قيم الركاع من ديرة عفج

جواد وادي
ونحن نرصد ونراقب ما يدور تحت قبة البرلمان يحدونا الأمل على أن عهدا جديدا قد يهل على العراق، نفاجأ بفنتازيا الحراك الذي لا يخضع لأية معايير، لا أخلاقية ولا قانونية ولا دستورية ولا وطنية ولا أدنى إحساس لمشاعر آدمية لما دار من فوضى وغياب عن الضوابط البرلمانية المتعارف عليها، لينسحب كما عهدنا، ناعور التصادم الدوار مثلما حدث ويحدث في أماكن ومحطات مختلفة من عراق المتحاصصين والمستهترين بمقدرات الوطن والناس، ذات العينات ونفس الاحتراب والتكالب على الحظوة والامتيازات، وكأن التطاحن بين صبية يتعاركون على نيل اللعب بشكل طفولي وصبياني ولا من يمتلك رائحة شم قوية لدخان الحرائق المتصاعدة والمتسربة لأسّرة نومهم، والمصيبة أن كلا من هؤلاء يدّعي أنه السياسي الفطحل الذي أمسك بزمام الحلول لكافة كوارث العراق، وأن مفاتيح الخروج من الأزمات بيده دون غيره، وما من يوم يمر بل ولا ساعة، إلا وتطل علينا وجوه من مختلف المشارب والمكونات، بسحنات تنم عن الجهل والضحالة، لا نعرف كيف تمكنت من امتلاك الحق في تسييح التصريحات على عواهنها، والحق أنني شخصيا لا ائتمن أيا منهم على ابسط واتفه المهام ليقوموا بها، فكيف وهم يتبجحون بأنهم باتوا أصحاب قرار وناطقون سياسيون مدعين بانهم حملة شهادات عليا جلها مزورة والسنتهم أطول من ارجلهم، مما يسببون لنا القرف والاشمئزاز، حتى عدنا نستسخف السياسة أذا كانت مثل هذه العينات ناطقين بها ويمثلون تيارات وكتل وأحزاب تتشبث بسلطة القرار ومتربعة على سدة الحكم ومتسلطين على صياغة القرار العراقي الذي لم نتمكن أن نمسك خيوطه ولا أن نفكك ملابساته، نحن الذين قرأنا مئات الكتب وافنينا اعمارنا لأكثر من خمسة عقود في الاطلاع والبحث والتقصي وكذا المشاركة السياسية، لا كما ممارسة جهلة اليوم للسياسية التي تجنّوا عليها ومسخوها، بل سياسة التحليل والمتابعة والنفي وإيجاد البدائل ونحن منتمين لأحزاب عريقة، يتشرف الانسان ويفتخر أنه ينتسب اليها ويكون جزءا من حراكها النظري والفكري والنضالي، لتأريخها العريق المعمد بالتضحيات الوطنية المشهود لها، حتى تراكمت لدينا تجارب مكنتنا من تمييز الطالح من الصالح في عالم السياسة الذي هو بحد ذاته فن الممكن وقدرة تفكيك الأمور بعقلية دينامية تزن ما يدور من ملابسات وغموض يقاس بميزان النمل، وتحللها بعقلية العارف بدهاليز الأشياء وامتلاك حاسة شم، تمكّن حاملها تمييز مكمن الخطر واتخاذ التدابير قبل وقوعها.
هكذا نفهم السياسي الذي يمكن ان نتعامل معه وأن نأتمنه على مصائرنا ومصير البلاد التي ننتمي اليها، بمعايير ومواصفات صارمة، ليس لكل من هب ودب أن يدّعي أنه يحمل صفة سياسي، وهو لا يفقه الأشياء بأبسط تفاصيلها.
يقول المثل أن شر البلية ما يضحك، لهذا لا ضير أن نستنجد بتجارب من سبقونا في توصيف هكذا عينات سطحية ساذجة ومتطفلة على السياسة، لنذكرهم رغم عقلياتهم الهشة أن السياسة هي فلسفة تعد من ابرز العلوم الإنسانية وأشدها خطورة في تسيير أحوال البشر والمجتمعات وبناء الدول وتحقيق العدالة الاجتماعية والتفاني من اجل الوطن والناس والدفاع عن مصالحهم وتوفير الكرامة الإنسانية للأفراد والسعي لتوزيع عادل لخيرات البلد على كافة الناس دونما تفريق بين الجنس والدين والمذهب والقومية وغيرها من الفوارق التي اذا ما تحققت العدالة الاجتماعية يسود السلم الاجتماعي بين شتى شرائح ومكونات المجتمع، وقبل هذا وذاك عدم تغليب المصالح الشخصية والمنافع الضيقة على حساب الخير العميم لكافة افراد المجتمع، واهم واخطر ما ينبغي أن يقوم به السياسي المؤتمن على تطبيق الدستور، السعي لتأمين الأمن والسلام وبث روح الاطمئنان والسكينة لدى افراد المجتمع، لأن في عُرف السياسي المتكامل الوعي والتكوين والثقافة السياسية، السهر على تأمين حياة رغيدة للجميع، لان المنصب السياسي هو تكليف لا تشريف. ولنذكّر ساسة العراق في أيامنا العصيبة بعد التغيير، الى ما قادت اليه مغامرات طاغية العراق من كوارث وحروب وفتن وطغيان لا حدود له، ماذا كانت النتيجة، كل ذلك حدث بسبب غباء وضحالة وجهالة الطاغية ومن يحيط به، فارتهن مستقبل العراق والعراقيين بفواجع وويلات ستظل الأجيال القادمة تدفع ضريبة ما فعل المتخلفون البعثيون الى ما شاء الله، ونحن اليوم نعيش في سعير افعالهم الخسيسة.
فهل نجد مثل هذا التعريف متمثلا لدى ساسة العراق؟ أم أن البوصلة تتجه بشكل مغاير، بحيث انهم في واد والمجتمع في وادٍ آخر بعد أن شكلوا جيوشا من الفاسدين والمنتفعين والحرامية وسراق المال العام بخلق نظام محاصصي ميليشياوي يقتصر على منتسبيهم دون غيرهم من ملايين العراقيين المحرومين من أدني الحقوق وسبل العيش الآدمي؟

يعرّف القاموس السياسي المفهوم اللغوي للسياسة بأنها:
تعني الرئاسة والقيادة والسلطة والكياسة والذكاء والفطنة وسواها من توصيفات مهمة ينبغي أن تتوفر لدى السياسي الذي يستحق أن يحمل شرف أن يكون سياسيا بحق، طبعا نقصد هنا السياسي الوطني المتفاني النزيه الصادق المحب للخير الساعي لتقريب مكونات المجتمع لا لتفريقها، بنكران ذات ووضع انتماءه العرقي والديني والطائفي والاثني جانبا، وتغليب كرامة الانسان الذي ينبغي أن يكون هو الرأسمال الحقيقي للدولة الساعية لخدمة الناس قبل كل شيء.
نعود الى عنوان هذه المداخلة لنستذكر شاعرنا طيب الذكر الملا عبود الكرخي المتوفى عام 1946 وهو يتندر من ساسة الحكم الملكي آنذاك وتحديدا برلمانيي وساسة عهذاك، وكأننا نعيش ذات اللحظة لتلك الحقبة التي مر عليها وقت طويل، وكأن الزمن يعيد ذات الحالة المأساوية من تسيّب سياسي وجهل وسطحية وتغليب ما هو ذاتي وشخصي على ما هو وطني ونزيه وصادق الانتماء، لندع القارئ الكريم أن يربط حالات الأمس باليوم، لينتهي بحصيلة عرجنا عليها أعلاه، بأن السياسة فن ومعرفة وثقافة ودراية نبهة ببواطن الأمور ووطنية ونزاهة وفن حقيقي للوصول الى الأهداف النبيلة:
قيم الركاع من ديرة عفج
لازم انميز الزين من الزلم
وننتخب كلمن شهم صاحب علم
ونرفض اللي يجي كل يوم ابفلم
من يشوف المنصب اشوية اندرج
قيم الركاع من ديرة عفج
************
يا حكومتنا الرشيدة ام الوقار
الفساد المالي عنوان الج صار
ندري جابوكم ابدبابة وقطار
ليش ضليتوا سمج ياكل سمج
قبم الركاع من ديرة عفج
***********
أليس هذا ما يحصل في العراق اليوم؟ لنترك للقارئ فسحة المقارنة لما يجري منذ ذلك الوقت حتى أيامنا الراهنة، بذات المنوال وذات المعاناة. وبأسلوب ساخر ولكنه يدمي الجوارح.
نختتم هذا الهم القاتل بما يدور هذه الأيام في أروقة برلماننا الجديد الذي يعقد العراقيون عليه العزم ويبنون الآمال الجسام والمصيرية للخروج من المأزق الحياتي الخطير، وكأني بالمرحوم الكرخي ما زال يعيش بين ظهرانينا ويتذمر من ذات الحالات الكارثية.
وها هو الاستهتار الذي تمارسه القوى الفاسدة وسدنة نظام المحاصصة رافضة الأمر الواقع الذي قد يطيح بنواياهم الرثة لتكملة مسلسل الخراب للأسف الشديد لإقامة العراقيل من عدم إتمام انتخاب الرئاسات الثلاث للدولة بتسويف خطير وبتجاوز وقحة وتحد سافر للدستور، مراهنين على التمسك بالكراسي والحفاظ على الامتيازات الخسيسة، دون اعتبار لما يجري من غليان في عموم العراق، كفيل بأن يطيح بهم جميعا.
إن العراق يمر بمرحلة حرجة جدا يحتاج أصحاب القرار كل لحظة لتجاوز الفوضى التي تضرب بأطنابها مفاصل البلد، وليس بعيدا عنهم ولو أن مجستهم قد سدت، ما يحصل في البصرة الذبيحة من غليان متصاعد بلغ مديات قد تعجز الدولة السيطرة عليه، لتصلنا اخبار الانتفاضة الدامية في بصرتنا الحبيبة التي يذهب جراءها شباب بأعمار الزهور لا ذنب لهم سوى أنهم يطالبون بأبسط الحقوق التي يتبجح السياسيون بإمكانية تحقيقيها ولكن ليس على الواقع، بل بوعود تخديرية، في الوقت الذي تستهدف القوات الأمنية ومليشيات الأحزاب المنفلتة الأجساد العارية، الا من أصوات الاحتجاج الهادرة الرافضة لسياسة التدجين والتهميش والزيف الذي بات ديدن الأحزاب الحاكمة.
إن الأيام القادمة كفيلة بأن نشهد لحظات انهيارهم جميعا لنحتفل بسقوط الفاسدين والمخربين واعداء العراق والعراقيين كما احتفلنا بسقوط الصنم، لتتناسل من بعده أصنام وأصنام ستنال ذات المصير، وما ذلك اليوم ببعيد.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here