في الحرب: جنود.. عرفاء.. ضباط و..ألخ

يوسف ابو الفوز

حارق … خارق!

ركب مخزن ذخيرة جديد، كل رصاصاته حارق … خارق، وضع البندقية على حالة الرمي رشا، استند إلى جدار الخندق، غرس كعب البندقية في الأرض، وضع الفوهة في فمه، وضغط الزناد!
لم يفهم الكثيرون لماذا؟
كان قد قال لأحد الجنود قبل يومين:
ــ لم اعد أطيق ذلك، لم اعد احتمل أكثر، كل يوم، ليل ونهار، ما أن أغفو قليلا، حتى يأتيني السيد الرئيس، يكشف عجيزتي و …

عناكب

في زاوية الملجأ الرطب ولأكثر من ساعة، جلس القرفصاء، صامتا وثمة رغبة عارمة الى التدخين، لكن سجائرهم نفدت. أمامه يجلس صاحبه، شارد اللب، صامتا مثله، محدقا الى سقف الملجأ ببلاهة. قبل أسبوع همس إليه:
ــ ثمة عنكبوت يدب هنا!!
ونقر على صدغه بأصابعه المسودة. البارحة عاد وقال له:
ــ انه ينسج له بيتا بنشاط!
ومنذ أسبوع وهو يستعيد معلوماته عن العناكب، ويتخيل أشكالها، وألوانها و … لكن اليوم، ومع بدء القصف المدفعي من الجانب الأخر، أحس ثمة شيئا، ناعما، صغيرا، يدب داخل تلافيف رأسه!
***
منذ أيام وثمة عنكبوت يبني له عشا داخل رأسه. يحس به وهو يدب بنعومة، ويتخيله كيف يعمل بنشاط. البارحة اكمل العنكبوت بناء عشه، تماما مع بدء نوبة حراسته الليلية. كان الجو باردا، الريح تصفر في المنطقة الحرام. مد رأسه في داخل الملجأ، كان أصحابه ينامون بوداعة الأطفال، ملتمين على أنفسهم، يلتصقون ببعض طلبا للدفء، فشعر بالشفقة تجتاحه، ومشاعر من المحبة تطغي على كل كيانه، وكان العنكبوت يتحرك بنشاط، بنشاط مثير ولم ينتظر طويلا، كانت مشاعر الشفقة تجعله يرتجف من الحب، وبهدوء وحتى لا يزعج النائمين سكب كل ما بداخل زجاجات النفط على الأشياء القابلة للاشتعال، ثم نثر بعضه على بطانيات النائمين، وأشعل النار!!

الركن الهادئ
بعد إحالته على التقاعد اصبح “الركن الهادئ” مشربه المفضل. تبدل الندل ومالكي المشرب مرات، لكنه لم يستبدل زاويته القريبة من الشارع، عند واجهة المشرب الزجاجية. نهاية كل أسبوع، ومع كأسه يغوص في عوالم داخليه، يسافر في الذاكرة، مستعيدا تلك الأيام العذبه من شبابه، وجوه أصحابه الذين رحلوا، طلابه الذين صاروا رجالا وتبعثروا يراقب حياة الناس ويعود إلى بيته ممتلئا بقناعة أن الحياة تسير بشكلها الرتيب، ولم تتبدل!
في الأيام الخوالي، كان يستمتع بالاسترخاء في كرسيه، يمد رجليه على طولهما ويخفض بصره بحيث لا يرى من المارة سوى سيقانهم، ويمارس لعبة ابتكرها لنفسه، لعبة غريبة، لن يفهمها أحد، أوحى بها له حديث روتيني مع جارهم الإسكافي، يراقب أحذية المارة ويحاول تخمين شيئا عن شخصية ومزاج لابسي الأحذية، وهكذا يمر أمامه الناس:
حذاء رجالي مهترئ الكعب، حذاء رجالي مصبوغ بعناية، حذاء نسائي أنيق بكعب عال، حذاء رجالي مترب عادي، حذاء نسائي عادي بدون كعب، حذاء رياضي، حذاء رجالي فاخر، حذاء نسائي فاخر، حذاء نسائي عادي، حذاء رياضي، حذاء رجالي، حذاء رجالي، حذاء رجالي، حذاء …!
هذه الأيام افتقد تلك المتعة، السيقان تمر أمامه ويسجل:
حذاء نسائي عادي، بسطال، بسطال، حذاء نسائي، بسطال، بسطال، عكاز، حذاء نسائي، عكاز، بسطال، حذاء رجالي، بسطال، بسطال، عكاز، حذاء نسائي، بسطال، …!

خشخشة

دخل الدار متعبا، منهكا، يجرجر نفسه، استقبلته زوجته تخشخش بأساورها الذهبية، وعدها بان يجعل ذراعيها لا تتسعان لهن، وكانت واثقة تماما من وعده:
ـــ “يا بنت الحلال، الله فاتحها علينا، الشغل ماشي، أنت بس تدللي”
أدخلته الحمام. ساعدته على نزع ثياب العمل. دلكت له ساقيه وذراعيه ثم جلفت له جلده بصابون معطر وصبت عليه نصف زجاجة من الكولونيا، ثم نشفت له جسده مثل طفل، وساعدته على ارتداء ثوب نظيف، قبلها على وجنتيها عرفانا بالجميل، وقال بإخلاص:
ــ لولاك، ولولا رعايتك لي لما إستطعت مواصلة العمل، أتدرين اليوم غسلت ودفنت …
لم تسمع الرقم الذي ذكره، غلا شئ في المطبخ فهرولت إلى هناك وأساورها تصدر خشخشة تذكرها بوعوده الصادقة!

* من مخطوط معد للنشر. آيار 1992

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here