أوجاع بصراوية!!

“على شط العرب تحلى…أغانينا وعلى البصرة”
البصرة مدينة السحر والجمال والنخيل والمياه فكيف بهم يريدونها رمضاء لاهبة بلا نخيل وبهاء؟
البصرة ثغر العراق الباسم كيف يريدون له الحزن والشقاء وغياب الإبتسام؟
البصرة التي كانت تدغدغ خيالي منذ طفولتي , إذ كان لي قريب يعمل في موانئها يزورنا كل بضعة أشهر , ويحدثنا عن سحر البصرة وعشّارها وقرنتها وكورنيشها وفاوها وجمال الحياة في ربوعها , وطيبة أهلها وروعة شوارعها ومساءاتها الساحرة عند الغروب.
ولي في البصرة أصدقاء وأحبة وزملاء , وزرتها قبل أن تتعرض لمخاطر الحرب وبعدها , وقد سحرني العشار وشط العرب , وبساتين النخيل الشاسعة , لكنها أبكتني أثناء زيارتي لها في زمن الحرب العبثية , فكانت مناظر بساتين النخيل قاسية ومؤلمة , إذ ترى النخيل وقد تعرض للإبادة الجماعية بسبب الصواريخ والقنابل وغيرها من أدوات الدمار الفتاكة.
فكم تألمت على ضياع ذلك الجمال الخلاب وكيف تحولت البساتين الشامخة الخضراء إلى يباب , واليوم وبعد دوران السنون تجدنا أمام مأساة بصراوية قاسية تتكاتف فيها العديد من القدرات والقوى , لمحق وجود بصرة العراق وعروس كينونته ومنطلق تفاعله مع الماء والحياة.
البصرة تعاني من شحة المياه , وهذا أمر لم يخطر على الأجيال منذ الأزل , ولا يمكن تصديقه في عصرنا الغدّار , الذي أصاب البصرة بما لا تستحقه من العناء والمقاساة , بل ومن الإصابات بأمراض وتأثيرات بيئية وبايولوجية تتسبب بأمراض شرسة , وكأنها آلة عدوان جديدة على الأرض والإنسان.
مياه قليلة وأوجاع وفيرة , وخدمات أساسية مفقودة , وفساد عميم , والناس فيها تنادي بنجدة إنسانية , وإحترام لأبسط حقوق الإنسان , ولا مجيب , بل الجميع منشغل بالتحاصص والتعاصص وبالإستحواذ على الكراسي , التي تخولهم التصرف بالمال العام ودحيه في جيوبهم الخاصة.
الناس في البصرة تستغيث مثلما هي في العديد من المدن العراقية , والدولة لا تسمع ولا ترى ولا تستجيب , وكأن الأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد , وحتى وإن أقرت بالفساد فأن الفساد سيولد من جديد , لأنه سرطان منتشر لا ينفع معه علاج , ولا يُسمح لأي طبيب ببدء العلاج أو لأي جراح لإستئصال هذا الورم الخبيث.
البصرة مدينة الحب والسلام والشعر واللغة والفكر والفلسفة والنبوغ الحضاري , بمدارسها المعرفية المشهورة المتوهجة في زمن التفتح الحضاري العربي.
البصرة التي بناها عتبة بن غزوان في زمن الخليفة عمر بن الخطاب كواحدة من الأمصار الثلاثة (الكوفة والبصرة والفسطاط) , ولتكون ثغرا منيعا وحصنا ماجدا , ومنطلقا لصيرورة حضارية عربية وهاجة.
البصرة مدينة الجاحظ الأبي العربي , والسياب الذي قاد ثورة الشعر الحديث , ومنح القصيدة العربية ملامح العصر الجديد.
البصرة الأبية الصامدة الصابرة المعانية الشامخة , لن تنال منها قوى الشر والعدوان , ولن يصيبها الذل والهوان ولن يعطش أهلها , فأنهم أباة أحرار أصحاب إرادة وكرامة وقدرة على صناعة الحياة وبناء مجدهم الإنساني الأصيل.
البصرة تتكلم بلسان مسيرتها الكبرى وقدراتها العظمى , وهي شامخة كالنخيل الذي سيجيئ إليها أفواجا أفواجا , وسيستحضر المياه ويمنح الحياة ويجتذب الأحياء إلى شواطئها الغناء.
فتحية للبصرة الحبيبة المتحدية الثائرة المنادية بالحق والعدالة وتأكيد حقوق الإنسان.
تحية حب وإجلال لأهلها الأباة الطيبين المخلصين , الذين يذودون عن قيمها وهويتها وذاتها العربية الحضارية الساطعة.
فهل “مركب هوانا من البصرة جانا”؟!!
وهل ستعود أغانينا البصراوية الجميلة العذبة بألحانها الشجية؟!
إنها ستعود بإرادة أهل البصرة الأماجد الواعدين!!
د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here