لغتنا العربية ومدى تأثرها بالبيئة !

(*) د. رضا العطار

في مقال نشره الأديب احمد امين في مجلة (الثقافة) اشار فيه الى ان الكلمات تتغير معانيها بتغير البيئة والزمن. حاء فيه :
ان اللغة تؤدي معانيها في دقة واحكام من مواد العلوم، كالرياضة والطبيعة والكيمياء. ومصطلحاتها مضبوطة. قل ان يعتريها غموض او ابهام. وقريب من ذلك، التاريخ. فاللغة قادرة على أداء معانيه وحمل رسالته أدا حسنا، وان لم تبلغ في ذلك مبلغ العلم. فإذا نحن جاوزنا ذلك الى الفلسفة والادب، راينا اللغة عاجزة عن أداء المعاني في وضوح وضبط واحكام، حتى المصطلحات. من الصعب تعريفها وضبطها.

فما اصعب ان تُعرّف (الوجود) و (الحقيقة) و (ما وراء الطبيعة) وما الى ذلك.
واما اصعب ما تُعرّف (الشعر) و (الادب) و (الخيال) ونحوها. وكذلك في فروع الفلسفة والادب، فمن الصعب تعريف (الجمال والجميل) و (الفضيلة والرذيلة) و
(الزمان والمكان) و (العدل والحرية) ومن العسير تعريف (القصة والرواية والمثل)
وما اكثر ما يقع الناس في الجدل والحجاج. لان كلا يتكلم وفي ذهنه معنى للشيء، غير ما عند الاخر. ولو اتفقوا على التحديد، لاتفقوا على النتائج.

ولا ننسى الحادث الذي جرى بين الحكومة العراقية والحكومة المصرية في زمان ما، حين ارادت الاولى التعاقد مع الثانية بخصوص المراسلة وتبادل الخطابات، فكان الاتفاق مستحيلا، لان كلتا الحكومتين كان لها معنى خاص في مصطلحاتها لا تفهمه الاخرى.
ولم يتم الاتفاق حتى تمت المشافهة والاتفاق على معاني المصطلحات.

استمعت الى محاضرة لاستاذ عراقي في التربية، اثار جدلا حول الموضوع.
تبين ان سببه الاختلاف في المصطلحات. فهم يطلقون اسم (المدارس الداخلية) على غير ما نطلق. ويسمون (التوقيعات) بالترقيات، ويسمون (مدارس الحضانة) ما نسميه نحن المصريين برياض الاطفال. وهكذا.

فمن اسباب وقوع الناس في الخطأ اللغوي، عدم دقتهم في الاستنتاج. فهناك عقول تستنتج من الجملة اكثر مما يلزم، وهناك عقول تستنتج منها اقل مما بلزم، وكلاهما خطأ.
فاذا قلت (ان الغول مرعب) استنتجت منه اني اقول (ان الغول موجود) فقد اخطأت واستنتجت اكثر مما يلزم، لان الوهم قد يرعب ولو لم يكن الشيء موجودا. واذا حدثتك عن فرس بانه اشهب، فاستنتجت اني اقول انه موجود، كان استنتاجنا صحيحا. ومن الناس من لا يفرق بين القضيتين. فدلالة الالفاظ على المعاني تختلف جد الاختلاف بين الاشخاص، حسب ثقافتهم وعقليتهم، فاذا قلت (كرسي) لم يكن معناه عند الفلاح القروي كمعناه عند المدني المتحضر، وكذلك الشأن في بيت و دولاب وسرير. واذا قلت :
(علم الحساب) فمفهومها عند الصانع البسيط ليس كالمعنى الذي يفهمه العالم بالرياضيات. وهكذا – – هذا ما يجعل الناس اذا اختلفت ثقافاتهم، لا يتفاهمون تفاهما صحيحا.

ولا تصدق ان معاجم اللغة تستطيع ان تشرح دلالة الالفاظ شرحا كافيا، فلكل كلمة هالة غير معناها الاصلي، يعجز المعجم عن شرحها – – فدنيا الاطفال التي تعين على شرح الالفاظ، غير دنيا الرجال، ودنيا الفلاح غير دنيا المتمدن، وجنيا الجاهل غير جنيا العالم. فكل يفسر الالفاظ حسب دنياه.
ان كل لفظ من الفاظ اللغة يوحي باشياء تختلف باختلاف الاشخاص حسب بيئتهم.
فكلمة ابيض توحي الى الفلاح باللبن، وقد توحي للطفل بالسكر، وقد توحي الى الاسكيمو بالثلج، وكلمة وزير عندنا تقابله كلمة سكرتير في امريكا، وكلمة العيد توحي الى الاطفال الهدايا و الثياب الجديدة والاراجيح، وعند الرجال بالزيارات والتهنئات الخ
بل قد يكون اللفظ يوحي بمعنى عند الناس في عصر لارتباطه بحاد ثة معينة، فاذا نسيت الحادث انقطع وحي اللفظ. فمنذ سنين طويلة كانت كلمة (تعديل الاسلاس) و
(ردم البرك) تستثير منا الضحك، لايحائها بمعان خاصة، فلما زال الايحاء، زال التأثير.

يخطئ من يظن ان وظيفة اللغة تؤدي غرضا واحدا. وهو نقل المعنى من ذهن الى ذهن.
فها اعراض اخرى كثيرة يصعب حصرها، ومن اعجب اغراضها انها تستعمل لتخدير الاعصاب، كتمرينات السحرة في استعمال الفاظ، ليس لها معنى.
وكذلك معظم الكهان الذين لا يقصدون افهام الناس بقدر ما يقصدون تخدير عقولهم، واحيانا يقصد بالالفاظ مجرد ما توحيه من نغمات موسيقية، لها اثرها النفسي، كأثر الموسيقى. ولذلك لم تكن تخلو الادعية الدينية، اذا تليت في المعابد بلغة خاصة من اثر بالغ في النفوس. لان الالفاظ توحي بالحان ومعاني سحرية موسيقية. لم تفهم معانيها الاصلية – – وهذه لغة الانسان الاول. كانت صيحات متشابهة اللفظ . يدل بعضها على الخوف، و طلب النجدة، واحيانا التحذير من خطر. فدلالتها كانت تختلف باختلاف موسيقاها.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للعلامة سلامه موسى.

(*) د. رضا العطار

في مقال نشره الأديب احمد امين في مجلة (الثقافة) اشار فيه الى ان الكلمات تتغير معانيها بتغير البيئة والزمن. حاء فيه :
ان اللغة تؤدي معانيها في دقة واحكام من مواد العلوم، كالرياضة والطبيعة والكيمياء. ومصطلحاتها مضبوطة. قل ان يعتريها غموض او ابهام. وقريب من ذلك، التاريخ. فاللغة قادرة على أداء معانيه وحمل رسالته أدا حسنا، وان لم تبلغ في ذلك مبلغ العلم. فإذا نحن جاوزنا ذلك الى الفلسفة والادب، راينا اللغة عاجزة عن أداء المعاني في وضوح وضبط واحكام، حتى المصطلحات. من الصعب تعريفها وضبطها.

فما اصعب ان تُعرّف (الوجود) و (الحقيقة) و (ما وراء الطبيعة) وما الى ذلك.
واما اصعب ما تُعرّف (الشعر) و (الادب) و (الخيال) ونحوها. وكذلك في فروع الفلسفة والادب، فمن الصعب تعريف (الجمال والجميل) و (الفضيلة والرذيلة) و
(الزمان والمكان) و (العدل والحرية) ومن العسير تعريف (القصة والرواية والمثل)
وما اكثر ما يقع الناس في الجدل والحجاج. لان كلا يتكلم وفي ذهنه معنى للشيء، غير ما عند الاخر. ولو اتفقوا على التحديد، لاتفقوا على النتائج.

ولا ننسى الحادث الذي جرى بين الحكومة العراقية والحكومة المصرية في زمان ما، حين ارادت الاولى التعاقد مع الثانية بخصوص المراسلة وتبادل الخطابات، فكان الاتفاق مستحيلا، لان كلتا الحكومتين كان لها معنى خاص في مصطلحاتها لا تفهمه الاخرى.
ولم يتم الاتفاق حتى تمت المشافهة والاتفاق على معاني المصطلحات.

استمعت الى محاضرة لاستاذ عراقي في التربية، اثار جدلا حول الموضوع.
تبين ان سببه الاختلاف في المصطلحات. فهم يطلقون اسم (المدارس الداخلية) على غير ما نطلق. ويسمون (التوقيعات) بالترقيات، ويسمون (مدارس الحضانة) ما نسميه نحن المصريين برياض الاطفال. وهكذا.

فمن اسباب وقوع الناس في الخطأ اللغوي، عدم دقتهم في الاستنتاج. فهناك عقول تستنتج من الجملة اكثر مما يلزم، وهناك عقول تستنتج منها اقل مما بلزم، وكلاهما خطأ.
فاذا قلت (ان الغول مرعب) استنتجت منه اني اقول (ان الغول موجود) فقد اخطأت واستنتجت اكثر مما يلزم، لان الوهم قد يرعب ولو لم يكن الشيء موجودا. واذا حدثتك عن فرس بانه اشهب، فاستنتجت اني اقول انه موجود، كان استنتاجنا صحيحا. ومن الناس من لا يفرق بين القضيتين. فدلالة الالفاظ على المعاني تختلف جد الاختلاف بين الاشخاص، حسب ثقافتهم وعقليتهم، فاذا قلت (كرسي) لم يكن معناه عند الفلاح القروي كمعناه عند المدني المتحضر، وكذلك الشأن في بيت و دولاب وسرير. واذا قلت :
(علم الحساب) فمفهومها عند الصانع البسيط ليس كالمعنى الذي يفهمه العالم بالرياضيات. وهكذا – – هذا ما يجعل الناس اذا اختلفت ثقافاتهم، لا يتفاهمون تفاهما صحيحا.

ولا تصدق ان معاجم اللغة تستطيع ان تشرح دلالة الالفاظ شرحا كافيا، فلكل كلمة هالة غير معناها الاصلي، يعجز المعجم عن شرحها – – فدنيا الاطفال التي تعين على شرح الالفاظ، غير دنيا الرجال، ودنيا الفلاح غير دنيا المتمدن، وجنيا الجاهل غير جنيا العالم. فكل يفسر الالفاظ حسب دنياه.
ان كل لفظ من الفاظ اللغة يوحي باشياء تختلف باختلاف الاشخاص حسب بيئتهم.
فكلمة ابيض توحي الى الفلاح باللبن، وقد توحي للطفل بالسكر، وقد توحي الى الاسكيمو بالثلج، وكلمة وزير عندنا تقابله كلمة سكرتير في امريكا، وكلمة العيد توحي الى الاطفال الهدايا و الثياب الجديدة والاراجيح، وعند الرجال بالزيارات والتهنئات الخ
بل قد يكون اللفظ يوحي بمعنى عند الناس في عصر لارتباطه بحاد ثة معينة، فاذا نسيت الحادث انقطع وحي اللفظ. فمنذ سنين طويلة كانت كلمة (تعديل الاسلاس) و
(ردم البرك) تستثير منا الضحك، لايحائها بمعان خاصة، فلما زال الايحاء، زال التأثير.

يخطئ من يظن ان وظيفة اللغة تؤدي غرضا واحدا. وهو نقل المعنى من ذهن الى ذهن.
فها اعراض اخرى كثيرة يصعب حصرها، ومن اعجب اغراضها انها تستعمل لتخدير الاعصاب، كتمرينات السحرة في استعمال الفاظ، ليس لها معنى.
وكذلك معظم الكهان الذين لا يقصدون افهام الناس بقدر ما يقصدون تخدير عقولهم، واحيانا يقصد بالالفاظ مجرد ما توحيه من نغمات موسيقية، لها اثرها النفسي، كأثر الموسيقى. ولذلك لم تكن تخلو الادعية الدينية، اذا تليت في المعابد بلغة خاصة من اثر بالغ في النفوس. لان الالفاظ توحي بالحان ومعاني سحرية موسيقية. لم تفهم معانيها الاصلية – – وهذه لغة الانسان الاول. كانت صيحات متشابهة اللفظ . يدل بعضها على الخوف، و طلب النجدة، واحيانا التحذير من خطر. فدلالتها كانت تختلف باختلاف موسيقاها.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للعلامة سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here