمات، وإعادة تطبيق ضريبة المبيعات والخدمات، واستمرار الحرب على الفساد، تنفيذا لتعهداته التي كان يدرجها في حملته الانتخابية التي هزم فيها خصومه.
كما رفض مهاتير الادعاء بأن عائدات البلاد ستنخفض إذا تم إلغاء ضريبة السلع والخدمات البالغة 6%، وأكد أن عدم كفاية الأموال عند الحكومة الحالية ليس بسبب قلة مصدر الدخل، ولكنه بسبب سوء الاستخدام وتبديد الأموال الحكومية.
ولفت إلى أن لدى الحكومة فكرة عامة عن مكان الخبير المالي لاو تيك جو، المتهم بأنه على صلة بمخطط لاختلاس مليارات الدولارات من الصندوق
ونقلت وكالة “برناما” عن الأمين العام للحكومة الماليزية، محمد علي حمزة، قوله إنه تم منع محمد إروان سريجار عبد الله، سكرتير عام الخزانة وهو أكبر موظف في وزارة المالية، من ممارسة مهامه، وتم نقله إلى منصب آخر حتى يوم 13 يونيو/حزيران, كما
مُنح المدعي العام محمد أباندي علي “إجازة”، في انتظار التحقيق في دوره في فضيحة تبرئة رئيس الوزراء السابق عام 2016 والخاصة بالصندوق السيادي، وأصدر تعليماته لكل الوزارات بالامتناع عن اتلاف أية وثائق، على أن يدرس “منعه من السفر” استناداً إلى معطيات التحقيق.
وكان المدعي العام هذا قد برّأ نجيب عام 2016 من ارتكاب أي خطأ في ارتباط نجيب بالفساد وخصوصا بشأن الهبة السعودية التي سبق وأقرت عام 2016، على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير، بأنها أهدته 681 مليون دولار دون مقابل! كما سعت حكومته لاسترداد مليارات الدولارات التي حولت إلى الولايات المتحدة وسويسرا ودول أخرى في “عمليات غسل أموال”. كما نُسب اليه تصريحه : “حكومتي ستسعى لاسترداد تلك المبالغ لسداد ديون الحكومة التي تراكمت على مدار سنوات”،
وأوضح أن التركيز على الفساد مهم، لأننا بحاجة لاسترداد تلك الأموال من سويسرا والولايات المتحدة وسنغافورة وربما لوكسمبورغ.. سنتواصل مع حكومات تلك الدول لاستعادة تلك الأموال،
مكن جهة أخرى شدد مهاتير محمد على أهمية اجتثاث الفساد من جذوره وأعلن عن تأسيس حركة “مكافحة الفساد” لتعنى بالتصدي لظواهر الفساد في كل مؤسسات الدولة.
وأضاف: “يجب أن تتم إدارة شؤون الدولة بسيادة القانون وخضوع الجميع له بغض النظر عن الصفة والمنصب”.
ودعا مهاتير مواطني بلاده إلى أن تقتصر هداياهم للوزراء وموظفي الحكومة الجديدة على الزهور والطعام حصرا كما نسب اليه قوله:
“أنا ممتن لكل من دعم ائتلافنا بالتبرعات، خلال الحملة الانتخابية. ولكن الآن انتهى وقت التبرعات وأدعو جميع الراغبين في التعبير عن دعمهم للحكومة الجديدة بتقديم هدايا أن يقتصر فقط تقديم الورود والطعام سواء للوزراء اوموظفي الحكومة من الآن فصاعدا, معقبا :” نحن نريد التأكد منذ البداية من عدم وجود أي فساد في الحكومة الجديدة”.
وعلى الفور كما أفادت وسائل إعلام ماليزية بأن رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق استدعي للمثول أمام سلطات مكافحة الفساد في إطار التحقيق في اتهامات ضده، وذكرت وكالة “برناما” الماليزية الحكومية أنه تم استدعاء عبد الرزاق للمثول أمام اللجنة الماليزية لمكافحة الفساد الثلاثاء القادم. كما تم دهم منزل عبد الرزاق في اليوم نفسه، وضبطت الشرطة 284 صندوقا و72 حقيبة يدوية فاخرة محشوة بالأموال والمجوهرات وحسبما تشير التقارير إلى أن مليارات الدولارات نهبت من الصندوق الحكومي من جانب عبد الرزاق وأسرته والمقربين منه.
ومما تجدر الاشارة اليه على مدار العامين الماضيين كانت تشهد ماليزيا حالة من الاضطرابات السياسية، والتي تركز بشكل رئيس على فساد الحكومة، وتسببها في تراجع الأداء الاقتصادي الذي انعكس على تراجع قيمة العملة المحلية أمام الدولار، واستنزاف احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي وانهار احتياطي النقد بماليزيا بأكثر من 40 مليار دولار خلال الفترة من 2012 – 2015، كما انتشرت القروض الرديئة القصيرة الأمد لمشروعات طويلة الأمد، وهو ما دعا مهاتير لإعطاء صلاحيات أكبر للمصرف المركزي الماليزي، للرقابة على أعمال المصارف ووضع قواعد جديدة للائتمان.
عن أسباب عودته للسياسية، قال مهاتير محمد، إنه “شعر أن من واجبه أن يتصدى للفساد الذي انتشر في ماليزيا”. كما أقر مهاتير بأنه أساء لنائبه السابق ولزعيم المعارضة القابع في السجن أنور إبراهيم، وإنه نادم على ذلك، وطلب منه العفو
وقبل إبراهيم اعتذار مهاتير محمد، ودخل هو وأحزاب المعارضة في ائتلاف مع مهاتير للتخلص من ائتلاف الجبهة الوطنية الحاكم، وزعيمه نجيب عبد الرزاق.
وكان أنور إبراهيم زعيم المعارضة المسجون حاليا، قد تولى منصب وزير المالية بين عامي 1991 و 1998 ونائب رئيس الوزراء مهاتير محمد بين عامي 1993 و1998، قبل ان يدب الخلاف بين الرجلين، ويُعزل إبراهيم من كافة مناصبه، ويُزج به في السجن في تهم فساد مالي وإداري، فضلا عن تهم جنسية.
ويشيد العديد من الماليزيين بالطريقة التي تعامل بها أنور إبراهيم ومهاتير محمد مع خلافاتهما، وكيف غلّب الرجلان مصلحة ماليزيا على خلافاتهما الشخصية، رغم مرارة هذه الخلافات. والابعد من هذا يتوقع ان مهاتير ةهو بهذه السن التي قاربت الثالثة والتسعون سوف لن يستمر في السلطة أكثر من سنتين ليتولى بعده حليفه القديم الجديد سجينه السياسي أنور أبراهيم بعدما اعلن عن عزمه اصدار عفوه الخاص عنه قريبا.
يرى البعض كما نرى ونهدف من اقتباس هذه المعلومات من مواقع متعددة عن التجربة الماليزية مثالا ناجحا يمكن الاقتياد به في العديد من دولنا النامية ولاسيما بلد كالعراق انهتكته مافيات الفساد والعبث الاداري والجهل السياسي وانعدام الشعور بالمسؤولية والحس الوطني لدى معظم المسؤولين.
د. أحمد رامي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here