التدهور البيئي في العراق

إذا كانت البيئة في العالم تعد موضوعا أساسيا يستقطب اهتماما واسعا، فقد أصبحت تحدياتها وذيولها الآنية ملحة في العراق، كما يحدث اليوم في مدينة البصرة حيث أُصيب آلاف المواطنين بإصابات معوية نتيجة التلوث المائي بالنفايات الكيميائية والنفطية والبيولوجية.

وهناك العديد من المسببات التي تؤثر في سلامة الماء والهواء والتربة ولها انعكاسات مباشرة على صحة المواطن العراقي. وليس هذا أمراً خفياً، فقد أصدر العديد من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية واليونيسكو والمنظمة الدولية للغذاء، تقارير تسلّط الضوء على جوانب التدهور البيئي في العراق، وعلى أهمية وحيوية وضرورة أن تقوم الجهات الحكومية العراقية المسؤولة بالاستجابة لهذه التغيرات البيئية بشكل فاعل متناسق بين المؤسسات العراقية ذات العلاقة، وتوعية المواطن العراقي عبر برنامج توعية مجتمعية يبدأ من الأسرة والمدرسة في سياق نشاط مجتمعي واسع.

إن تحقيق مهمة الحفاظ على البيئة كي تكون آمنة وسليمة وخضراء وتتسع للجميع، هو حق من حقوق الإنسان في العراق، وتهمّ الجميع حكومةً وشعباً وحتى الأجيال القادمة.

أحد هذه التقارير الصادرة حديثاً دراسة بدعم من المؤسسة البريطانية الحكومية (DFID) وتتناول أهم الظواهر البيئية في العراق. وقد اعتمدت الدراسة على مصادر رصينة منشورة داخل العراق وخارجه وأيضا على شهادات من مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات مهتمة بالبيئة العراقية مثل جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة و«PAX» و«UNEP». وكانت هذه موضوع محاضرة ألقيتها في المركز الأنكلوعراقي في لندن في 25 أغسطس (آب) الماضي، والتي كانت ذات طابع تقييمي قدمتُ فيها إضافات لمعالجة النواقص التي تعاني منها الدراسة،

خصوصاً مع عدم وجود حلول ومعالجات لأنها ركزت على وصف مظاهر التدهور البيئي في العراق.
وتناولت الدراسة محاور مهمة هي: التغير المناخي، والجفاف، والموارد المائية، ومخاطر شح المياه، وإدارة الموارد المائية، والملوحة، والمياه الجوفية، وفقدان التنوع الأحيائي، وأهوار العراق، والتلوث البحري، والتلوث نتيجة النزاعات، والمواقع الملوثة والمواقع الخطرة في العراق، والتلوث نتيجة احتراق الآبار وتوسع القطاع النفطي، والأنقاض والنفايات، واستخدام الماء كسلاح. وسأستعرض المهم منها.

إذا بدأنا بالتغير المناخي وتأثيره على البيئة، نجد أن منطقة الشرق الأوسط هي أكثر منطقة في العالم تأثراً بالاحتباس الحراري، ما يؤدي إلى زيادة معدلات درجات الحرارة وانخفاض سقوط الأمطار وزيادة نسبة الجفاف والتصحر التي أثرت سلباً على الأمن البيئي والمائي والغذائي والاقتصادي. وأشار تقرير البنك الدولي في 2017 إلى أن العراق أكثر البلدان تأثراً بالتغير المناخي من بقية دول الشرق الأوسط، فمثلاً سجلت درجات الحرارة أرقاماً قياسية واعتُبرت الأعلى في العالم خصوصاً في البصرة والمثنى وذي قار. وقد شهد العراق موجتين كبيرتين من الجفاف في عامي (1998 – 1999) وفي (2007 – 2008) خصوصا في مناطق وسط وجنوب وغرب العراق.

وكان المحور الثاني يتعلق بشحّ المياه الذي وصل في العراق إلى حالة غير مسبوقة. مائيا يعتمد العراق بالدرجة الأولى على مياه الأمطار والمياه السطحية، أي نهري دجلة والفرات وروافدهما ونهر شط العرب والمياه الجوفية. وأدت سياسات دول الجوار في بناء مشاريع عملاقة من السدود لري مناطق زراعية واسعة ولتوليد الكهرباء التي كانت بشكل انفرادي من دون تنسيق وتعاون مع الدول المتشاطئة، إلى تقليص نسبة المياه التي تصل إلى العراق وأدت إلى انخفاض حاد في معدلات المياه في نهري دجلة والفرات وشط العرب وتصاعُد غير مسبوق في مستوى الملوحة في شط العرب.

هذا هو وضع العراق الحالي الذي كان في العهود السابقة جزءا من منطقة الهلال الخصيب وسلة غذاء العالم والآن يعاني من الجفاف والتصحر وتقلص الأراضي الزراعية الصالحة وعرضة للعواصف الترابية، وأصبحت البصرة والمحافظات الجنوبية تغلب عليها المناطق الجرداء بسبب موت النخيل وانعدام الغطاء النباتي في الأرض والتجريف الجائر للبساتين والنخيل. وضاعف المشكلة التلوث الكيميائي والجرثومي للمياه نتيجة رمي النفايات المنزلية والمخلفات الصناعية في الأنهار وعدم تصفية وتنقية المياه.

لقد كتب الكثير عن المعالجات الممكنة لهذه التحديات وعن إهمال الحكومات السابقة والحالية لتنظيف وصيانة القنوات والمبازل، وتحديث منظومة وطرق الري واستخدام طرق ري حديثة، ومراقبة ومحاسبة ظاهرة رمي النفايات والملوثات في الأنهار.

وكان المحور الثالث المرتبط بالثاني هو التدهور الكبير في التنوع الأحيائي نتيجة عدم وجود مياه كافية في الأهوار، والصيد الجائر وغير القانوني للحيوانات خصوصاً المهددة بالانقراض والطيور المهاجرة.
وكذلك إدخال أنواع من النباتات ذات الطبيعة العدائية التي تتكاثر وتغطي على المناطق التي تستوطن التنوع الأحيائي العراقي. وقد تقلصت مساحات الأهوار بشكل متسارع بسبب قلة المياه الواردة إليها.

وأعطى التقرير اهتماما خاصا لتأثير النزاعات المسلحة لجرائم عصابات «داعش» الإرهابية بشكل خاص وأيضاً نتيجة الجهد العسكري لاستعادة المناطق المحررة. لقد كانت البيئة العراقية الضحية الصامتة لعصابات «داعش» التي استهدفت آبار النفط والسدود واتبعت سياسة الأرض المحروقة وتخريب منظم للبيئة كحرق آبار النفط في القيارة ومصنع الكبريت في المشراق ومصفاة بيجي، وأيضاً إقامة مصافٍ نفطية بدائية، وتهريب النفط بشكل مستمر لغرض جلب موارد مالية لتمويل نشاطاتها الإرهابية. كما تركت أيضاً ملايين الأطنان من الأنقاض في المناطق المحررة.

أما على صعيد المعالجات والحلول التي اقترحتها فهي:
إيجاد جهاز إداري ومؤسساتي فاعل يجمع وينسق بين ذوي العلاقة بجهد منظم يهدف إلى تطبيق الاستراتيجيات مع تحديد واضح للموارد البشرية والمالية المطلوبة وتوفيرها، ويتماهى مع متطلبات التنمية المستدامة الخضراء، مثل مشاريع توفير الطاقة الشمسية وبناء محطات لإنتاج الطاقة الشمسية وتوليد الكهرباء واستخدامها في تحلية المياه وربطها بالشبكة الوطنية للكهرباء. وأيضاً تطوير مؤسسة لمراقبة التلوث، وإقرار سياسات للمعالجة الفعالة، منها منع التلوث البيولوجي والجرثومي والكيماوي كنفايات المعامل أو استخدام البنزين الذي يحتوي على الرصاص، والتقليل من انتشار المركبات العضوية والغبار نتيجة وسائط النقل والمولدات الكهربائية الأهلية والخلل في التعامل مع مياه الصرف الصحي وتنقية المياه ومنع النفايات بشكل عام والصحية منها بشكل خاص.

ومن المهمات الأخرى إجراء مسوحات وبفترات زمنية محددة للماء والهواء والتربة خصوصاً في المواقع التي توجد فيها آليات عسكرية، وتوفير الأجهزة الحديثة، ورسم سياقات لمعالجة مصادر التلوث الإشعاعي وتبعاتها الصحية على المواطن العراقي.

د. جيهان بابان

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here