محمد الصدر ، المُصْلح

صادق الحسناوي
ليس من العدل رثاء العظماء وطيِّ صفحتهم بالموت ، انهم عاشوا للبقاء ورحلوا ليؤكدوا خلودهم ، رحيلهم ليس موتاً ابدياً فليس الرحيل سوى موت الابدان وهذه الابدان سيكون الموت فيما بعد راحةً لها من متاعب ومشقة ماكابدته طيلة احتوائها لتلك الروح العظيمة ، والسيد محمد الصدر ( قدس الله تعالى نفسه الزكية) كان بدنه منه في تعب فقد استوعب مبكراً ان السعادة ليست (الفوز بالدرجات الحسية والوصول الى الرئاسات الخيالية ) كما يقول صدر المتألهين في مقدمة الحكمة المتعالية ، ومثل هذه السعادات العاجلة ليست سعادة على الاطلاق انما هي محض اوهام لمن ادرك ان عاقبة هذه الدنيا بوار والمجنون من يذعن لها ويسلمها قياده ليخسر البهجة الابدية والسعادة الخالدة ، ووفقاً لهذا المعيار قَهَرَ الشهيد الصدر بدنه واشغل نفسه بالعبادات القلبية والظاهرية فتحصّل على اسباب تزكية النفس وتطهيرها واذا طهرت النفس برزت ثمارها ونتائجها وفيوضاتها على المجتمع ونال من ذلك الفيض كل حسب استحقاقه وقابليته ! ولهذا فليس من العقل رثاء العظماء لان الرثاء للابدان ولمن تموت ارواحهم بموت ابدانهم ومانؤمن به بل مايوقن به كل مؤمن بالله ان الارواح لاتموت انما تنتقل الى عالم آخر من التكامل حسب استحقاقها وقابليتها ايضاً وهذا ديدن ارباب المعرفة والعاشقون لما وراء المحسوسات ، هذا شهيد العشق الالهي السهروردي يقول :

أَبداً تَحنُّ إِلَيكُمُ الأَرواحُ وَوِصالُكُم رَيحانُها وَالراحُ

وَقُلوبُ أَهلِ وِدادكم تَشتاقُكُم وَإِلى لَذيذ لقائكم تَرتاحُ

وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا ستر المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ

بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ

وَإِذا هُم كَتَموا تَحَدّث عَنهُم عِندَ الوشاةِ المَدمعُ السَفّاحُ

وَبَدَت شَواهِدُ للسّقامِ عَلَيهمُ فيها لِمُشكل أمّهم إِيضاحُ

فَإِلى لِقاكم نَفسهُ مُرتاحةٌ وَإِلى رِضاكُم طَرفه طَمّاحُ

عودوا بِنورِ الوَصلِ مِن غَسَق الدُّجى فَالهَجرُ لَيلٌ وَالوصالُ صَباحُ

صافاهُمُ فَصَفوا لَهُ فَقُلوبهم في نُورِها المِشكاةُ وَالمِصباحُ

وَتَمَتّعوا فَالوَقتُ طابَ لِقُربِكُم راقَ الشّراب وَرَقّتِ الأَقداحُ

يا صاحِ لَيسَ عَلى المُحبِّ مَلامَةٌ إِن لاحَ في أُفق الوِصالِ صَباحُ

لا ذَنبَ لِلعُشّاقِ إِن غَلَبَ الهَوى كِتمانَهُم فَنما الغَرامُ فَباحوا

سَمَحوا بِأَنفُسِهم وَما بَخِلوا بِها لَمّا دَروا أَنّ السَّماح رَباحُ

وَدعاهُمُ داعي الحَقائقِ دَعوة فَغَدوا بِها مُستَأنسين وَراحوا

رَكِبوا عَلى سنَنِ الوَفا وَدُموعهُم بَحرٌ وَشِدّة شَوقهم مَلّاحُ

وَاللَّهِ ما طَلَبوا الوُقوفَ بِبابِهِ حَتّى دعوا فَأَتاهُم المفتاحُ

لا يَطربونَ بِغَيرِ ذِكر حَبيبِهم أَبَداً فَكُلُّ زَمانِهم أَفراحُ

حَضَروا وَقَد غابَت شَواهِدُ ذاتِهم فَتَهَتّكوا لَمّا رَأوه وَصاحوا

أَفناهُم عَنهُم وَقَد كشفَت لَهُم حجبُ البقا فَتَلاشتِ الأَرواحُ

فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ

قُم يا نَديم إِلى المدامِ فَهاتها في كَأسِها قَد دارَتِ الأَقداحُ

مِن كَرمِ أَكرام بدنّ ديانَةٍ لا خَمرَة قَد داسَها الفَلّاحُ

هيَ خَمرةُ الحُبِّ القَديمِ وَمُنتَهى غَرض النَديم فَنعم ذاكَ الراحُ

وَكَذاكَ نوحٌ في السَّفينة أَسكَرَت وَلَهُ بِذَلِكَ رَنَّةً وَنِياحُ

وَصَبَت إِلى مَلَكوتِهِ الأَرواحُ وَإِلى لِقاءِ سِواه ما يَرتاحُ

وَكَأَنَّما أَجسامهُم وَقُلوبهُم في ضَوئِها المِشكاةُ وَالمِصباحُ

مَن باحَ بَينَهُم بِذِكرِ حَبيبِهِ دَمهُ حلالٌ لِلسّيوفِ مُباحُ

وبعيداً عن الغوص فيما يرمي اليه السهروردي وعود على بدء ،فقد تجاوز السيد الشهيد ( قدس سره) هموم العابد المنشغل بخلاص نفسه وسار نحو ساحة اشتغال (العابد المنشغل بانقاذ مجتمعه واصلاحه) متجاوزاً هم الفرد الى هموم الامة بحسب مسؤوليته الشرعية ورسالته الاخلاقية وعلى العالم العارف تكليف رسم حدوده سيد الوصيين عليه السلام عندما قال( ولو لا ما اخذ الله على العلماء الاّ يقاروا على كظة ظالم وسغب مظلوم لالقيت حبلها على غاربها ولسقيت اخرها بكأس اولها ولالفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز )! وماقيمة العنز حتى تكون لعفطته قيمة ؟؟؟!! ولاجل ما القاه الله عزلوجل على العالِم تصدى الشهيد الصدر قدس سره لاصلاح المجتمع تاركاً لمن يبصر ويدقق ان يتلمس الدرب ليكتشف الفرق الكبير والبون الشاسع بين العالم الصالح والعالم المصلح ففي وجود الثاني حياة الامة وغيابه وان كان يحقق له السعادة لكنه يترك فراغاً وثلمة لاتسد بالصالحين مهما تكاثروا فلابد من مصلح يقود الصالحين

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here