الدور السياسي للمواكب الحسينية

لم تنسى المواكب الحسينية هموم الشعب العراقي، ولم تخنع للحاكم طيلة الدهر. وهذا العام كغيره لا بل اكثر نتوقع ان ترفع الحناجر الحسينية صوتها عالياً ضد الفساد والفاسدين، وضد المجربين الذين يجب ان لا يجربوا لأنهم استغلوا مناصبهم للإثراء الشخصي وتنكروا لابسط ما يحفظ كرامة المواطن العراقي في حصوله على الماء والكهرباء والرعاية الصحية.

وامنياتي ان يكون للمرجعية الموقرة موقف واضح وصوت ملزم ومسموع لتهذيب الممارسات الغير مناسبة والدخيلة كي يكون للمواكب الحسينية والمنبر الحسيني الدور الأيجابي في خلق مجتمع بناء تسوده المحبة والعدالة الأجتماعية بعيداً عن الطائفية والمحاصصة.

خلفية الموضوع:

هناك ثلاث مؤسسات او خطوط عمل رئيسة لمقومات فكر ونشاط وممارسة المسلمين الشيعة في العراق. وعلى الرغم من تداخل هذه المؤسسات مع بعضها البعض في النشاط او الدور المؤثر على تابعيها، إلا ان هناك مايمز بعضها عن بعض من ناحية العلوم الفقهية والأمكانات العلمية وصلاحيات الفتوى وطبيعة الممارسة وآفاقها:
•المرجعية والحوزة العلمية الدينية:

وهي اعلى سلطة تفسيرية وتشريعية وتوجيهية. وهم من اعلم العلماء في شوؤن الدين في تلك الحقبة والمكان. وعادة هم ممن يكونون مرجعاً للفتوى والتوجيه. هم الأساتذة في الحوزة العلمية وممن يركزون نشاطهم على البحث والتفسير وابداء الرأي في الأمور الحياتية المستجدة. وهذه المجموعة من الأفاضل يكونون عادة بمنئ من الأجتماع بالناس او الخطابة او السياسة ومهاتراتها. ويديرون مهامهم من مركز الحوزة او بيوتهم ومكاتب عملهم المتواضعة عادة. ويلتقون بالعامة مباشرة بأقتضاب او من خلال وكلائهم المنتشرين في ارجاء المعمورة. ويحصل المرجع على المال من جمع التبرعات واستئصال الخمس والزكات من اتباعهم ومقلديهم. وتدير وتمول الحوزة المدارس والجامعات الدينية وتنفق على مراكز المساعدات الأجتماعية التابعة لها.
•المنبر الحسيني وخطباء المنبر الحسيني:

يتكون المنبر الحسيني من عاملين اساسين هما الخطيب او القارئ وتوفر المكان الذي عادة يكون مسجد او حسينية واحياناً في بيوت من هم قائمين بهذا النشاط. والخطباء هم ليسوا علماء وانما هم مجموعة من القراء الذين يأمون المساجد والحسينيات ولديهم حد معين من التحصيل العلمي سواء في الحوزة او خارجها. وهناك منهم من لم ينتسب لأي مؤسسة دينية وانما اعتمد على الثقافة الذاتية والأهتمام الخاص بالدين. ولذلك ترى ان العديد منهم هم في الأصل اطباء اومهندسين او مدرسين. وللمنبر الحسيني تقاليده واسلوبه في شرح الآيات القرآنية وربطها في الأمور الحياتية المعاصرة، ثم توثيق ذلك بالسنة النبوية وسيرة الأئمة الأثني عشر والصحابة الأجلال (رض) مع خصوصية وذكر متواصل لواقعة الطف ومصاب الحسين وعائلته واصحابه(ع) في كل خطبة. وهم عادة ما يأمون صلاة الجماعة ويلقون خطبتهم بعد الصلاة. والخطيب المهني عادة يجلس على المنبر الحسيني اما الخطيب غير المهني وغير الخريج من المدارس الدينية فإنه يلقي كلمته واقفاً. ومعظم الخطباء المهنيين يرتدون الملابس التقليدية والعمامة السوداء ان كان سيدا والعمامة البيضاء ان لم يكن سيدا ويسمى بالشيخ٫بينما الخطيب الغير متفرغ يلبس الملابس المدنية (أفندي). وعادة ما يدفع راتب او مكافأة للقارئ المعمم، بينما القارئ الأفندي يكون عمله طوعياً. ينشط المنبر الحسيني في شهري محرم وصفر حيث تمر ذكرى واقعة كربلاء في العاشر من محرم واربعينيتها في العشربن من صفر.
•المواكب الحسينية:

وهي مؤسسات مجتمع مدني محلي في كل مدينة سواء كانت كبيرة ام صغيرة. يقود المواكب العريقة كبار واشراف القوم في كل محلة اوطرف ممن يوثق بهم وممن لديهم الأمكانات المالية لتمويل المواكب التي تكون مُكْلفة في المواسم. والقائمين بأدارة المواكب ليسوا بالضرورة لديهم امكانيات او ثقافة دينية، وانما لديهم حب آل البيت (رض) والرغبة الطوعية في احياء الشعائر الحسينية. والمواكب الحسينية نشاطها ليس دائمياً، وانما موسمياً وبالخصوص في شهر محرم الحرام حيث ذكرى واقعة الطف في اليوم العاشر وشهر صفر حيث تمر في العشرين منه ذكرى اربعينية استشهاد الحسين واهله واصحابه (رض) وشهر رمضان الكريم. واهم ما يحرك المواكب هو القارئ (اوالرادود) الذي يجب ان يمتاز بقدرة ألقائية وفصاحة لسان وامكانية على الأثارة والحماس. والرادود يختلف عن خطيب المنبر. فالرادود ليس بالضرورة مؤل دينيا وانما يمتاز بقدرة صوتية عالية ومعرفة بالمقامات التي تستخدم في القاء القصائد. والمكون الآخر المهم هو الشاعر الحسيني الذي ينضم قصائد من وحي تراث واقعة كربلاء والقدرة على تصويرها بشكلها المأساوي. وكذلك فإن معظم الشعراء الحسينيون ليسوا بالضرورة من خريجي الدراسات الدينية. وبالتالي ممكن ان يكونوا من الشعراء الذين يتنوع نشاطهم الأدبي. وكما ذكرت فإن المواكب بأنواعها وممارساتها اجتماعية تقليدية اكثر من كونها دينية. وبالتالي فإن هناك شعائر وممارسات لا تحسب على المذهب او الدين وقسم منها غير مقبول مثل التطبير وضرب الزنجيل والزحف وغير ذلك من الممارسات الدخيلة. ان قسم من هذه المواكب تتكون بشكل مؤقت و تستحدث لها مراكز تجمع مؤقتة وهو ما يسمى بـ التكيات. واحياناً يديرها شباب دون النضوج. ويمارسون الشعائر من خلال الأستفادة من بعض الأماكن او الأراضي الشاغرة او الخانات او البيوت او المحلات التجارية.

وموضوعنا هنا ليس التحدث عن المرجعية الموقرة وانما عن المنبر الحسيني والمواكب الحسينية ودورها في المجتمع العراقي. وجدير بالذكر هنا انه ليس بالضرورة ان كل اوقسم مما يقوله الخطيب او الرادود يمثل المرجعية الشيعية. لا بل في معظم الأحيان فإن الخطيب والرادود يندفعون بالتيار الحماسي ويخرجون عن الخط العام المعتدل الذي ترسمه المرجعية. وليس بعيداً عن ذهن الجميع من ان في كل طائفة مجموعة تبتعد عن الخط المعتدل العام وتضع كل المكون في موقف لا يحسد عليه. وهنا لا نريد ان نقيم هذه المراسيم وما لها وما عليها، وانما نريد ان نقيم دورها في الأحداث السياسية والهموم والآمال الوطنية التي مر بها الشعب العراقي في العصر الحديث من خلال ما شاهدته وسمعته وما شاركت به. ولعلي استطيع ان ابرز الدور الأيجابي الفعال لهذا النشاط الذي يزداد اتساعاً يوماً بعد آخر. ولكن علينا ان لا ننكر ان هناك الكثير من الممارسات التي لا تمثل مسيرة الحسين (ع)، لا بل تعطي انعكاساً سلبياً وحجج لمنطلقات طائفية.

الذكريات والمساهمات الاولى:

كانت بداية تعرفي على النشاط الحسيني هي ذهابي مع صديق العمر “حكمت الدقاق” الى حسينية المرحوم “عبد الرسول علي” في الكرادة الشرقية، وهو من اعيان بغداد ورئيس غرفة تجارتها المنتخب في حينه. بدأنا نذهب من العام 1955 ونحن اطفال نستمع الى الشيخ الوائلي في مجالس محرم ورمضان. وعلى الرغم من انه كان شاباً وفي بداياته، إلا ان طريقته ومنهجيته المعتدلة والمبتعدة عن الغلو والمبالغة قد اعجبت الكثير من الشيب والشباب. وعلى الرغم من صغرنا كنا نفهم ما يقول وكنا نواضب على الحضور كل يوم في مواسم محرم الحرام ورمضان. وكان منبر الشيخ الوائلي مدرسة دينية واخلاقية للشباب اكثر من كونها للشيوخ على مر السنين.

اما مساهمتي في نشاط المواكب والشعائر الحسينية فكانت في مدينة الكوفة، حيث يقطن كل اقربائي من جهة والدتي. وكان شباب العائلة في ذلك الوقت اعضاء نشطين في موكب محلة الجديدة ( وتلفظ الجيديدة). ومنهم ابناء خالات امي ناجي عبد الحسين و كان من اكثرهم نشاطاً وهو عضو في مجلس ادارة الموكب ومحمد جواد واخوته وهاب، وستار وسالم وغانم وكانوا جميعاً من الذين يعزفون البوق (البرزان) الذي يستخدم في مراسيم التطبير. كانوا جميعاً اكبر مني سناً عدا سالم وغانم، ولكني كنت احضى بأهتمامهم جميعاً بأعتباري “بغدادي” وضيف عليهم. كانت زيارتي للكوفة تحدث اثناء العطلة الصيفية حيث كان يصادف محرم آن ذاك اثنائها.
ابناء خالة امي الحاج عبد الوهاب واخيه غانم في الشارع الرئيسي (السكة) في الكوفة يعزفون البرزان لموكب التطبير نهاية الستينات
عام 1957 كان العام الذي سافرت به مع اقربائي من الكوفة الى كربلاء المقدسة للمشاركة في مراسيم زيارة الأربعين ضمن موكب الجديدة، وهو موكب لطمي وليس تطبيري. طبعاً كان يخيم على الردات الحسينية احداث العدوان الثلاثي على مصر اثر تأميم قناة السويس عام 1956. ولا زلت اتذكر ردات موكبنا السياسية ذات الصبغة الوطنية والقومية:

هاي الشباب تريد قايد به عز ومرجلة، يا هلا

إجنود كل إحنا إله، يا هلا

وبجمال إنمثله، يا هلا

حيدر، علي

اضغط على الرابط ادناه الى

موكب شباب طرف الجديدة في الكوفة

ولا بد من الذكر هنا ان العلاقة بين العراق ومصر لم تكن على مايرام. وكان هناك منافسة شرسة بين نوري السعيد وجمال عبد الناصر لزعامة الأمة العربية. وعلى الرغم من ذلك لم يتعرض الموكب لأية مضايقات من السلطات الأمنية السعيدية.

بعد ثورة تموز ١٩٥٨:

وفي صيف عام 1958 حدثت ثورة تموز بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم. ومن جملة اجراءات الثورة هي منع التطبير وتشجيع وحماية المواكب الحسينية اللطمية، بدلالة ان اذاعة بغداد كانت تنقل مباشرة قراءة المقتل من الصحن الحسيني الذي يقرأه المرحوم الشيخ عبد الزهرة الكعبي في صباح العاشر من محرم. ذهبت في ذلك العام ايضاً الى الكوفة، وكان ان اختارني موكب عزاء الجديدة لأمثل شبيه القاسم وعلي الأكبر. وكان هذا شرفاً كبيراً لا يحضى به كل شخص. وطبيعي البسوني الملابس الجميلة واركبوني الحصان وتقبلت النذور وشاركت كرمز في مقدمة موكب الجديدة وصولاً الى مسجد الكوفة حيث يتم قراءة القصائد الحسينية مع المشاركة اللطمية. وكانت معظم الردات اشادة في الزعيم والثورة:

أضغط على الرابط ادناه لتستمع الى

واقعة الطف بصوت الشيخ عبد الزهرة الكعبي

لم يستمر الوضع مسالماً، ففي نهاية عام 1958 وبداية عام 1959 ادى الخلاف بين الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيدعبد السلام عارف الى انقسام الشارع العراقي الى معسكرين رئيسيين. الغالبية مؤيد للزعيم ومؤيدة لموقفه في دعوته الى اتحاد فدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا). واقلية ذات اندفاع قومي مؤيد لعبد السلام عارف ودعوته الى الوحدة الفورية دون قيد او شرط او مفاوضات مع مصر وسوريا تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر. ليلة عاشوراء عام ١٩٥٩ كنت في النجف الأشرف وفي مدخل السوق الكبير اتذكر ردات احد المواكب وعلى الأغلب كان موكب “البراق” الذي كان ذو نزعة يسارية، وذلك لأرتباطه بالرادود عبد الرضا والشاعر الحسيني عبد الحسين ابو شبع. كانت الردة كما يلي:

اتحاد فيدرالي وصداقة سوفيتية

ولتحيا الصين الشعبية

حيدر، علي

1968/1963

ثم جاءت احداث عام 1963 وتم اعدام الزعيم وقادة ثورة تموز وقتل واعتقال الالاف من الوطنيين واليساريين وكان من بين المعتقليين العديد من شعراء القصائد الحسينية ورواديدها ومنهم الشاعر عبد الحسين ابو شبع واخيه شهيد ابو شبع وغيرهم كثيرون. وبالتالي كان موسم عام 1963 عام تكميم الأفواه وهو العام الوحيد الذي لم استطع المشاركة فيه من قريب اوبعيد. بعد احداث 18 تشرين الأول عام 1963 حيث سيطر عبد السلام عارف على السلطة وقام بحل الحرس اللاقومي الذي عاث في الأرض فساداً استطاع الشارع العراقي ان يعلن عن فرحته وفي نفس الوقت لعنته لتلك الأشهر التسع المقيته ورموزها ومنهم ميشيل عفلق القائد المؤسس لحزب البعث ومذيع مكروه ذو نفس لئيم هو فاروق ويسمى فاروق الأعور صاحب مقولة “اخرسي ياموسكو”. ففي زيارة الأربعين في عام 1964 نزل موكب طرف العباسية الكربلائي بهذه الردات:

فاروق الأعور سقط وسافر

وميشيل عفلق النذل شاجخيله خنجر

عام 1965 كان عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية وكانت طبيعة السلطة ذات توجه قومي وطائفي معادي للشيعة. وكان ان حدث انقلاب على أحمد بن بلا رئيس الجمهورية الجزائرية قام به رئيس اركان الجيش او وزير الدفاع هواري بومدين. وكانت زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، وهذه احدى الردات النارية:

يا الحبل جرار وين ابن بلا صار

حيدر، علي

وكان عبد السلام عارف قد منح نفسه رتبة مشير، وكانت الردات تحاكي رجال الأمن المنتشرين الذي يأخذون صور ويسجلون الردات الحسينية وكتابة التقارير عن الناشطين. ولم يذكر ان سلطة عبد السلام قامت بحملة اعتقالات على اثرها، علما ان معظم الشعارات لذلك العام كانت معادية للسلطة التي اعتبرت طائفية.

سجل يا أمن واخبر مُشيرك لو ثار الشعب شنهو مصيرك

حيدر، علي

ولم ينسى اهل السماوة الغيارى ضحايا قطار الموت في عام 1963 ويعلمون ان معتقلي نقرة السلمان الصحراوية الذين يمرون عبر مدينتهم قبل الوصول اليها، ما هم إلا مناضلين في سبيل الوطن. وذلك نزوا بهذه الردات في اربعينة الحسين في كربلاء عام 1965:

كم شاب نايم بالسجن ومن جرحه اليون

يانكرة السلمان للظلم عنوان

ليش طلع صاحبنا قاسي وغدار

من السماوة انصار

حيدر، علي

وللشيخ احمد الوائلي عميد المنبر الحسيني دور بارز في الدعوة لتهذيب ممارسة الشعائر الحسينية الغير مناسبة مثل التطبير وضرب الزناجيل وغيرها. وبما انه من اتباع منهج آل البيت والأمام علي (عليهم السلام) فإن دعوته للأصلاح والعدالة الأجتماعية ومحاربة التباين الطبقي والفروقات بين الأغنياء والفقراء، كانت جزءاً مهماً في رسالته من على منبره. وهذا جزء مما قاله في قصيدته الرائعة (بغداد) في عهد عبد السلام عارف في مهرجان الأدباء العرب عام 1965 :

بـغداد يـومك لا يزال كأمسه صورٌ على طرفي نقيض تجمع
يـطغى الـنعيم بجانب وبجانب يـطغى الـشقا فمرفّه ومضيع
في القصراغنية على شفةِ الهوى والـكوخ دمعٌ في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرّع وبـجنب زق ابي نؤاس صرّع
ويـد تـكبّل وهـي مما يُفتدى ويـدٌ تـقبّل وهـي مما يُقطع
وبـراءة بـيد الـطغاة مـهانة ودنـاءة بـيد الـمبرِّر تـصنع
ويـصان ذاك لأنـه من معشر ويـضام ذاك لأنّـه لا يـركع
كـبرت مـفارقة يـمثّل دورُه بـاسم الـعروبة والعروبةُ ارفع
فـتبيّني هذي المهازل واحذرى مـن مـثلها فوراء ذلك إصبع
شُـدّي وهزي الليل في جبروته وبـعهدتي انَّ الـكواكب تطلع

كذلك جابه الشيخ الوائلي الطائفية حينما رأى بداية غرسها ونشأتها في نفس العهد العارفي فكان منبره منبراً توحيدياً ارشادياً وهذه مقاطع من قصيدته رسالة الشعر:

ومـشت تـصنّفنا يـدٌ مـسمومةٌ مـتـسنّنٌ هــذا وذا مـتـشيّعُ
يـا قـاصدي قـتل الأُخوّة غِيلةً لـمّوا الـشباك فـطيرنا لا يُخدعُ
غـرس الإخاء كـتابنا ونـبيّنا فـامتدّ واشـتبكت عـليه الأذرعُ

أضغط على الرابط ادناه كي تستمع للـ

الشيخ الوائلي في رائعته “رسالة الشعر”

بعد عام ١٩٦٨:

وبعد عام 1968 حكم حزب البعث العراق بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين. وكانت سياسة سلطة البعث ان تسيطر وتسير كافة المنظمات الأجتماعية سواء منها الرياضية او الفنية او الأدبية. وقد نجحت بذلك بأستخدام اساليب الترهيب والترغيب. إلا انها واجهة صعوبة بالغة في سيطرتها على المواكب الحسينية، وخاصة مواكب النجف الأشرف العريقة وذلك لأنها مؤسسات شعبية يديرها اشراف الأحياء الرئيسة في النجف الأشرف وهي احياء (البراق، المشراق، الحويش والعمارة).

وحينما اندلعت حرب رمضان عام 1973 بين مصر واسرائيل تحولت الشعائر الحسينية في ذكرى جرح ووفاة الأمام علي (رض) الى شعائر وقصائد تبارك معركة التحرير وعبور قناة السويس وتدعوا الى مباركة مشاركة الجيش العراقي الذي دخل الحرب لأسناد الجيش السوري على استعجال. وفي ذلك العام كنت في السنة الأولى لدراسة ماجستير ادارة اعمال وكنت دائما مع الزميل والصديق محمد العزاوي وحينما ابلغته ان من عادتي ان اذهب لزيارة النجف كل عام بهذه المناسبة ابدى رغبته وكذلك والدته رحمة الله عليها بالذهاب معي ومع جدتي حيث كانت والدتي قد توفيت مؤخراً. وقد انبهر بقوة النزعة الوطنية والشعور القومي من خلال ما سمعه من قصائد، وكان منها قصيدة عبد الحسين ابو شبع التي القاها الرادود عبد الرضا مخاطبا فيها الأمام علي(رض)والتي لازلت اذكر بعض مقاطعها:

ولون ما غدر الضماير والأطماع

لن قضيت عليهم بيومه

والمقصود به حرب خيبر وكيف ان الأمام علي (رض) قاتل فرسان اليهود وصرعهم، بينما كان المنافقين من قريش يتآمرون على النبي (ص) مع اليهود الذين ارادوا اذلال المسلمين. ثم ختم الرادود عبد الرضا المجلس بالدعاء لنصرة مصر وسوريا والوطن العربي على اسرائيل.

انتفاضة خان النص 1977:

ولما لم تستطع سلطة البعث من السيطرة على المواكب الحسينية والشعراء الحسينيون، قررت الغاء او تقليص نشاط هذه المواكب. ففي بداية شباط عام 1977 استقدم محافظ النجف جاسم محمد الركابي رؤساء المواكب الرئيسة في النجف المذكورة سلفاً، وطلب منهم عدم اقامة شعائر المشي على الأقدام من النجف الأشرف الى كربلاء المقدسة في تلك السنة. وقال لهم انها اوامر من بغداد. حاول رؤساء المواكب افهامه من ان هذا النشاط غير سياسي وان الناس تنذر للعيشة او التخلص من مرض اوضائقة او تمني النجاح الى آخره، وبالتالي لا يستطيعون عدم الأيفاء بالنذر. إلا انه كان جازماً وحازماً ومهدداً. فقالوا له انهم لا يملكون سلطة كي يمنعوا الناس من المشي الى كربلاء. وفي يوم 4 شباط تجمع الناس من كل احياء مدينة النجف في صحن الأمام علي (ع) وقرروا الزحف الى كربلاء مرددين:

أهل النجف يا امجاد راياتكم رفعوها وإسلامنا ما ننساه أيسوا يابعثية

وخاض الزاحفون يوم 6 شباط معارك ومشادات مع السلطات الأمنية والحزبية لحين وصولهم الى خان الربع. وكانت احدى رداتهم تقول:

ياصدام كُل للبكر ذِكر حسين منعوفة

اضغط على الرابط ادناه

انتفاضة خان النص

اقواس معمارية في خان النص ساحة خان النص

وفي يوم 7 شباط ساروا الى خان النص بعد مصادمات دموية مع السلطة التي بدأت التخطيط لمواجة حاسمة امام مداخل مدينة كربلاء جهة النجف حيث اصطفت المدرعات والدبابات والهلكوبترات. وهذا ما حصل فعلاً يوم 8 شباط عام 1977 لتصل الى مواجهة دموية واعتقالات جماعية. هرب البعض من خلال البساتين ووصل البعض الى الضريحين. وكانت مجزرة اخرى ذكرتنا بمجزرة شباط عام 1963.

في يوم 24 شباط 1977 اذيع بيان اعدام تسعة اشخاص بضمنهم مراهق لم يبلغ الثامنة عشر وشيخ عمره فوق السن القانونية للأعدام. شكلت السلطة محكمة صورية يرأسها الدكتور عزت مصطفى الذي رفض التوقيع على القرار وعضوية الوزير فليح حسن الذي رفض توقيع القرار وعضوية الوزير حسن العامري الذي وقع القرار. وملفت للنظر ان العضوين اللذين رفضا التوقيع على قرار الأعدام هم من اهل السنة والوزير الذي وقع القرار كان حسن العامري من اهل الشيعة! ففي خلال عشرة ايام تم التحقيق والمحاكمة والحكم والأستأناف وتنفيذ الحكم. وقد تم عزل الدكتور عزت مصطفى وفليح حسن من كافة مناصبهم السياسية والحزبية والحكومية. ترك هذا الحدث شرخاً كبيراً وكان من الأحداث التي ساهمت في تأجيج الطائفية، حيث كان العديد من المعتقلين من المنتمين لحزب البعث إلا انهم آثروا المشاركة في الشعائر الحسينية التي تربوا عليها.

واليوم الذي يعتبر العديد من الناس مغالطة ان الحكم بيد الشيعة، نرى ان المواكب الحسينية وخاصة في الزيارات الأربعينية المليونية كانت اول من رفعت صوتها وهتفت عالياً منددةً بالفساد الذي استشرى والطائفية التي استفحلت. نعم الجمهور الحسيني لا يستطيع ان يستملكه احد ولا يستطيع المدعين من سياسيي الأحزاب الدينية ان يستخدموا هذه المواكب كما تم لهم ذلك في السنوات الأولى بعد سقوط الصنم عام 2003. وهذ هي البعض من الردات الحسينية التي رددها موكب عزاء جمهور طرف العباسية الكربلائي المعروف بنهجه الوطني ودفاعه عن الكادحين والمسحوقين والفقراء، مستمدين العزيمة والقوة من الذي ارخص دمه من اجل قضية المظلومين، الأمام الحسين بن علي (ع). وهذه بعض رداتهم عام 2013 في شهر محرم الحرام:

البرلماني وعنده راتب عالي تكول نص الشهر ما يبقالي

حقنه ضاع بين ايديك الله لا يرضى عليك

يابو الأحرار هذي اصواتنه

**************

أنتو تختلفون واحنه شحالنه والله ما عدكم رحم لأطفالنه

ليش يوميه انفجار قتل وبوضح النهار

ياابو الأحرار هذي اصواتنا

اضغط على الرابط ادناه كي تستمع لهتافات موكب العباسية

موكب عزاء طرف العباسية في كربلاء المقدسة

غزوة داعش صيف عام 2014:

ولا يفوتنا ان نذكر دور المرجعية الموقرة بعد سقوط محافظة نينوى وصلاح الدين بالكامل والجزء الأكبر من محافظة ديالى والأنبار تحت سيطرة تنظيم داعش في صيف عام 2014 حيث اصدر مكتب المرجع السيستاني في مدينة النجف بياناً أعلن فيه عن قلق المرجع السيستاني البالغ من التطورات الأخيرة في مدينة نينوى ودعا القيادات السياسية العراقية إلى توحيد كلمتها كما أعلن عن دعمه لأبناء القوات المسلحة العراقية في حربها ضد داعش.

وبعد فترة وجيزة جداً وفي يوم 13 حزيران تحديداً أفتى المرجع السيستاني بالجهاد الكفائي ودعا من لديهم القدرة على حمل السلاح إلى الانضمام إلى صفوف القوات العراقية المسلحة لمقاتلة داعش . وتشكلت على أثر هذه الفتوى قوات الحشد الشعبي التي تستمد معنوياتها وقدرتها عن الدفاع عن الوطن من تضحيات الأمام حسين (ع) التي تغذوا بها في مشاركتم في المواكب الحسينية ومراسيم عاشوراء والأربعين. ويرى كثير من المسؤولين والمحللين السياسيين في العالم بأن فتوى السيد السيستاني هي التي أنقذت العراق وأجهضت مخططات داعش بعد ان فشل السياسيون والقادة العسكريون المتخاذلون.

المرجعية وانتخابات عام 2018:

أثارت فتوى “المجرب لا يجرب” للمرجع الشيعي علي السيستاني، التي تحض الناخبين على اختيار مرشحين لم يسبق لهم تولي مناصب حكومية أو كانوا نوابًا في البرلمان، جدلا كبيرا في العراق، حيث يجتهد كل تيار في تأويلها لصالحه، قبل أيام قليلة من انطلاق الانتخابات العراقية المقرر لها 12 مايو المقبل. وقد رأى العديد من السياسين انه لابد من تبنيها، حتى ان الأحزاب العلمانية رأت في تلك المقولة شعار بناء يستحق التقدير والأستفادة منه. واني لمتأكد من ان المواكب الحسينية هذا العام سوف تستمد القوة من هذا الشعار الذي اطلقته المرجعية بوجه الفاسدين.

وهكذا توالت الأعوام ولم تنسى المواكب الحسينية هموم الشعب العراقي، ولم تخنع للحاكم طيلة الدهر. وهذا العام كغيره لا بل اكثر نتوقع ان ترفع الحناجر الحسينية عالياً صوتها ضد الفساد والفاسدين، وضد داعش والتكفريين، وضد الطائفيين من مدعي رعاية الشيعة والسنة وغير المنتمين.انه التجمع المليوني سيصيح كي يصم آذان الذين بأسم الدين عبثوا بالأرض فساداً بشكل اجرامي ومشين وحرموا المواطن العراقي من ابسط حقوقه في الحصول بيسر على الماء والكهرباء والخدمات الصحية والتعليم النافع.

وامنياتي ان يكون للمرجعية الموقرة موقف واضح من عدم استغلال هذه المناسبات المقدسة من قبل موظفي الدولة كي يمنحوا انفسهم اجازات مفتوحة ومدفوعة، وصوت ملزم ومسموع لتهذيب الممارسات الغير مناسبة والدخيلة كي يكون للمواكب الحسينية والمنبر الحسيني الدور الأيجابي في خلق مجتمع بناء تسوده المحبة والعدالة الأجتماعية بعيداً عن الطائفية والمحاصصة والمناطقية والنعرات القومية.

محمد حسين النجفي

mhalnajafi.org

اكتوبر 2016

جُددت في ايلول 2018

#الشعائر_الحسينية #العراق #المواكب_الحسينية #المنبر_الحسيني #كربلاء #الكوفة #الشيخ_احمد_الوائلي #حمزة_الصغير #خان_النص #محمد_حسين_النجفي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here