لغتنا العربية و اخلاقنا !

* د. رضا العطار

للكلمات ايحاء إجتماعي للخير واللشر. وكثير من الكلمات يحمل شحنة عاطفية انفجارية، تخلق الشرور، مثل كلمة (دم) في الريف العربي. او للخير مثل كلمة ( مروة ) في انحاءالعالم العربي.

وفي اللغة العربية كلمات مثل الشهامة والشجاعة والاخاء والنخوة والمحبة والفتوة وحب الوطن، نعرضها على ابنائنا. ونتحدث عنها، وما احلاها من كلمات ! وكل منها بمثابة المؤسسة الاجتماعية التي تبعث روح البر وتعمم مفاهيم الشرف، اينما وجدت. واذا كانت المجتمعات العربية القديمة قد قصرت في فن الحكومة، لانها لم تعرف البرلمان او المجلس البلدي، فإن هذه الكلمات قد استطاعت في احايين كثيرة ان توجد المجتمع البار، وان تقيم العدل مكان الظلم، وان تحمل على الطموح والتطلع الى السماء، علما ان اللغة الانكليزية لا تستطع التعبير عن معظمها بالدقة اللازمة.

ولو كانت لغتنا تحوي خمسين من هذه الكلمات، بل هذه التحف الغالية، لكان في مقدورنا ان نبني بها اخلاق الامة. ونعين لها النفسية التي تعيش بها في سعادة ورفاهية. ولو كانت الامم العربية تكسب في كل مئة سنة كلمة خيرة سامية جديدة، لصار المجتمع العربي ارقى المجتمعات في التفكير العاطفي.

وقد يمكن السيكولوجي ان يقول ان هذه الكلمات إنما عبأت هذه العواطف النبيلة، لانها كلمات تعويضية، اي ان المجتمع العربي في القرون الماضية، لما كابد من مظالم حكوماته، قد تعرض بهذه الكلمات اي توصل اليها عن طريق هذه المظالم. فأقام العدل الاجتماعي مكان الظلم الحكومي او الى جانبه.

فانظر الى كلمة مروءة وما تحمله الينا من معاني السلبية والايجابية التي تكف وتغري. فليس من المروءة الا نغيث السائل المحتاج، او نخون الامانة او ننكث العهد، ولكن من المروءة ان نتجاوز عن حقوقنا عند المحتاجين، وان نتصدق حتى ولو كنا مخدوعين، وان نعين العاجز ونسعف الملهوف.

قال الزمخشري (المروءة هي كمال الرجولة) وقال المصباح ( المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الانسان على الوقوف عند محاسن الاخلاق وجميل العادات) . . ولكن اين نحن من مسافة هذه الكلمة، عندما نقول :

(دعك من هذا الرجل فانك لن تجد عنده مروءة) وكأنه قد حكم عليه بالاعدام.

وتذكر ايها القارئ كم من موقف قد احتشدت فيه الدنايا والخسائس وطغت فيه الظلمات الحيوانية على الروح الانسانية. واذا بهذه الكلمة ينطق بها فرد، فتنفجر منها قوة للخير، فيخسأ الظلم وينهزم العدوان. ويخفت صوت الحيوان، ويعلو صوت الانسان.

ثم انظر الى كلمة (بر) ونحن نقول في ايامنا البر الاجتماعي ولكن في المعنى الاصلي، هو البر بالوالدين، علاقة عائلية حميمة، ما اشرفها وما اجملها.

او انظر الى كلمة الفتوة، فان هذه الكلمة لما حملته من المعاني البارة، بعثت افرادا في المجتمع العربي على تأليف جمعيات خيرية تحث الناس على فهم قيم المجد والشهامة، فكان منهم (فتيان) يخدمون الفضيلة ويرفعون انفسهم الى مستوى عال من السلوك السليم والاخلاق الفاضلة. فكل واحدة من هذه الكلمات هي شعار يهتدى به الفرد في مجتمعه ويجد الاتجاه السديد نحو الملائمة الاجتماعية.

ان مهمة الاديب ان يوجد مثل هذه الكلمات في لغته لانه عندئذ ينقل الاحكام الجزائية من المحاكم الى المجتمع والضمير. فالشاب الذي انغرست فيه معاني هذه الكلمات الاخلاقية لا يحتاج الى ان تنصب له الميزان الاخلاقي بالقوانين. لان هذه الكلمات قد اقامت هذا الميزان في ضميره. فالدافع والوازع معا داخليان، هنا في الوجدان،

وليست الكلمات سواء، فهناك من الكلمات ما نستعمله، فنرتفع فوق انفسنا في الذكاء او العاطفة، بل اكثر من ذلك، فبعض الكلمات تجعل الناس اذكى مما يتوهمون، كما ان هناك كلمات تجعلهم اشرف واشهم مما يحسبون، وقد تكون الكلمات اربطة اجتماعية تضمد وتجمع، كما قد تكون سموما تفتك المجتمع، تغمره شرورا.

* مقتبس من البلاغة العصرية واللغة العربية للموسوعي سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here