ملاحظات عن مشكلة الهوية

راي منشور في مجلة دراسات كردية (مطالعات كردى) الصادرة عن مركز الأبحاث في المعهد الكردي – باريس، في كانون الثاني (1984)

للغموض الذي يحيط “الهوية” عدة أسباب. منها، المعاني العديدة للكلمة ومرادفاتها، مثل: التشخيص والتعريف والتشابه والربط والتطابق… الخ. فعلى الصعيد الفردي يقال: “الهوية الشخصية”، والجماعي: “الهوية الاجتماعية” و”الهوية الطبقية”، وبشكل مجرد “الهوية الثقافية” و”ازمة الهوية” وغيرها. وهناك المشاكل الفلسفية المتعلقة برموز اللغة وبالمفاهيم العامة ومعانيها.

تثار مشكلة الهوية في حالة الوعي الإنساني، الفردي او الاجتماعي، او عند الانتماء التلقائي الى جنس معين من البشر دون غيره، او تربة او ثقافة او أيديولوجية او فكر او طبقة او جماعة معينة. فماذا يعني من يقول “انا عربي” او “انا كردي”، وماذا يعني اعتباره كذلك، وما هي أهمية الربط او الانتماء الى ثقافة معينة او الى عدة ثقافات؟ وما هي أهمية اللغة في التعرف على فرد ما او ثقافة ما؟

الإجابة على أسئلة من هذا النوع بسيطة ظاهريا ولكنها في غاية التعقيد، لان البحث عن علل ظاهرة ما مهمة معقدة، والسهولة عادة في التبسيط ووضع حدود للإجابة والاكتفاء بقناعة جزئية. فالحقيقة تبقى مبتورة وذاتية، رغم البساطة الظاهرية للكلمات وما تمثله من رموز ومفاهيم. والأخيرة محددة اصلا بالمستوى العلمي والفكري، وبعبارة أخرى: “الاناء ينضح بما فيه”، وكما يقول ديستون دي تريسي، “لا تستطيع لغة ان تحتوي على رموز يزيد عددها على عدد الأفكار التي يملكها واضعي تلك اللغة”.

الهوية في اللغة قد تعني جمع مجموعة من العوامل او اجزائها في كل يمثل شيئا او شخصا محددا بالذات دون غيره. وقد تعني التعريف به استنادا ال عامل او صفة عامة. في “بطاقة الهوية الشخصية” او “دفتر الهوية” تستعمل الكلمات والأرقام للدلالة على شخص معين: “حامل الهوية”. ويقال عن الذي لا يمكن التعرف عليه انه “بلا هوية”. وعن الذي يعرف نفسه بالإشارة لشخص معين، ولأسباب نفسية، انه قد “تقمص هوية” الاخر، او “تقمص شخصية” إضافة لشخصيته، كمن يحاول التنكر لسبب ما عند “انتحاله هوية” معينة. ولكن هل يمكن ان يتطابق الانسان مع رمزه؟ الاختزال الشائع والخلط بين الصفة والموصوف، بين الدليل والمدلول عليه، يؤدي الى الغموض وعدم الدقة. فالإنسان ليس بورقة ولا “نسخة” كما في التعبير البيروقراطي حتى يمكن اعتباره “نسخة طبق الأصل”.

لقد أطلق الاغريق على غيرهم كلمة “البربر” وأطلق العرب على غير العرب كلمة “الاعاجم”، وليست هناك لغة لا تحتوي على رمز مشابه للتعريف بهوية “الاخر”. فهل بالإمكان صهر لغات العالم وثقافاته وما يحتويه من اجناس وشعوب وجماعات، والتعبير عن ذلك بكلمة واحدة؟ وعلى العكس، هل يمكن بسهولة معرفة من هم الاغريق؟ ومن هم العرب؟ وهل يمكن تحديد هوية مجتمع ما، مهما صغر حجمه؟ لقد قامت الكثير من المجتمعات بمحاولات “تحقيق هوية” ذاتية ولكنها لم تتمكن الوصول الى نتيجة مقنعة على الرغم من جمعها لمواصفات وعوامل كثيرة وعامة أدت في النهاية الى التشكيك في مفهوم الهوية بالذات.

التناقض الذي يصاحب عملية التعريف بالهوية في حالة اختيار عوامل معينة وتحديد صفات عشوائية يزداد غموضا لما يتطلب ذلك من ثبات نسبي لا يضمنه عامل الزمن او الحركة، وما يصاحبها من تطور او نمو او اضمحلال. فاللغة والمفاهيم والرموز ليست ثابتة، وحتى في ثبات الزمان والمكان، يصعب قبول فكرة التطابق او التشابه. وكما يقول الشاعر بودلير، “يستحيل ان تجد ثمرتين متشابهتين بين الألوف التي تحملها نفس الشجرة، وإذا حصل ذلك فإنها ستكون نفس الثمرة”، فكيف بنا إذا تعلق الامر بالبشر؟ ولو قبلنا في حالة الخيار الشخصي والطوعي ان يستعمل شخص ما هذه الصفات ويعرف نفسه بها وكأنها “سمة دخول” الى جماعة او ثقافة معينة، فتلك مسالة ذاتية بحتة، والمشكلة في سمة الدخول كهمزة وصل، كهوية لحاملها وليست في الثقافة.

ينبغي القول ان التساؤل والتشكيك مسالة إنسانية كما الفضول وحب المعرفة. وليس هناك غير حقيقة الشعراء، بالمعنى الذي يقصده جان بولان عن “بساطة الإقرار بان صوتا ما هو صوت، وان فكرة ما هي فكرة و…، ومع ذلك فان لبعض الرجال -مثل رامبو-الاخذ بالمفهوم المعاكس: أي ان كل شيء هو أي شيء عدا نفسه، أي هو نقيضه بالذات”. ولا ينفرد الشعراء في ذلك، ففي مفهوم “وحدة النقيضين” يجتمع الاثنان رغم تباينهما واختلافهما في نفس الوحدة. والحقيقة الذاتية كما في قصة الفيلسوفين الصينيين عندما يشاهد أحدهما سمكة في حوض ماء ويقول لزميله: “انظر كيف ان هذه السمكة سعيدة”، فيرد عليه الاخر: “كيف عرفت؟ هل انت السمكة؟”، فيرد الأول: “وانت، كيف عرفت باني لا اعرف؟ هل انت انا؟”. والتشكيك والتساؤل يبقى حتى في حالة الايمان بحقيقة ما. وحتى الانسان البسيط، كما يقول أحد الفلاسفة، “إذا حرم من حريته وضرب بالسوط، فان عينيه ستتوجه الى السوط لكي يعرف من اية مادة صنع”. فكيف باعتزازه بنفسه ورغبته الطبيعية في ان يميز نفسه عن الاخرين او يعرفهم بها.

عندما يشبه الانسان وطنه بالقرية التي ولد فيها، والنظام السياسي بالرجل الذي يرأسه، ويتعرف على وجه ما وسط حشد كبير، ولهجة معينة بالمنطقة التي تنتشر فيها. وعندما يتذكر الاسم القديم للتعرف على مدينة حديثة التسمية، او يعتبر مشكلته الشخصية مشكلة شعبه باسره، او العكس، او يقر بانه هو هو لم يتغير رغم مر السنين، او يعتبر ان مصيره مرتبط بمصير شخص او قضية ما، او ان يجمعه واخر طبيعة او أصل واحد…الخ، فانه يطابق ويقارن ويقيم حسب ما موجود في ذاكرته من خزين ذهني. ويعزي فولتير عملية صنع الهوية الى الذاكرة بقوله: “اذ فقدت الذاكرة هل ستبقى نفس الرجل؟”، وبروست أيضا بقوله: “ذاكرتنا تمسك خيط شخصيتنا الثابتة”. الهوية الشخصية ترتبط بالذاكرة الشخصية فهي ذاتية، اما الهوية الجماعية فيمكن ربطها بالذاكرة الجماعية ومقوماتها، مثل الثقافة واللغة والعادات والتقاليد والدين والتاريخ… الخ، والأخيرة يمكن دراستها دراسة موضوعية، أي على أسس ثابتة وعامة، بيد ان الانتماء الفردي اليها يبقى ذاتيا وتلقائيا، ويرتبط بالحرية الشخصية والجماعية المتوفرة.

الهوية في القانون تعبير عن واقعة ان يكون الشخص فردا معينا مع إمكانية ان يعترف به أيضا بانه ذلك الفرد بدون أي غموض، وبواسطة عوامل ينفرد بها، مثل العلامات الفارقة. مشكلة الاعتراف تظهر في المجتمع الذي لا يحكمه قانون ثابت، ولا تتوفر فيه الحريات الشخصية والجماعية، ويفرض هوية معينة على جميع افراده للسهولة، ويمنع الاختلاف عن الهوية الرسمية باستعمال القوة، وبالقمع والابادة الجماعية. والمعاناة الإنسانية ستاتي لاستحالة تطابق الهوية الطبيعية، التي هي في غاية التعقيد، مع الهوية الرسمية التي هي في منتهى البساطة. وبذلك تنشا حالة ازدواجية بالإكراه، او تقمص قوي لشخصية، بينما يستحيل ان يكون الانسان غير نفسه، كما يستحيل فصله عن هويته وعن ثقافته وذكريات طفولته. فالهوية الشخصية، كما الثقافة واللغة، لا يمكن الغائها بقرار رسمي ولا يمكن فصلها عن الانسان، لان العلاقة بينهما جدلية: الأول يصنع الثاني والثاني يصنع الأول، مع الفارق المهم في كون الانسان سابق للثقافة واللغة، وعلى الرغم من كونه صانعها فانه أصبح نتيجة لها.

مشكلة الهوية تصبح حساسة وتثار فجأة عندما يريد الانسان ان يعرف نفسه لمن يختلف عنه ولا يستطيع تمييزه عن الاخرين. في بلاد الغرب، يصعب في أكثر الأحيان التمييز بين العراقي والإيراني والتركي والارمني… الخ، لما يجمعهم من شبه جسدي خارجي. فعندما يقول شخص ما بانه كردي فذلك يعني انه لا عربي ولا فارسي ولا تركي… الخ، ولكن ذلك لا يمنع كونه مواطنا سوفيتيا او عراقيا او تركيا او إيرانيا او سوريا. ان من لا يترك قريته لا يجد الضرورة في ان يعرف نفسه او يميزها بهذا الشكل الا إذا عومل كذلك من قبل قادم غريب لا يعرفه او لا يعترف به، وعندما يسافر داخل بلده فانه سيعرف نفسه بالمدينة او المنطقة التي جاء منها. ففي جو من الحرية ستنعدم مشكلة الهوية تماما وتصبح حالة طبيعية يعيشها الانسان، كما الاختلاف الثقافي واللغوي. والمشاكل تظهر في حالة انعدام الحرية والفرص المتساوية في عالم لا انساني تحكمه شريعة الغاب: استعمال القوة والتسلط والهيمنة والحقد والكراهية و”اكل الاخر”. كثير من الشعوب والثقافات لا تزال تعيش الى جانب “ملك الغاب” الذي لا يعيش “مع” الاخر وانما “على حسابه”.

اهم المشاكل التي يعاني منها الشعب الكردي تمر عبر مشاكل الهوية. فهو، كما الشعب الفلسطيني، شعب بلا دولة، هويته الثقافية لا تحتاج الى تعريف، ومشكلته ليست في هويته بالذات وانما في “الهوية الرسمية” المفروضة عليه. فهو مشتت بين عدة دول، فيعني ذلك خضوعه لهيمنة سياسية وثقافية متشعبة في تركيا وإيران والعراق وسوريا والاتحاد السوفيتي. وعلى الصعيد اللغوي، بين اللغة التركية والفارسية والعربية والروسية. لقد نتج عن ذلك ان الكثير من النتاجات والابداعات الثقافية للأكراد قد كتبت، عبر العصور، بلغات مختلفة ولكنها لا تزال تشخص بانها كردية.

الهيمنة السياسية ليست ثابتة عبر الزمن، فقد مر الاكراد بتجارب هيمنة تاريخية إضافة الى التجارب المعاصرة (هيمنة الساسانيين والفرس والروم والبيزنطيين والمغول). لقد ذهبت التجارب وبقي الاكراد. أتاتورك، على سبيل المثال، كان يتصور إزالة الكردية من الوجود في عام 1924 بمنعه استعمال اللغة الكردية في تركيا وفرضه “هوية رسمية” على الاكراد بتسميتهم “اتراك الجبال”. تبعه في ذلك رضا شاه إثر زيارته لتركيا عام 1924 ليطبق نفس السياسة في إيران، واقر الانجليز “عروبة العراق” عام 1924. لقد كانت ردود الفعل الطبيعية لسياسات من هذا النوع ان يزيد وعي الاكراد بالمصير المشترك الذي يربطهم، والذي تبلور في اتفاقية 1944 بين اكراد من تركيا وإيران والعراق، للتعاون المشترك لخلق “كردستان الكبرى”.

من الطبيعي ان توثر الهيمنة السياسية على الحرف الذي تكتب به اللغة. فاللغة الكردية في العراق تكتب بالحروف العربية، كما الفارسية والتركية القديمة، وفي تركيا تكتب باللاتينية كما التركية الحديثة، منذ اتاتورك، وفي الاتحاد السوفيتي تكتب بالحروف السيريلية كما اللغة الروسية. مثل ذلك لا يؤثر على مشكلة الهوية، ويمكن لمجلة (مثل “دراسات كردية”!) ان تصدر بعدة لغات، عدا الكردية، وتختار لنفسها “هوية كردية”.

ان اللغة، وان كانت من اهم مراكب الثقافة، فهي وسيلة للتعبير وعامل جامع شكليا. جامع للكثير من الاختلافات التي يمكن تمييزها بمجرد الدخول في تفاصيل أخرى، او مراكب أخرى مثل الوطن والدين والتاريخ. فالاختلافات الموجودة حول أصل الاكراد ستؤثر بالطبع على أصل اللغة الكردية. ان قلة الدراسات حول الموضوع لا تمنع من معرفة فكرة أولية عن فروع اللغة او اللغات الكردية. فلو تركنا الاطروحتين القائلتين بان الاكراد من أصل هندي – اوربي، كما الفرس، او من أصل اسيوي، كما الأرمن والجورجيين، ونظرنا الى الخارطة الكردية بشكل عام، لوجدنا ان لغة شمال كردستان، “الكرمانجي”، تختلف عن لغة الجنوب، “السوراني”، ومنها تتشعب عدة لهجات محلية.

قد تكون هذه الاختلافات وراء مشكلة عدم تناول الثقافة الكردية باللغة الكردية في مجلة كردية. تلك بلا شك مسالة ثانوية لو تعلق الامر بمشكلة الهوية، في الوقت الحاضر ام الماضي، في كردستان ام في الغربة. فالمهم في المصير، مصير الثقافة الكردية او مصير الاكراد بالذات. لقد فرضت الثقافة الكردية نفسها على الثقافات المهيمنة واثرت عليها واثرتا، ولا تزال تتميز عنها بشكل صارخ، خاصة في ميدان الفنون، ولا شك انها ستفرض نفسها وتزدهر أكثر لو سنحت لها الفرصة كاملة.
علي القزويني -فرنسا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here