هل يتعلم حكام العراق من تجارب الماضي المريرة مع المستبدين؟

كاظم حبيب

من يتصفح تاريخ العراق المديد، دع عنك من يدرسه بعناية، سيدرك بجلاء وجود ظاهرة سلوكية مشتركة تبرز في تجنب حكام العراق، وجلهم عتاة، التعلم والاستفادة من دروس الماضي ومن الحكام الذين سبقوهم في الحكم والعواقب الوخيمة التي نشأت بفعل سياسات الاستبداد والهيمنة وسلب حرية وحقوق الشعب الأساسية وتجويعه. لم يتعلموا، وغير مستعدين على التعلم، من دروس الهبَّات والوثبات والانتفاضات والثورات الشعبية على النظم التي أرادت تركيع الشعب وسلب حريته وقوته. كما لم يتذكروا، ولا يسمعون لمن يريد تذكيرهم، بأن “الحكم لو دام لغيركم ما وصل إليكم”، وإن “الظلم إن دام دمر”. وهذه الظاهرة السلوكية هي نتيجة لتفاعل عوامل اجتماعية ونفسية وتاريخية، خاصة بالأفراد وعامة بالمجتمع، إنها نتيجة لوجود وفعل علاقات إنتاج استغلالية متخلفة سائدة في العراق، ومن افرازات البنى الفوقية الناشئة عنها ومن بنية المجتمع الطبقية المشوهة، وكذلك من التركة الثقيلة لمئات السنين والمستوى المتدني للوعي الفردي والجمعي في المجتمع العراقي، إضافة إلى الخصائص الفردية التي تبرز عند المستبدين أنفسهم ودور وعاظ السلاطين المرتزقة والحاشية المفسدة والفاسدة في تنشيط عملية تحول الحاكم صوب السلوك الاستبدادي وقهر المجتمع باسم الدفاع عن المجتمع!
يتصور الحكام المستبدون إن المجتمع ليس سوى قطيع من الماشية يمكن السيطرة عليه والتحكم به وفرض الخضوع عليه. وهذا التصور لم يكن بعيداً عن الواقع في فترات معينة، إذ بدا لهم وكأن هذا التصور صحيح تماماً لطول فترات الظلم والسكوت عنه. ولكن ما أن يشتد الاضطهاد والجور والبؤس والحرمان والجوع حتى يتصاعد الغضب تدريجاً ويغلي كما يغلي الماء حين تصل درجة حرارته إلى 100 درجة، عندها يتفجر الغضب. حين تنضج الحالة الثورية، حين يرفض الشعب المظلوم العيش في ظل وهيمنة وجور الحاكم وحرمانه من الحقوق والعيش الكريم، وحين يعجز الحاكم عن فرض قوانينه التي أصدرها وهيمنته على المجتمع، ومع ذلك يرفض تغيير الأوضاع التي دفعت بالبلاد إلى الحالة الثورية، أي حين تلتقي الظروف الذاتية وتتفاعل مع الظروف الموضوعية، عندها لا يمكن كبح جماح وثبة الشعب أو انتفاضته أو حتى ثورته، وربما تكون سلمية أو عنيفة، إنه شكل من أشكال قانون تحول الكم إلى كيف. ومن يقرر سلمية أو عنف الاحتجاج والوثبة أو الثورة هو الحاكم وأجهزته على وفق الطريقة التي تعاملون بها مع الأحداث.
لقد طالب الشعب العراقي بالإصلاح والتغيير منذ السنوات الأولى ورفض المحاصصة الطائفية واحتج على شق وحدة الصف الوطني والنسيج الاجتماعي نتيجة ممارسة سياسية مناهضة لأتباع الديانات الأخرى والسياسية الطائفية المتصارعة والسياسة القومية الشوفينية. ولكن غاص الحكم في مستنقع الطائفية والعداء لأتباع الديانات الأخرى ورفض أي إصلاح أو تغيير لحالة الفساد السائدة والتصدي الصارم للإرهاب القاتل للبشر والمدمر للبنية التحتية والمعطل لعملية التنمية. فكان أن وجه المستبد بأمره حاكم العراق بين 2006-2014 نار غضبه ضد المدنيين الديمقراطيين وضد من يطالب بالإصلاح في العام 2011 على وجه الخصوص وضرب المطالبين بالتغيير، فسمح ببروز أكبر وأشد لتيارين متصارعين هما التطرف الإسلامي السني المتمثل بالقاعدة وداعش وبناتها وأخواتها وكل ما أسسته ودعمته السعودية وقطر وبعض دول الخليج من جهة، وبالتطرف الشيعي المتمثل بالميليشيات الشيعية المسلحة من أمثال بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله وكل ما أسسته إيران وحزب الله في لبنان بالعراق من جهة ثانية. فكان الصراع والموت والدمار ومن ثم الاجتياح للموصل ونينوى، وقبل ذاك صلاح الدين والأنبار وديالى وبعض مناطق كركوك مثل الحويجة…الخ.
إن النظام السياسي الطائفي في العراق هو الحاضن الرئيسي لثلاث ظواهر مدمرة هي: 1) تمزيق وحدة الشعب، 2) نشر الفساد على أوسع نطاق في الدولة وسلطاتها الثلاث والمجتمع، 3) ونشر الإرهاب الدموي والخراب العام. وهي الحالة التي سادت العراق منذ العام 2004/2005 حتى الوقت الحاضر، وكانت ولا تزال قيادة السلطة بيد حزب الدعوة الإسلامية وبقية الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية وبدعم من المرجعيات الشيعية وبمشاركة القوى والأحزاب السنية وبعض الأحزاب الكردية بصورة هامشية، ولكنها كلها سعت لفترة طويلة منح الحكم الشرعية الرسمية في حين لا يمتلك الشرعية الدستورية، إذ أن النظام القائم ضد الدستور الذي يرفض الطائفية ووجود أحزاب إسلامية سياسية تقود البلاد نحو الهاوية.
لقد مرَّغت النخب الحاكمة كلها دون استثناء جبين الشعب بالتراب، ودفعت بالبلاد إلى مستنقع نتن من الثلاثي السابق، الطائفية والفساد والإرهاب، وكانت الحصيلة: جوع وحرمان وغياب خدمات وفقر وبطالة وتفريط إجرامي بأموال الشعب وسرقتها جهارا نهارا، فصالَ الردى بالشعب جهارا نهارا، على حد قول الشاعر صفي الدين الحلي (صالَ فينا الرّدى جهاراً نهارا … فكأنّ المنونَ تطلبُ ثارَا).
إن هذه الأوضاع قد دفعت حتى بأولئك الناس الطيبين الذين أيدوا نظام الحكم الطائفي من منطلق ديني -طائفي بدأوا ينقلبون عليه لأنهم يعيشون المأساة والمهزلة مع هذا الحكم البائس والجائر بأنفسهم.
هذا هو الواقع، وغيره كثير، هو السبب وراء انتفاضة أبناء وبنات جنوب العراق ووسطه، وبضمنهما بغداد، على هذا الواقع المرّ والجنوني. وسيلتحق بهم بنات وأبناء المحافظات الأخرى التي لا تزال تعاني من مرارة النزوح والتهجير القسري والعيش في خيام لا عيش أدمي فيها. إن المتظاهرين السلميين يطالبون بحقوقهم، وهم يتجنبون أولئك الذين يسعون إلى تخريب المظاهرات للسماح بضربهم، بعضهم قادم من وراء الحدود وبعضهم يتحرك بأوامر من وراء الحدود، وبعضهم ممن يشارك منذ العام 2004/2005 بحكم البلاد وينافس الحاكم الراهن العاجز عن تحقيق ما وعد به الشعب من محاربة الفساد والإرهاب والبطالة والفقر وفشل في ذلك!!!
للمظاهرات أسباب لا يمكن أن تنتهي حتى وأن قمعتموها اليوم فستنهض غداً وهلمجرا، تماما كما قمعت عام 2011 وانطلقت عام 2016 مرة أخرى لتتواصل حتى اليوم بحراك مدني ديمقراطي سليم ومؤثر. كوني على ثقة أيتها النخب الحاكمة في العراق بأن حكماً طائفيا في بلد تعدد القوميات والديانات والمذاهب لن يستقيم ابداً ولن يعيش طويلاً حتى باستخدام القمع والإرهاب والإفساد والقتل والاعتقال. والشعب في طريقه إلى وعي أفضل للواقع وللقوى والأحزاب التي حكمته طيلة السنوات المنصرمة وأذاقته شتى المآسي وعرضته لشتى المهازل، وسيرفض العيش في ظلها وتحت وطأتها!!!
إن طريق خلاص العراق من مستنقع العفونة الراهن يتم عبر الخلاص من الثلاثي الأخطر، من الطائفية ومحاصصاتها في الحكم والمجتمع، ومن الفساد السائد والفاسدين الكبار أولاً وقبل كل شيء، ومن الإرهاب الدموي المتواصل بكل أشكاله، إضافة إلى وضع حد لتدخل الجوار العراقي والدولي في الشأن العراقي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here