تظاهرات الجنوب والوسط ……العراقيون ليسوا سياسيين بالمعنى السائد والعام للسياسة.

احمد العلي.

العراقيون ليسوا سياسيين بالمعنى العام والسائد للسياسة التي تعني العمل على الوصول للسلطة سواء كان هذا بالعنف عن طريق الانقلاب العسكري أو سلميا عن طريق التبادل السلمي للسلطة. العراقيون في عهود الاحتلال الأجنبي التي جاءت بعد نهاية الخلافة العباسية في 656ه/1258م، حين سقطت بغداد في أيدي المغول وتوالي احتلالها من قبل البويهيين والتركمان والسلاجقة والأتراك والفرس والبريطانيين عام 1917م في الحرب العالمية الأولى، صاروا، بسبب الظلم الذي لحق بهم في تلك العهود الظالمة والمظلمة، ناسا مسالمين ومطيعين و(مكفوخين) على رؤوسهم، ولا زالوا (مكفوخين) على رؤوسهم حتى اليوم، رغم الحرية التي مُنِحتْ لهم بعد سقوط النظام السابق في نيسان 2003. العراقيون اليوم يتحدثون في السياسة ويتناقشون ويتجادلون ويتنازعون فيما بينهم، وينتقدون ويشتمون ويسبون ويهاجمون الحكومة والقائمين عليها، ويخرجون في تظاهرات شبه يوميه ويعتصمون، ويخربون ويهاجمون الأملاك العامة والخاصة، هاتفين، محتجين ومنددين علنا، لا خائفين ولا وجلين ولا حتى متحفظين، وهذا بسبب مساحة الحرية والديمقراطية الواسعة التي تسببت بها هذه الإنتقالة غير المنطقية ولا الموضوعية ولا المعقولة من أقصى الدكتاتورية إلى أقصى الديمقراطية ومن أقصى العبودية إلى أقصى الحرية التي حدثت يو 9 نيسان 2003، وبسبب أنهم عرفوا أن الدستور العراقي الجديد كفل لهم حقهم في الحياة الحرة والعيش الكريم. ولكن، إذا خطر في بالك أن تسأل عن انتماءات هؤلاء العراقيين السياسية تجد أن غالبيتهم لا ينتمون إلى أي حزب سياسي أو كتلة سياسية، رغم أن أحاديثهم مع بعضهم ونشاطاتهم ضد الحكومة تبدو سياسية وهي غير سياسية! العراقيون سياسيون بمعنى حاجتهم إلى الحياة الإنسانية الكريمة؛ توفير وتحسين الخدمات الأساسية للعيش، توفير فرص العمل، توفير الأمن والاستقرار، تحقيق العدالة الاجتماعية. العراقيون سياسيون بهذا المعنى وليس سياسيين بمعنى سعيهم للوصول إلى السلطة والحصول على الحكم. الدليل على ذلك هذه التظاهرات التي تعم أغلب المحافظات العراقية اليوم، فأنت لا تستطيع أن تجد بين هؤلاء المتظاهرين من يقودهم وينظم صفوفهم ويتحدث بالنيابة عنهم، مطالبا بحقوقهم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والصحية….السعي إلى السلطة لدى العراقيين هو دائما طمع فئة صغيرة من السياسيين المدنيين أو العسكريين أو الاثنين معا المغامرين الحالمين في الاستيلاء على الحكم، وهم يدعون أنهم يسعون من أجل تخليص الشعب من الظلم والدكتاتورية سواء كان هذا الحكم مقبولا من قبل الشعب أو مرفوضا. فهذه الفئة الطامعة في الحكم لا يهمها أن يكون الحكم الذي تريد أن تحل محله دكتاتوريا أو ديمقراطيا، المهم إنها تريد أن تنتزع السلطة وتستولي على الحكم! لذلك لم نر على امتداد العهود السياسية التي بدأت بالحكم الوطني عام 1922، العراقيين يقومون بثورة شعبية لتغيير نظام سياسي ظالم أو دكتاتوري لا في العهد الملكي ولا في العهود الدكتاتورية التي جاءت بعده والتي كانت أساسا تكمم الأفواه وتلقي بالعراقيين في السجون أو تعدمهم أو تشردهم أو تغيبهم لأقل تحرك أو حتى كلام عابر ضد السلطة الدكتاتورية. كلها كانت انقلابات عسكرية غايتها السيطرة على السلطة. حتى التغيير الذي حدث في 14 تموز 1958 لم يكن ثورة بالمعنى الحقيقي للثورة الشعبية غير المسلحة، بل كان انقلابا عسكريا تحول إلى انتفاضة شعبية بتأييد شعبي كبير وخروج الى الشوارع بالآلاف استجابة لبيان الانقلاب العسكري الأول. ولكن لم تمض سوى شهور قليلة حتى احتدم الصراع الدموي بين القوى الوطنية من جانب والقوى البعثية والقومية من جانب آخر، وأدى الصراع بين الطرفين إلى الانتقام والانتقام المضاد وإراقة دماء متبادلة انتهت بانكسار انقلاب 14 تموز/1958 الثوري وحدوث انقلاب عسكري خالص في 8 شباط/1963. ……

واليوم نرى التظاهرات تجتاح أغلب المحافظات العراقية الجنوبية مع لهيب الحر ونقص الكهرباء وشحة الماء وانتشار البطالة واستشراء الفساد وإهمال الحكومة واستخفافها بمعاناة الناس وعذاباتهم على مدى السنوات الـــ 15 الماضية في الوقت نفسه الذي تكثر فيه الاجتماعات واللقاءات اليومية بين الأحزاب والكتل السياسية المتنفذة تحضيرا لتشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات الأخيرة التي كثر فيها التزوير والتلاعب والتي يسعى الكثير من السياسيين في الحكومة الحالية للبقاء في الحكومة الجديدة …..

…… هذه التظاهرات السلمية اليوم التي يفسدها المخربون المندسون من بعثيين وغيرهم بين المتظاهرين ويفسدها بعض الشباب المنفلتين والصبية الصغار المغرر بهم المشتركين فيها باقتحامهم المؤسسات والدوائر الحكومية وتخريبها والعبث بها ومهاجمتهم أماكن الحقول النفطية ….. لن تؤتي بنفع وفائدة على المتظاهرين السلميين الذين لا يهدفون بتظاهراتهم السلمية سوى تحقيق مطالبهم في العيش الكريم والإنساني. …..

نقول مرة أخرى، العراقيون ليسوا سياسيين يسعون إلى السلطة والحكم حين يتحدثون في السياسة وحين يتظاهرون. أنهم يتحدثون في السياسة ويتظاهرون يريدون ان يعيشوا حياة إنسانية كريمة وآمنة؛ توفير وتحسين الخدمات الأساسية للعيش، توفير فرص العمل للعاطلين، توفير الأمان والاستقرار، تحقيق العدالة الاجتماعية ……. إما إسقاط الحكومة فهذا ليس من شأنهم ولا غايتهم، هذه غاية وهدف الطامعين في الحكم الذين يدفعون بالمأجورين والمرتزقة ليندسوا بين المتظاهرين ليخربوا ويحرقوا الأملاك العامة والخاصة ويثيروا الفوضى في البلد لعلهم يحققوا ما يريدون في الإستيلاء على الحكم. فإذا أصر حكام العراق اليوم وفي مقدمتهم الحكام الشيعة على عدم أخذ هذه التظاهرات التي تعم أغلب المحافظات الجنوبية مأخذ الجد وتجاهلوا مطالب العراقيين وسوفوا في تحقيق مطالبهم معتمدين على من يحميهم من الدول الأجنبية التي تؤيد بقاءهم في الحكم خدمة لمصالحها ومنافعها، أو متسلحا بعضهم بجنسيته الأجنبية تحسبا ليوم الحساب …. فإن الحرب الأهلية والفوضى ربما ستعم العراق عامة وجنوبه خاصة، ويكون العراق والعراقيون حينها في قبضة المجهول!

بغداد في 17 تموز/2018

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here