قصة قصيرة !! يوم من حياة يوكيو مشيما

قصة قصيرة !!
بقلم مهدي قاسم

شعر ميشيما في أيامه الأخيرة بسيول المياه الآسنة لـ ” اللبرالية ” الطافحة بكل قذارتها تغرقه ، من أخمص قدميه حتى قمة رأسه ، بل ليس هو فقط مَن كان يغرق في دوامة ذلك الطفح القذر والموبوء وإنما كانت تلك المياه الآسنة و القذرة ، تغرق وتبتلع بشرا آخرين بقيمهم وأخلاقياتهم ومبادئهم التي كانت راسخة عبر قرون و قرون طويلة …

وأكثر ما كان يؤلمه هو اختفاء تلك النقاوة اليابانية تحت بساطيل اليانكيين المحتلين وبعض الرعاع الرثين من اليابانيين الذين كانوا يحلمون ذات يوم أن يرفعوا على أكتافهم المحفة الإمبراطورية ولو لبرهة من الزمن خارج عتبة القصر الإمبراطوري أو يمسحوا بسطال ابن الإمبراطور خارج عتبة القصر وإذا بهم الآن يهينون العائلة الإمبراطورية كلها بل والإمبراطور نفسه ، وهم يملئون الشوارع بضجيجهم وصخبهم و ابتذالهم الفظيع ، تمتم ميشيما مع نفسه بغضب وألم ليضيف :

ـــ نعم النقاوة اليابانية الخالصة .. تلك النقاوة البلورية كالماس ، والتي كانت تشبه نقاوة وصفاء دمعة الندى وهي تُذرف على قامة براعم لزنابق غافية تستفيق رويدا رويدا بين أذرع أشعة الشروق التي ما غادرت صباح اليابان أبدا …

تناول ميشيما علبة السجاير وأخرج واحدة منها وولعها وعبّ منها نفسا طويلا وأعصابه ما زالت متشنجة ومتوترة والغضب العارم ينبض في قلبه المضطرب كمخلب يغوص عميقا ، بحيث كانت ركبتيه تهتزان وترتجان بدون انقطاع ، كما لو كانتا مربوطتان بسلك كهربائي ، ومع اهتزاز الركبتين كانت الطاولة نفسها تهتز مع ما عليها من كؤوس شاي و أشياء أخرى ، وتتساقط على بعضها كما لو أن زلزلا مباغتا قد أخذ يعصف في داخل الغرفة …

ولكي تتآمر عليه الظروف مجتمعة ، جاءته موجة عالية من قهقهات حادة وقوية تتسم بالابتذال والسوقية لمجموعة نساء وفتيات يتأبطن أذرع جنود أمريكيين سكارى يصخبون بضجة عالية ، كأنما لو كانوا سربا من غربان زاعقة ! … حيث كانوا يركلون براميل القمامة ويكسرون واجهات المحلات الزجاجية مطلقين قهقهات عالية ، كما لو كانوا في منتهى تسليات البهيجة والمسرات …

حتى رأى أحدهم يدفع بإحدى الفتيات السكرانات إلى ركن منزوي وشبه معتم وهو يفتح أزرار بنطاله رافعا فستانها في الوقت نفسه ، على الرغم من مقاومة الفتاة الواهنة ، ومن ثم لتند من هناك صرخة واهنة تعبر عن عجز مطبق …

بينما وقفت هناك وعلى قرب مجموعة من شباب مت***ين ، يضحكون كما لو كانوا يشاهدون مسرحية هزلية طريفة …

وكم هاله مشهد نساء وفتيات يابانيات ، وهن يخرجن من الحانات في تلك الحالة من التعتعة والتهتك والابتذال المقرف و في حالة ترنح واهتزاز وتمايل موشك على السقوط على الأرض …

أمسك يوكيو ميشيما جبينه شاعرا بخجل مريع ، كما لو كان يغوص في مستنقع آسن لعار لم يكن هو سببه ، وهو يدمدم بين أسنانه المصطكة :

ــ يا إلهي ! … كيف يمكن أن يدب الفساد والانحطاط وبهذه السرعة المذهلة ببعض النساء والفتيات اليابانيات وإلى هذا الحد المريع ؟! … نعم تلك الفتاة اليابانية التي كانت تخجل حتى من ظلها وتحمّر خدودها خفرا وحياء بمجرد أن تواجهها نظرة رجل عابر ؟! … أجل تلك المرأة اليابانية التي كانت تبدو بخجلها وحيائها اليابانيين ، كما لو كانت راهبة وجلة وفي منتهى الصرامة الأخلاقية و شديدة الالتزام بالقيم والتقاليد اليابانية الأصيلة ؟! …

نط يوكيو ميشيما من كرسيه و اقترب من النافذة صائحا بصوت مبحوح :
ـــ هذا شيء كثير جدا ! … و غير قابل للتحمل أبدا … و أنا أخاطبكم أنتم بالذات … يا مَن تبقى من بقايا يابانيين شرفاء وأصيلين ! … شيء كثير جدا كل هذا … و غير قابل للتحمل أبدا! … إنني أختنق بهذه القذارات المتراكمة وليس من مفر! …

جاءه الرد على شكل قهقهات وقحة وأكثر عهرا وابتذالا من السابق …

في أثناء ذلك كانت السجاير لا تغادر شفتا ميشيما وهي تتناقص واحدة بعد أخرى تحت سحابات كثيفة من دخان وضباب غضب وحنق سخط على كل شيء في العالم ..

وعلى الرغم من المساء المتأخر رفع يوكيو ميشيما سماعة التلفون واتصل برفاقه القدماء من ضباط حانقين وساخطين مثله بسبب سقوط وانهيار القيم اليابانية الأصيلة وذات جذور تاريخية عريقة وفي منتهى القدم ، واتفق معهم على اقتحام مباني الحكومة وإسقاط النظام الجديد وكنس أوساخه ونفاياته الأمريكية والليبرالية التي شوهت كل ما هو ياباني أصيل و جميل ..

لم يدب النوم في عين يوكيو ميشيما حتى بروز طلائع الفجر المبكرة ، مصحوبة بأشعة الشمس اليابانية التي تدفقت فوق سرير ميشيما كهالة من نور شفاف و متساقط كشلال ناعس ، وعلى الرغم من شعوره بالوهن والدوخة والنعاس الثقيل ، نهض من سريره وأخذ يرتدي ملابسه العسكرية وتقلد حمالة سيفه الساموراي وخرج لاحتلال المباني الحكومية حسب الاتفاق مع رفاقه الآخرين ..

بمجرد أن بدأوا عملية الهجوم حتى دُهشوا بكيفية السرعة التي تم من خلالها إحباطها وسحقها فورا ..

في هذه المرة وجد يوكيو ميشيما نفسه في المعتقل مع ثلة من ضباط آخرين ممن شاركوا معه في محاولة إسقاط النظام الجديد ، حيث لاموا بعضهم بعضا بسبب فشل المحاولة بسبب عدم الترتيب الجيد للمحاولة والاستعجال بها ، وتنفيذها بتهور ، كما لو كانوا رهطا من أطفال يهاجمون قنا للدجاج ! ..

كان هو منتحيا بركن من أركان الزنزانة يدمدم مع نفسه مبعدا وجهه بعض الشيء عن أشعة الشمس المتسللة من خلل القضبان ، ليحمي عينيه الحمراوين الحساستين والمتعبتين من حدة الشعاع ..
و فجأة خطرت على باله الفكرة التالية :

كم كان سيكون جيدا لو يشنقوه ! ..
ليموت موتا فيه شيء من المعنى على الأقل ..

ولكنهم سرعان ما نادوا على اسمه :
ــ الضابط يوكيو ميشيما ، أنت معفي عنك .. وبإمكانك الذهاب إلى بيتك مباشرة ! ..
وما أن تخطى عتبة الزنزانة حتى أخذ له الجندي الحارس تحية عسكرية عريضة ، مع صوت انطلق من أحد الزنزانات وهو يقول :
ــ مَن يتجرأ على إعدام الضابط و الروائي العالمي يوكيو ميشيما ؟! … يعيش إمبراطور اليابان ! .. واللعنة على اليانكيين القذرين ! ..
كان بالكاد يجرجر قدميه وهو يغادر بوابة المعتقل ، وكان واضحا انهدامه الداخلي على وجهه الشاحب وشفتيه المرتجفتين ، يرافقه شعوره العميق بالخزي من الوجود البشري برمته ، وكم بدا له العالم عبارة عن برميل قمامة عفنة تضج بالصراصير والجرذان ، وخاويا من أي دفء إنساني قريب ..

ما أن دخل البيت حتى جهز لنفسه شايا وجرعه ساخنا ، ثم ولع سيجارة وأخذ ينفث الدخان بنهم ، وكان ضجيج العالم الخارجي يتصاعد صاخبا بضجيجه وقضيضه ، كأنما ليذكره بوجوده العدائي الشرس والفارغ ..

نهض ميشيما من مكانه و اقترب من المرآة و مسد شعره متطلعا إلى وجهه ، فبدا له شاحبا وممصوصا ومتيبسا وخاويا من نضارة الحياة ، و كأنه مجرد قناع لوجوه الموتى ..
فخاطب نفسه قائلا :
ــ حسنا يا يوكيو ميشيما لقد انتهى زمانك .. فلم هذا الإلحاح و إطالة الزمن بدون أي معنى ؟! ..

فسحب سيفه الساموراي من غمده وجلس على ركبتيه وأخذ يغرز نصله الحاد و الطويل باتجاه صرته وضمن عملية ” الهيراكيري ” ذات الصفة اليابانية القاسية للرحيل عن هذا العالم ! ..

مع كل ضربة غوص لنصل السيف في بطنه ، كان يشخر من فظاعة الألم كثور تحت قيد الذبح ، إذ كان عليه أن يسير بالسيف في بطنه عميقا ومن ثم يمينا و يسارا ، و بشق مستقيم ومتقاطع ، لتكتمل فروسية تلك الطقوس الرهيبة ..
ومع كل شخير ألم .. كانت عينيه تجحظ ووجهه يصفر أكثر و أكثر ، وقواه تخور .. لتخطفه غيبوبة عميقة مثلما تعقب بداية كل رحيل أبدي ..

وما أن مرت إلا لحظات قليلة على ارتطام جسده بالأرض ، حتى هبت ريح قوية عبر النافذة المفتوحة وبعثرت بعض الأوراق والقصاصات التي تركها هو فوق طاولة الكتابة ، و كانت إحداها قد انغرزت بذيلها في بركة الدماء المتدفقة من بطن يوكيو ميشيما ، وقد بدت و كأنها عبارة عن قصيدة لم تكتمل محتوية على بضعة أسطر تالية :

بعد هطول الثلج أعبر جسر ” توشكي ” لأعبر نصفي الآخر نحو أناي ..
حيث يضيء القمر الموحش آثار أقدامي المستعجلة ..
كما لو كنت ذئبا طريدا ..
من أين تأتي كل هذه الوحشة دفعة واحدة ؟ ..
كما لو أنها سيول مباغتة تقتحمك في دفء سريرك ! ..
وحيث أمضي بدون وجهة تُذكر أفكر :
من سيعتني بي يا أمي وأنت الآن مقيمة في وادي الموتى ..
لتحرسي عظام الأجداد الغابرين ؟ ..
بينما ابنك الطريد يضرب في تيه العالم كنبي منبوذ ..
ولكن مهما كان الأمر ..
فإنني سأموت ميتة شريفة تليق بأي ساموراي آخر ..
وشجاع يموت من أجل نقاوتنا المشرقة دوما ..
لتفتخري بي يا حارسة عظام أجدادي الغابرين ! ..
لتقولي : بفضل ابني ميشيما سأرفع جبيني عاليا ! ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here