ديمقراطية البدع وآخرها بدعة “الكتل الفائزة”!

ساهر عريبي

[email protected]

لعل أهم ما يميز العملية الديمقراطية الجارية في العراق اليوم هي أنها أثرت تاريخ الممارسات الديمقراطية في العالم بالمزيد من البدع التي لم تعهدها الأنظمة الديمقراطية من قبل! حتى بات يمكن إطلاق مصطلح “ديمقراطية البدع” كخير وصف للممارسة الديمقراطية الجارية في العراق.

فلقد حفلت تلك العملية الديمقراطية بالعديد من البدع التي أتحفت القاموس السياسي وكانت اولاها هي تفسير المحكمة الإتحادية الشاذ للمادة المتعلقة بالكتلة الفائزة بالإنتخابات , فقد جرت العادة في جميع الدول الديمقراطية على أن يتولى الفائز في الانتخابات تشكيل الحكومة, فإن كانت لديه أغلبية برلمانية فيشكل الحكومة لوحده وبغير ذلك فيمنح فرصة لتشكيل التحالف الأكبر وبغير ذلك فإن من يليه هو الذي يكلف بتشكيل الحكومة الجديدة. لكن المحكمة الإتحادية واستجابة لرغبات السلطة التنفيذية التي صدمت بخسارتها للإنتخابات في العام 2010 , قدمت تفسيرا شاذا لمفهوم الكتلة التي تشكل الحكومة, قطعا للطريق أمام الفائز في الانتخابات حينها لإعلان الحكومة.

ولابد من الإشارة هنا الى ان بعض الدول الديمقراطية يسمح فيها للحزب الفائز بتشكيل الحكومة مراعاة لمصالح البلد وإن لم يمتلك الأغلبية البرلمانية او التحالف الأكبر في البرلمان, وخير مثال على ذلك هي الحكومة الإشتراكية الحالية في السويد برئاسة زعيم الحزب الإشتراكي ستيفان ليفين, فهذه الحكومة تسمى حكومة أقلية لأنها لا تمتلك الأغلبية في البرلمان فعدد ممثلي الحزب الإشتراكي في البرلمان يبلغ 113 من مجموع 349 مقعد , أي مايعادل ثلث مقاعد البرلمان! وهو وبالرغم من تحالفه مع حزبي اليسار والخضر فإن هذا التكتل يبلغ تعداد أعضاءه اليوم 159 عضوا أي أقل من الحد الأدنى المطلوب للأغلبية البرلمانية البالغ 175 , لكن هذه الحكومة تدير شؤون البلاد منذ العام 2014 وستنتهي ولايتها في شهر سبتمبر المقبل.

ومن اللافت أن حزب اليسار وبالرغم من دعمه للحكومة الا انه لا وزير له فيها! فدعم الحزب للحكومة ليس من أجل المناصب ولكن لتنفيذ البرنامج الحكومي. كما وان الأحزاب الأخرى الممثلة في البرلمان وهي أحزاب اليمين التي يقودها حزب المحافظين وحزب السويديين الديمقراطيين قادرة على تشكيل تحالف برلماني كبير يطيح بالحكومة الحالية ويشكل حكومة جديدة, لكن أحزاب اليمين التي تختلف في توجهاتها الفكرية عن حزب الديمقراطيين العنصري, فإنها ترفض التحالف مع هذا الحزب لتشكيل الأغلبية البرلمانية وتفضل الجلوس على مقاعد المعارضة بدلا من التضحية بمبادءها.

وكانت البدعة الثانية هي التي ابتدعها مجلس النواب العراقي فهي بدعة الإنعقاد بعد إنتهاء الانتخابات لتقرر الأغلبية الخاسرة فيه الطعن في نتائج الانتخابات وإلغاء بعضها والسعي لتمديد عمر البرلمان الخاسر , في سابقة لامثيل لها في تاريخ الأنظمة الديمقراطية! فقد فسر أعضاء البرلمان أن خسارتهم تعتبر وضعا استثنائيا يتطلب إنعقاد البرلمان الذي كان في عطله بعد ان سوقت وسائل اعلامهم لأكذوبة تزوير الانتخابات والطعن بالمفوضية التي انتخبوا أعضاءها بأنفسهم! لم يجتمع هؤلاء لبحث أزمات العراق كالكهرباء مثلا أو قطع المياه أو البطالة فتلك أمور عادية لا تستحق جلسة استثنائية لكن كراسيهم المهترئة هي التي تستحق هذا الإستنفار.

وأما آخر بدعة فكانت مايعرف ب”الكتل الفائزة”وهو مصطلح يجري تداوله حاليا لوصف الكتل التي حصلت على مقاعد في البرلمان , إذ توصف بانها كتل فائزة يجب تمثيلها في الحكومة!! وهذه بدعة ما بعدها بدعهّ ففي كل انتخابات هناك فائز في الانتخابات وأما الباقون فخاسرون , وهذا الفائز إن كان يملك الأغلبية فيشكل الحكومة وإن لم يبلغها فيتحالف مع الكتل الأخرى الممثلة في البرلمان ممن تنسجم مع مبادئه ومع برنامجه الحكومي. وعادة ما تفرز الانتخابات في الغرب كتلة اشتراكية تدافع عن مصالح الطبقة العاملة في المقام الأول وأخرى محافظة تدافع عن مصالح أصحاب رؤوس الأموال في المقام الأول. واما في الدول العربية فإن الدول التي تجري فيها انتخابات حقيقية مثل التنافس فإن التنافس ينحصر بين الأحزاب الإسلامية والعلمانية.

أفرزت الانتخابات النيابية التي جرت في العراق طيفا واسعا من الأحزاب والإئتلافات التي يشترك بعضها بكونه إسلامي وآخر بكونه قومي أو طائفي وهكذا. لكن جميع هذه الأحزاب تطرح مفهوم الكتل الفائزة سعيا لضمان تمثيلها في الحكومة بالرغم من هذه الإختلافات التي تمايز بعضها عن الآخر! ويبدو أن من يطرح مشروع تمثيل الجميع في الحكومة يعتبر أن هناك قاسما مشتركا كبيرا يجمع بين تلك الكتل ألا وهو تقاسم السلطة والإمتيازات! وأما نتيجة مثل هذا الطرح فهي تشكيل تحالف للفاسدين عابر للقوميات والمذاهب والأديان والآيديولوجيات, يحثم على صدور العراقيين لأربع سنوات أخر.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here

By continuing to use the site, you agree to the use of cookies. more information

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

Close