شجرة العائلة و الجينات – هل يحمل الفرد جينات جدّه الذي تُوفّي قبل 500 سنة أو أكثر

– د. بهجت عباس*

دَأبْـنا، نحن العرب، بفطرتنـا أن ننظر إلى الرجل على أنَّه مُـكوِّن الأجيال، وإلى المرأة أنَّها (معمل) إنتاج، أو (أرضُ حرث)، وأنَّ دورَها في إنتاج الأطفال صغير بالنسبة إلى دور الرجل، إذ لولاه لما كان الطفل. ونسينا أو تغاضْينا أو لمْ نُعِـرْ أهمية، أنْ لولاها لما كان الطفل أيضاً. ومن هنا تأتي مسألة الحسب والنسب وشجرة الوراثة. يُنسَب الولد إلى أبيه، وليس إلى أ ُمِّـه التي ساهمتْ في تكوينه، في كل الأحوال، وهذا صحيح وليس مُطلقاً. الحقيقة أنَّ كلا الأبوين يشارك في تكوين طفلهما، جسماً ودماغاً، وليس عقلاً. إذ أنَّ هذا الأخيرَ يأتي نتيجة تفاعلات البيئة وجينات الفرد وتجاربه خلالَ حياتِه كـلِّها. ولكنَّ الواقعَ يقول إنَّ المرأةَ تساهم في تكوين الطفل أكثرَ منْ مساهمة الرجل فيه، إذ يشارك الرجل بالمادة النووية (دنا DNA) فقط. بينما تشارك المرأة بالمادة النووية ومحتويات الخلية أجمع، بما فيها الخمائر الضرورية لنمو الخلية المُخَصَّبة، والميتاكوندريا، مصدر الطاقة التي تحتاجها الخلية للتفاعلات الكيميائية الداخلية، لإنتاجها مادة الـ أيْ. تي. بي.T. P. A ( ذات الطاقة العالية ) والخمائر المُـؤَكسِدة والمُختزِلة. ونتيجة لهذا الاتحاد بين الخليتين الجنسيتين، (الحيمن في الأب) و(البويضة في الأم)، تتكوَّن الخلية المخصَّبة بنواة جديدة، تكون خاصة بالطفل لا يشاركه فيها حتى اخوته، ما عدا التوأمَ المتناظر. وإذا أردنا معرفة اختلافنا عن الآخرين، وجب علينا أن نعرف أولاً كيف تنتقل هذه المواد الجينية من الأبوين إلى الأطفال. هذه المواد الجينية تنتقل من جيل إلى جيل بواسطة الخلايا الجنسية وليس الجسمية، إذ أنَّ هذه الأخيرة تحوي عدداً زوجياً من الكروموسومات، بتماثل كل زوجين، وهو 23 زوجاً، أو 46 كروموسوماً. أما الخلية الجنسية، فتحتوي على أعداد مفردة من الكروموسومات، (23) كروموسوماً فقط. وباتحاد الخليتين الجنسيتين، الحيمن في الذكر والبويضة في الأنثى، تتكوَّن الخلية المُخصَّبة التي تحتوي على 46 كروموسوماً. أما كيف أصبحت الخلية الجنسية بـ 23 كروموسوماً مفرداً، فذلك يرجع إلى الانقسام الاختزالي لخلايا خاصة في الخُصى والمبايض، حيث تُعاني هذه الخلايا انقسامين متتاليين، وليس انقساماً واحداً، كما هي الحال في الخلايا الجسمية. يكون الانقسام الأول باستنساخ الكروموسومات ذاتـيّـاً وتكوين خليتين متماثلتين، تحوي كل منهما على 46 كروموسوماً. ولكنَّ الكروموسومات الناتجة في هذا الانقسام ليست ذاتها الموجودة في خلية الأب أو الأم الأصلية، لتبادلِ قطع جينية متماثلة بين كروموسومين زوجيين متماثلين، وذلك بتقارب هذين الزوجين وتكسّرِهما عند نقاط معينة، فيتبادلان قِطَعاً جينية مُتكافئةً من الدنا (دي أن أيْ)، ويتصلان مرة أخرى في عملية تُدعى بـ(التركيب) أو إعادة الإتحاد Recombination، فينتج عنْ هذا كروموسومات جديدة تحتوي على قِطَعٍ جينية (جينات) تحمل صفاتٍ (علامات) خاصةً قد لا توجد في أيٍّ من الأبوين، وقد توجد في أحد الأجداد ( يوجد هذا بتفصيل أكثر في كتابي عالَم الجينات -دار الشروق-عمان 1999 ). لذا يكون الكروموسوم خليطاً من القديم والجديد. وينتقل هذا في الأجيال اللاحقة، ويكون السببَ في تشابهنا بأقربائنا. أمّـا الانقسام الثاني الذي يليه، فيكون انشطاراً للكروموسومات في الخليتين اللتين تصيران أربعَ خلايا جنسية، تحوي كل منها 23 كروموسوماً مفرداً، وهو خليط عشوائي من كروموسومات الأب والأم، وإنها مسألة حظ فقط، أنْ يأتي كروموسوم معيَّن من الأم أو الأب. لذا تختلف الخلايا الأربع ( البيوض مثلاً ) فيما بينها في وجود (وراثة) جين معيَّن (أو جينات)، من الأب أو الأم، جيداً كان أم سيئاً، في هذه الخلية، وليس في الأخرى. تكون الحيامن الأربعة فعالة، بينما ثمة بويضة واحدة فقط صالحة للتخصيب، حيث يكون مصيرُ ثلاثٍ منها التلفَ. ولما كانت الكروموسومات تنتقل باستقلال تام عن بعضها، أي بانفراد، وليست كمجموعة، إضافة إلى تبادلها القِطعَ الجينية، كما ورد آنفاً، يجعل من الصعب، إنْ لم يكنْ مستحيلاً، وجود بيضتين اثنتين متماثلتـين تحويان الجينات ذاتها، حيث يكون (مزيج) الجينات في أيِّ بويضة مسألة حظ فقط، ومن هنا تأتي الفوارق بين الأخوة.

ولما كان نصف جينات الأم ونصف جينات الأب تجتمع معاً لتكوِّن الجنين، الطفل والفرد بعدئذ، وإنَّ هذا الفردَ هو نتاج هذه الجينات، وإنَّ هذه الجينات تساهم في جميع فعاليّـاتنا، يكون (فخر) الانتساب إلى الأب فقط شيئاً غير متكامل. وعند تزاوج هذا الفرد ( الابن ) الذي يحمل نصفَ جينات أبيه، من امرأة خارج العائلة ( لا تحمل جينات العائلة )، يكون طفله حاملاً نصفَ جيناته أو ربعَ (1|4) جينات جده، وابن هذا الأخير يحمل ثُـمْـنَ (1|8) جينات أب جده (من ناحية الأب أو الأم) وهكذا دواليك. وإذا استمررنا في الحساب على هذا المنوال، آخذين بنظر الاعتبار وجود (25) ألفَ جينٍ تقريباً في الجينوم البشري ( حسب المعلومات الحديثة )، وجدنا الجيل الخامس عشر لا يحمل سوى جين واحد فقط من الناحية النظرية، ولربما يحمل أكثرَ من جين واحد. وإذا حسَبْـنا الجيل الواحد يساوي 30 سنة تقريباً، رأينا أنَّ الفرد لا يحمل من جدِّه الخامس عشر الذي عاش قبل 450 سنة أو أكثرَ، أيَّ صفة بيولوجية أو جينية، أو بمعنى آخر، ليس ثمة تشابه بين الاثنين، لأنَّ الجينات ( تخفَّفتْ ) إلى درجة العدم من ناحية، وتشوهت أو تغيَّرتْ نتيجة ظروف البيئة التي مرَّتْ عليها طَوالَ الزمن السحيق من ناحية أُخرى. ويمكن نظرياً، وليس عمليا،ً الاحتفاظ بجينات العائلة، إذا تمَّ التزاوج بين أفراد العائلة الواحدة فقط، ولهذا مساوئ ومَخاطرُ. كما أنه لم يحدث مثل هذا التزاوج أبداً في أيِّ عصر من العصور، ولمدة طويلة جداً.

فهل يمكن للفرد القابع في أسفل شجرة العائلة القولُ إنَّه يحمل جيناتِ الفرد الجالس في أعلى الشجرة الذي عاش قبل 500 عام أو أكثر ، هذه الجينات التي تُكسبه الصفاتِ الظاهرةَ والباطنة ، أم أنه يحمل اسمه فقط والذي قد يكون بلا جدارة؟

——————————————

*عضو متمرس في جمعية الكيمياء الحيوية البريطانية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here