لغتنا العربية، تؤدي احيانا الى حدوث جرائم

* د. رضا العطار

لا اقرأ جريدة الصباح حتى اجد احيانا جريمة قتل مرجعها الى اللغة. والسبب هنا خطير, ولذا ارجو ان يوصلنا البحث العلمي الى استنتاج مقبول. وهذا البحث سيكون بلا شك بحثا فلسفيا, نتطرق اليه، طالما نحن في عهد ديمقراطي، وطالما ان الفلسفة قد نزلت الى الشارع حسب قول الفيلسوف الوجودي سارتر حيث قال : ان الفلسفة يجب ان تنزل عن اريكتها وتدخل السوق.

وموضوعنا في اصغر عبارة هو ان كلماتنا التي نتحدث بها ونقرأها تعين اخلاقنا وسلوكنا الاجتماعي. فنحن فضلاء او ارذال باللغة. ونحن عقلاء او مجانين باللغة. كما نحن علماء او جهلاء باللغة.

اعتبر ايها القارئ الكريم شابا ريفيا قد نشأ وتربى وسمع بأذنه وتكرر سماعه لكلمات الثأر والانتقام والدم. فإن هذه الكلمات حين ينطق بها, تصوّر له صورا فكرية معينة, تحمله على ان يسلك السلوك الاجرامي بقتل خصومه لأتفه الاسباب . بل انه يفهم كلمات الشرف والعرض والناموس والسمعة الطيبة, على غير ما يفهمه شاب يعيش في المدينة.

في ريفنا العربي يحدث احيانا ان يرى الفلاح اخته تتحدث الى احد الشبان, حتى تستطير هذه الكلمات عقله وتلهب عاطفته فيجمع الى معانيها معاني الكلمات الاخرى : الدم والثأر والانتقام . ثم يكون ما يخشى عقباه …. كلمات تؤدي الى حدوث جرائم . ولا يمكن القول ان حوادث القتل بدافع ( الشرف ) هي مقتصرة على القرى والارياف, انما تحدث في المدن الكبيرة ايضا. فجرائم الدفاع عن العرض هي جرائم لغوية. بسبب وجود كلمة، كان من المفروض، انها لم توجد . و تحميلها معنى، كان يجب الاّ تحمله.

او اعتبر كلمتي الحسد والشماتة, فانهما تبعثان في النفس أسوأ الاحساسات الروحية، وكنا نكون اطيب قلوبا لو اننا لم نتعلمها. بل هناك من الكلمات البذيئة التي نسمعها من صغار الباعة الجوالين ومن الحشاشين، مما يتصل بالشؤون الجنسية. ما يعين لنا سلوكا او اتجاها جنسيا خاطئا. لأن الكلمة هي ايحاء. مهما ظننت انك خلو من هذا الايحاء. فأنك تحسه من حيث لا تدري. اذ هو يتصل بعاطفتك. الكلمة فكرة. والفكرة احساس. وقد يحتد الاحساس, فيصير عاطفة, بل عاطفة جنونية.

اعتبر سيدة انيقة جميلة, تعني بهندامها ووجهها و قد اقتربت من سن الثامنة والاربعين, تحب الحياة، تهوى مباهجها، فرحة بعلاقاتها الاجتماعية العامة، ثم اصيبت بوكعة، فباشرت الطبيب, حيث قال لها : ان حالتها تعد طبيعية في مثل سنها, انها سن اليأس.

من منا يسمع هذه الكلمة ولا يضطرب ؟

الواقع ان جميع نسائنا يضطربن لهذه الكلمة. وقد يزيد الاضطراب بسبب الضرة اوالحماة او الخوف من الطلاق, فيصير جنونا. او على الاقل شذوذا، يلفت النظر ويحتاج الى علاج نفسي.

ولو اننا استبدلنا بكلمتي سن اليأس بسن الحكمة او سن النضج لكان لهذا المعنى الانساني توجيه آخر نحو الامل والنشاط. ولكان منه سبب لسعادة نسائنا بدلا من شقائهن.

واستطيع ان ازيد في امثلة الجنون او الشذوذ الذي ينشأ من الكلمات السيئة. وخاصة من تلك الكلمات التي تتصل بالعلاقات الجنسية. والتي تعين لنا اسماء ومعاني بذيئة لاعضاء الخلود البشري. لاننا حين نصف الاعضاء التناسلية بالنجاسة, او نسميها ( سوأة ) او ( عورة ) انما نصفُ التعارف الجنسي بأسوأ الصفات. ونجعل منه جريمة مستترة. ونحيل اشرف عاطفة بين الزوجين الى دنس وخسة وعيب. وعندئذ يصطبغ الاتصال الزوجي بكل هذه المعاني المرذولة. فهذه الاعضاء اي اعضاء الخلود البشري كما قلنا هي التي تخلق حياتنا وتحافظ على ديمومتها، فليس عجبا لو علمنا ان عضو الخلود عند المرأة لدى قوم في الهند يعتبر مقدسا يُعبد.

لا يخفى انه لكل شاب عزته وكرامتة واحساسه العاطفي بالرجولة. فاذا ما جُرحت هذه الكرامة بالعجز المفاجئ, فان العجز السيكولوجي كله يتغير. ويعود الشاب وهو يتسائل عن قيمة الحياة وعن مكانته الاجتماعية، ثم ينظر عندئذ بعين التوجس الى محيطه ومستقبله، وطالما لا توجد هناك علة جسمية لهذا العجز، فان مرجعه يكون حتما حالة نفسية معينة.

وكاتب السطور يذكًر القراء بمقال سابق، نشره في هذا السياق عنوانه :

(لماذا انتحر العريس ليلة الدخلة ؟) وهي حاله نادرة، بسبب ان الشاب قد تصدى الاقتران بعروسته ليلة الزفاف، وكون ان هذا الاقتران يشوبه عمل (دنس شنيع)

حسب معتقده، يتنافى وقيمه الاجتماعية الاخلاقية، يعتبر نفسه يقترف اثما عظيما، ونتيجة لهذا الشعور الخاطئ، الراسخ في اعماقه، يظهر عنده العجز الجنسي، ولانه شاب له عزته وكرامته واحساسه العاطفي بالرجولة ، فإذا جرحت هذه الكرامة بالعجز المفاجيء، والمترافق بالحالة السيكولوجية. يتسائل الشاب عن قيمة الحياة وعن مكانته الاجتماعية وهو مثقل بالخزي والعار الذي ينتظره، فيقدم على الانتحار.

يصف الباحث – الفريد هادون – في كتابه (قبائل المتوحشين في غينيا الجديدة).

حيث انهم يعدون ارتكاب جرائم القتل مقياسا لصفات الشرف والشهامة, وبهدف بلوغ هذه المراتب، يحتاج احدهم الى ان يصيد انسانا ويقطع راسه. وعلى قدر ما يعلق احدهم من رؤوس بشرية على باب كوخه، يكون نصيبه من هذه الصفات (الحميدة) اكبر.

هؤلاء المساكين ينشأون على هذه الممارسات، ويفكرون وفق الصور التي ترسمها لهم تقاليدهم الموروثة, فهم ينفعلون بهذه الالقاب، فيغتالون خصومهم او غيرهم كما يفعل الشاب الريفي عندنا في العراق المتحضر عندما يذكر كلمات الدم و الثأر والانتقام ويظن نفسه شهم وشريف.

وعلى قدر كلمات الفضائل في لغتنا, نكون فضلاء. وعلى قدر كلمات الرذائل في لغتنا، نكون ارذالا. وعلى قدر المنطق في كلماتنا, نكون منطقيين في سلوكنا, وعلى قدر الخيال في كلماتنا نكون مخبولين في سلوكنا. فالكلمات افكار. واننا لا نستطيع ان نفكر بلا كلمات. او ما يقوم مقامها من ايماءات باليد والعين او نحو ذلك.

هناك حقيقتان سيكولوجيتان . الاولى هي قوة الكلمة المتكررة في الايحاء. فاننا نستطيع ان نحدث ايحاء لشخص آخر. او لأنفسنا بكلمة مكررة تحمل معنى او توجيها. وهذا هو التنويم النفسي. الذي يحمل النائم على ان يسلك سلوكا معينا. فاذا تكررت كلمات الدم والثأر والانتقام، احدثت الايحاء ثم الاجرام. ومعظم سلوكنا, بل ربما كله يعود الى الكلمات التي تعودناها منذ الطفولة.

والحقيقة الثانية, ان الكلمة المنيرة, اي التي تنير العقل بالمنطق, او القلب بالبر والاحسان والشرف والمروءة, هذه الكلمة تمسح عن العقل النائم المضطرب غشاوة، ولذلك نحن نطلب من المريض ان يشرح بالكلمات تاريخ مرضه ونحاول تحليله. وكثيرا ما يشفى بمحض القوة المنيرة الانسانية التي في الكلمات التي يستعملها, لانه باستعمالها قد حدد مرضه, وعين اماراته واسبابه.

وكثيرا ما نلاحظ ان شيخوخة العقل تبدو مبكرة عند المسنين من الاميين. ولكنها تتأخر عند المثقفين والمتعلمين. وعلة ذلك تتضح مما شرحنا هنا. وهو ان الافكار كلمات, وما دام المسن يعرف الكلمات, فان عقله يحتشد بالافكار فلا يكون هناك مجال للخلط او الخوف او النسيان.

من هذا البحث الموجز نعرف ايضا ان اعظم ما تحتاج اليه امّة ما كي يرتقي مجتمعها وتنقص امراضها النفسية وجرائمها، وكي يسلك ابناؤها السلوك الاجتماعي الحسن, ان تعمل لترقية لغتها وتنقيتها, ووضع الكلمات الجديدة التي تزيد الاحساس بالفضائل.

وما اجمل ان نذكر للشعب ونكرر الذكر لكلمات الحرية والديمقراطية والمساواة والسلم والصداقة والاخاء والمحبة والمروءة والشرف والشهامة والثقافة وحق المرأة ونحو ذلك . انها كلمات يصح ان يكون كل منها برنامجا للسلوك الاجتماعي الحسن.

* مقتبس بتصرف من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للعلامة سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here