ترنيمة الى البحر العراقي

د. حسن خليل حسن
مركز علوم البحار- جامعة البصرة
لاشي يدهشك في العراق سوى أنك (تندهش) في كل مرة..!! هذه المرة سنحلق في سماء اقصى جنوب البصرة هنالك في جنوب الجنوب حيث يختمر جحيم الملح بجحيم السكون الموحش ولون الاطيان القاتمة ونسيان الحدود، ارض تطل على البحر وبحر يعاتب السواحل بمدين وجزرين ونفث دائم للريح الرطبة التي تُدمع الاجساد وتضيق بالأفئدة، ارض وماء وعواصف خراب واقتصاد حروب. تراجيديا مأساوية قوامها 64 كم هي كل ما يمتلكه العراق من واجهة بحرية على الخليج العربي، وهي اقل سواحل المنطقة العربية طولاً على الخليج، بنسبة 1.8% فقط من مجموع طول سواحل دول الخليج العربية على الخليج البالغة 3490 كيلومتراً، وبنسبة 2.6% من السواحل الإيرانية البالغة 2440 كيلومترا، وبنسبة 6.4% من سواحل السعودية 1000 كم و بنسبة 10% من طول الامارات 644 كم، وبنسبة 13% من طول سواحل الكويت البالغة 499 كم، هذه النسبة منها 40 كم عبارة عن تخوم بحرية تقابل الكويت وحوالي 20 كم فقط تشكل ارض مفتوحة باتجاه البحر الاقليمي العراقي (نحو مياه الخليج المفتوح).
كل ما يمتلك العراق بضعة كيلومترات من الارض الساحلية على الخليج العربي، مساحة ظلت موحشة لعقود ولم تفلح ادارة سياسية عراقية بإدارتها، تلك الرئة البحرية الوحيدة والنافذة الفريدة لصادراته ووارداته من التجارة البحرية منذ تأسيس موانئه البحرية في ثلاثينات القرن الماضي، ما يميز ذلك الامتداد المهجور مياه ضحلة لا تتجاوز اعماقها 14 متر كأقصى عمق في احسن الاحوال، وهي تشكو من طمر مزمن في شرايينها الملاحية تكلف الموازنة العراقية آلاف الدولارات كل عام، ارض يباب لم تحظى بالتفاتة للتطوير والنمو والاستطالة أسوة بموانئ دول الجوار الاخرى، ارض موحشة لغياب البشر والشجر والحجر ما ازدادت عبر الازمنة ألا ملحاً وطيناً بلون الظلام حيث اختنقت الصباحات ومزجت الامواج الكسلى برائحة الموتى على وقع بياض النوارس وقبور ابو شلمبو المتتابعة، بالرغم من انها مصدر كل اموال الخزانة العراقية لما تحتويه من مواني نفطية تعمل كل ثانية ليعيش العراق بأموال النفط المصدر عبر مينائي والبصرة والعُميّة العائمين( والذي تنوي حكومتنا احالتهما للاستثمار الاجنبي لنحظى بالاحتكار بعد الاستعمار والاستحمار).
وليس هذا كل شيء عن اهمية تلك البقعة الساحلية والبحرية للعراق ففي الازمة الراهنة لنقص المياه في البصرة والجنوب العراقي يمكن ان تكون هذه البقعة هي المنقذ (الوطني الوحيد) لاستثمارها في اقامة محطات التحلية للمياه البحرية، وهي ما سبقتنا اليه دول الخليج ونجحت فيه منذ عقود، ولكن هذا محال في واقع اقل ما يقال عنه انه واقع متخبط او ضرير.
يا سادتي هذا ليس نواح مبالغ فيه انه حقيقة مُرّة بدأت فصولها منذ مطلع مواسم الحروب السوداء في بداية الثمانيات ولم تنتهي بالحروب التفاوضية التي لم تنتهي بعد من اجل الحصول على مكاسب على حساب الارض العراقية والبحر الاقليمي العراقي، الارض التي يراد لها ان تصادر لدول الجوار كما صادروا الفضاءات الخالية في الازقة والاحياء والتي جرى التخطيط لها لتكون رئة للمدينة لكي تتنفس، بينما ترى الادارة السياسية للعراق انها اموال مبعثرة تحتاج ان تُجمع لتوضع في الخزينة العراقية الجوعى دائماً.
انها ترنيمة للتاريخ لتكون دليلاً للاجيال على ما يسمى الساحل العراقي وهو ليس سوى اطنان من الطمى ولون بني قاتم وانقاض مشاريع لم تولد لتموت بسرعة تحت وطأة الجهل واللامبالاة والمصالح الضيقة.
اعزيك ايها البحر بنا شعباً وسياسيين، اجهدوك حروباً واهمالاً وسرقات.

خريطة توضح امتداد الساحل العراقي المحاصر بحدود دول الجوار

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here